بقدر ماتتجلى العلاقة الثقافية الوثيقة بين الفنون في قصة جديدة أثارت اهتماما كبيرا في صحف ودوريات ثقافية شهيرة بالغرب فان هذه القصة التي صدرت بالانجليزية تكشف أن فنون الرقص ومن بينها الرقص الشعبي والشرقي ناهيك عن أن البالية يتحول أحيانا إلى مصدر ثري لإلهامات ثقافية وإبداعات للكلمة. وكانت الراقصات حاضرات في قصص وروايات للأديب النوبلي المصري الراحل نجيب محفوظ كما يتجلى مثلا في ثلاثيته الشهيرة فالراقصات أيضا حاضرات في قصة"وقت للتأرجح " للكاتبة والروائية البريطانية زادي سميث التي حظت باهتمام كبير في الصحافة الثقافية الغربية وهي قصتها الجديدة التي جاءت حافلة بالراقصات والحديث عن الرقص كفن . وزادي سميث التي ولدت في السابع والعشرين من أكتوبر عام 1975 بلندن لأب انجليزي وأم جامايكية شغوفة بالكتابة عن التنوع الثقافي والعرقي والتعدد الأثني وتعدد الأفكار والميول والنوازع الانسانية وهو مايتجلى مثلا في رواياتها التي صدرت بعناوين :" "أسنان بيضاء" و"رجل الأوتوجراف" وعن الجمال". والطريف أنها في بحثها عما يمكن ان يميزها عن غيرها فكرت في احتراف الرقص والموسيقى غير أن زورقها استقر على شطآن الكتابة الابداعية بعد دراستها للأدب الانجليزي في جامعة كامبريدج وبدا أنها لم تهجر تماما اهتمامها بفنون الرقص كما يتجلى في قصتها الجديدة التي صدرت عن دار "بنجوين" في 453 صفحة. ولم تحرم زادي سميث حتى الراوية المجهولة والغامضة في قصتها الجديدة من الرقص عندما كفت عن الكلام لترقص مع مجموعة راقصة من القرويات في جامبيا وهن نسوة قادرات على التقاط الايقاع دوما بينما ترى هذه القاصة الشهيرة في الغرب ان الرقص الكامن والذي يظهر بالغريزة قد يشكل نوعا من التوازن بين قيود ونواهي الواقع ونداءات الحرية الإبداعية. وزادي سميث التي كتبت أنها "تشعر بأن الرقص لديه مايقوله لها عما هو مطلوب ان تفعله" كانت في الواقع تستعيد نصيحة لراقصة شهيرة في الغرب ان لم يكن في العالم ككل وهي الراقصة ومصممة الرقصات الأمريكية مارثا جراهام التي قضت في الأول من أبريل عام 1991 ووصفت بأنها من رواد الرقص الحديث حتى أن تأثيرها على الرقص يقارن بتأثير بيكاسو في الفنون البصرية او تأثير ايجور سترافينسكي على الموسيقى. وإذا كانت مارثا جراهام قد كرست حياتها لفن الرقص فان تحويل هذا الفن لمصدر إبداعي للكتابة الروائية أو القصصية كما يتجلى في القصة الجديدة لزادي سميث قد يلهم مبدعين اخرين للكتابة عن هذا الفن كما حدث مع كلير ميسود التي لم تتوان عن تقديم رؤية نقدية عميقة لهذه القصة الجديدة وهي خامس قصص زادي سميث. والقاصة الأمريكية كلير ميسود التي ولدت عام 1966 واختارتها صحيفة نيويورك تايمز واحدة من أفضل 10 كتاب في عام 2006 تلفت إلى أن زادي سميث عالجت الرقص في قصتها الجديدة كفكرة وفن وجسر للصداقة وأحيانا كسبب للغيرة والتنافس بين الفتيات فيما تتبدى القدرة على المعالجة الثقافية العميقة في ربط كل ذلك بالهوية الثقافية ودوافع النجاح ونداءات الإبداع التي تتجسد في الواقع . وإبداعات الرقص الشعبي في واقع بلد كمصر تعبر عن التنوع الخلاق في إطار الهوية المصرية الجامعة كما يتبدى في رقصة السمسمية البورسعيدية الشهيرة ورقصة الحجالة في مرسى مطروح ورقص أهل النوبة في الجنوب كما تقدمه فرقة مثل فرقة "نوبا نور" التي تحرص على تقديم عروضها بمدن مصرية عديدة . واحتفلت "فرقة الرقص المعاصر" بدار الأوبرا المصرية مؤخرا بمرور ربع قرن على تأسيسها وهي فرقة أسهمت منذ ظهورها في عام 1992 بقيادة الفنان وليد عوني في تطوير فن الرقص بمصر وكان اسمها حينئذ "فرقة الرقص المسرحي الحديث" فيما يقودها حاليا الفنان مناضل عنتر الذي اوضح ان الاحتفالات ستستمر طوال هذا العام. والرقص الشعبي حاضر في أغلب الاحتفاليات الثقافية والفنية كما كان الحال مؤخرا في حفل افتتاح الدورة الأولى لمهرجان أسوان لأفلام المرأة ، حيث تجلت أصالة هذا الفن في عروض قدمتها فرق أسوان وتوشكي والمنوفية للفنون الشعبية. وكانت منظمة التربية والعلوم والثقافة التابعة للأمم المتحدة "اليونسكو" قد سجلت في مستهل العام الحالي رقصة التحطيب او الرقص بالعصا كمنتج فكري مصري أصيل وهو فن يضرب بجذوره في عمق الحضارة المصرية القديمة وموثق على جدران معابد كمعبد الكرنك في الأقصر. ومنذ أن كتب المفكر والناقد الأمريكي والفلسطيني الأصل ادوارد سعيد عن واحدة من أشهر الراقصات في التاريخ المعاصر للرقص الشرقي وهي الراحلة تحية كاريوكا في مطلع تسعينيات القرن العشرين بدا أن تحية كاريوكا اكتسبت مزيدا من المجد بقلم هذا المفكر الكبير كما باتت موضوعا مفضلا لكتاب ومثقفين عرب. وكان الراحل ادوارد سعيد صاحب الكتاب الشهير "الاستشراق" قد سعى للقاء الفنانة تحية كاريوكا وجها لوجه في زياراته للقاهرة وزارها بالفعل ببيتها في سنواتها الأخيرة ووصفها بأنها "أروع راقصة شرقية على الاطلاق" فيما لم يجد الأديب الراحل امين يوسف غراب افضل من تحية كاريوكا لتحويل روايته "شباب امرأة" إلى فيلم سينمائي. ورأى ادوارد سعيد ان الفنانة تحية كاريوكا كانت تقف في قلب النهضة المصرية في القرن العشرين إلى جوار كتاب وفنانين كنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وام كلثوم ومحمد عبد الوهاب ونجيب الريحاني . ولاريب ان ماكتبه الروائي الكولومبي الراحل جابرييل ماركيز عن مواطنته الفنانة الشهيرة في عالم الأغنية الراقصة شاكيرا واللبنانية الأصل قد آثار دهشة البعض ممن لايجدون اصرة بين الكتابة والرقص كما لاحظ الكاتب خيري منصور كما ان ماكتبه هذا الأديب النوبلي قد اثار شهية مثقفين لمشاهدة شاكيرا وسماع صوتها مادامت قد اجتذبت واحدا من سادة الكتاب في العالم. ويعترف خيري منصور بأنه كان واحدا من هؤلاء قائلا :"قبلت بالغواية كما نسجها ماركيز وشاهدت خلال ليلة واحدة حزمة اشرطة تضم اغنيات راقصة وبرية لهذه المطربة اللبنانية الأصل لكن اللاتينية المذاق والجنون". وفي كتابه "ثنائية الحياة والكتابة" يتساءل خيري منصور :"ماالذي استوقف ماركيز في شاكيرا"؟ ليحاول الإجابة على هذا السؤال بقوله إن أول مايتبادر الى الذهن هو انها كولومبية وهو كولومبي ايضا لكن مايحرك الهواجس لدى امثال ماركيز شيئا آخر غير هذا ، فهي نموذج لجسد بري يثب في الريح كقطيع أرانب وحشية تستوقف كاتبا ذا مزاج حاد. ويضيف خيري منصور أن الفارق بين ماكتبه ادوارد سعيد مثلا عن الرقص الشرقي من خلال أشهر نماذجه التقليدية تحية كاريوكا وماكتبه ماركيز عن شاكيرا هو أن ماركيز وجد نفسه منجذبا بقوة إلى مايحف بهذه المرأة من مجال مغناطيسي فيما يصفها بأنها "توقظ في المشاهد والمستمع فضولا ماكان له أن يستيقظ لولا مرونتها وخفتها". ويرى الكاتب الأردني أن الرقص بحاجة إلى إعادة اعتبار منذ تحوله إلى حرفة ليلية لاصلة لها بالتعبير عن الذات وكوامنها فيما يتحدث مجددا عن شاكيرا التي يصفها "بالتفاحة المشوية ذات الجذر اللبناني" ويرسم صورة لها قائلا :"فهي "تدور حول نفسها كالنافورة او ترسم برشاقة عدة دوائر تتخارج محيطاتها او تتداخل إنما تطلق امكانات الرقص الشرقي الذي عهدناه بحيث لايصبح مجرد حركات متكررة ورتيبة" . فامتياز شاكيرا في نظره يكمن في قدرتها على قطع المتواليات الحركية بحيث يتسارع ايقاع الراقصة حتى توشك ان تجترح لها مدارا خارج الجسد ذاته. واذ تستدعي القصة الجديدة لزادي سميث مشاهد راقصة لفنانة شهيرة في العالم مثل مادونا كما يمكن للقاريء ان يشعر احيانا برائحة الكاتب الروسي العظيم دوستويفسكي فراقص الباليه الروسي فارلاف تجنستي ظفر بما لم يظفر به روائيون وشعراء من بلاده عندما وجد من يقرأ ماكتبه بالقدمين في رقصات يتولى فيها الجسد التعبير عن فلسفة لاتحملها اللغة ولاتقوى عليها الكلمات على حد قول خيري منصور في كتابه "ثنائية الحياة والكتابة". وهناك ايضا رقصة الخيول التي تناولها خيري منصور بقوله :لم يخطر ببالنا ذات يوم أن الفرس أو الحصان اذ يرقصان يكونان في ذروة الألم لأن تدريبهما على الرقص يقترن بوضع جمر لاسع في الرمل أو التراب ويبقى السر ساحرا إذا عرفنا ان الحيوان يستعين على احتمال الألم بالموسيقى فهو يضبط خطواته المتألمة على الصوت المموسق. ويتذكر الكاتب ماسمعه ذات يوم من أن العازف الهندي الذي يرقص الكوبرا بمزماره ليس كما يبدو لنا في المشهد المألوف فالأفعى صماء ولاتسمع لكنها عبر حركتها البندولية تحاول اتخاذ الوضع المناسب للدغ المزمار وأصابع العازف !. ولعل خيري منصور قد تحامل على شاكيرا عندما عمد للتأويل وقال أحسست وانا اشاهد عدة أغنيات راقصة لشاكيرا أنها تحاول اتخاذ الوضع المناسب للدغ رغم انها ليست صماء وليست كوبرا" !..ولعله رغم ذلك يسلم ضمنا بمدى سحرها عندما قال في سياق تناوله لاعجاب الكاتب النوبلي الراحل جابرييل ماركيز بشاكيرا :"تفاحة مشوية اذن سال منها السلاف وتركز السكر بحيث أصبح شاقا على المذاق وجارحا للسان, لعل هذا مااحس به الكولومبي العجوز" !. وعلى اي حال لم يكن الكاتب خيري منصور وحده من سعى للمقارنة والربط بين الأفعى والراقصة فالمستشرقة البريطانية وندي بونا فنتورا سبق وان اصدرت كتابا ترجم للعربية بعنوان "افعى النيل" يتناول عالم الرقص الشرقي ومنافسة الراقصات الأجنبيات للراقصات المصريات في عقر دارهن اما التشبيه بالأفعى فجاء من باب الحديث عن الرشاقة المتناهية للراقصة. اما الطريف حقا فهو ان المستشرقة بونافنتورا تمارس الرقص إلى جانب اهتماماتها الثقافية وكتاباتها في الاستشراق !..كأنها تعزف ألحان الكلمة والجسد معا وتتحول بقدميها وذراعيها لفراشة تتبع هوى الابداع او تتراكض كمهرة في ابداع الهوى !.