الرواية تنتصر لأبناء النوبة المهجرين كلنا مهمشون طالما لا نملك قدرة تحديد المصير صلحب الرواية ينفي عن البطل السذاجة ويصفه "بالطيبة" ماذا لو تعرض انسان لصراعات تفوق قدراته، وعاش حيوات تتخطى طموحاته؟ رحلة ملحمية يسافر فيها البطل وحيدًا، تعكس ما حوله من هزات المجتمع المصري منذ مشارف الأربعينات، من أطراف جنوب الوادي إلى نادي الجزيرة بقلب القاهرة ومن حي الزمالك العريق إلى حواري عابدين العتيقة، ثم محطات متلاحقة بالاسكندريةوسويسراوأسوان، مسافر وحيد عبر تغيرات سريعة الإيقاع ببساطة لا يدركها حتى هو، لتصبح قصته "عجيبة" بالفعل. هكذا اختار الروائي أشرف العشماوي أرض النوبة ليسطر روايته "تذكرة وحيدة للقاهرة" الصادرة مؤخراً عن الدار المصرية اللبنانية، رواية غير عادية عن إنسان عادي يمثل القطاع الأكبر من المجتمع المصري، حتى وإن كان من فئة مهمشة، فالرسالة واضحة، كلنا مهمشون طالما لا نملك سلطة تحديد المصير. يسافرالبطل من الجنوب وحيدًا لتدور أحداث الرواية في قلب القاهرة بنادي الجزيرة فترة الأربعينات والخمسينيات ومنها لحي عابدين القديم، يصور لنا المجتمع المصري وتحولاته الفارقة قبل وبعد ثورة يوليو 1952 فى رحلة بحث عن الهوية، ومن حي الزمالك إلى الاسكندرية فى منتصف الستينيات مرورا بنكسة 67 الشهيرة ثم مدينة جنيف السويسرية أوائل السبعينيات حتى مطلع الثمانينات. "دهب" العجيب! "غنى عبدالحليم للسد، لكنه نسى أن يُغنى لمن هم خلفه"، آثر العشماوي ألا ينسى من وراء السد، فكتب عن الغلابة، النوبيين الذين هُجّروا لكنهم لم يهاجروا، ظلوا مشدودين بحبال الوجد والشجن وأوتار الذكريات وأمانى العودة وأحلام الرجوع. قرّر أن يقطع تذكرة لعجيبة النوبى، من جنوب الجنوب يأتى أسمر البشرة مطروداً من النوبة بالتهجير القسرى يتيم الأب المقتول غرقاً، لتبدأ تفاصيل القصة، تجوب أماكن كثيرة . تحكي الرواية عن واحد من أهل النوبة الطيبين اسمه "دهب" .. إضطر للسفر إلى أسوان لإستكمال تعليمه بعد غرق مدرسته .. ليحصل على شهادة البكالوريا .. لتبدأ رحلته للبحث عن لقمة العيش في القاهرة على أمل أن يجد وظيفة تناسب شهادته .. ومن بعدها تتوالى أحداث كثيرة .. يعود بلده ليتزوج من إبنة عمه و رفيقة صباه " مسكة" .. دائما ما كان يعود للقاهرة لعمله ولا ينسى أبدا زوجته .. حتى بدأت عمليات التهجير للنوبين عن أرضهم. يقول "دهب": "اعتدت أن أردد اسمي ناقصاً، يبدو أنني أيضاً لم أعد أتذكر أوله, وربما أكون قد أسقطته متعمداً من ذاكرتي مثلما فعل معي الجميع بعد موت أبي". حكايات القاهرة البطل ابن السائق "عجيبة سر الختم" الذى أسقط سيارة الإنجليزي "ويليم ويلكوكس" فى النيل، احتجاجا على الكوارث التى سوف تحدث لأبناء وطنه "النوبة"، هو والد الصغير "دهب" الذى سوف يكون النقيض البارز ل "بدر" ابن "شفيق باشا المغازى" الوزير الذى خضع لطلب "ويلكوكس" باشا فى تعلية خزان أسوان. وهى التعلية التى كان السائق "عجيبة" يعرف ما سوف يترتب عليها من مآس وكوارث للنوبيين. يذهب "دهب" إلى القاهرة مثلما يفعل العشرات من أبناء النوبة، لكن المصادفة وحدها تقوده إلى العمل فى نادى الجزيرة، ومن ثم التعرف على ابن الباشا الذى يعثر على موظف مرتش فيتخذه وسيلة لتزوير عدد من الأوراق التى يسترد بها بعض أملاك أبيه التى صادرتها ثورة يوليو 1952، فيما صادرت من أراضى الإقطاع القديم. انسحاق وتيه يعمل "دهب" أو "عجيبة" حيث أصبح يحمل لقب أبيه عند كودية فى السيدة زينب ثم انتقاله ليعمل إسكافيا، حيث يقع فى صدام مع أولاد جزار كبير يقطعون أصابعه. هاجرإلى الإسكندرية بعد أن أخرج له "بدر المغازى" بطاقة هوية مزورة باسم "فارس حبيب حبشى" الرجل السودانى المسيحى الذى اشترى والده بعض أملاك "شفيق باشا المغازى" قبل ثورة يوليو 1952. وهى الحيلة التى دبرها ابنه "بدر" لاسترداد بعض أملاك أبيه بواسطة الأستاذ "أشمونى" كبير موظفى إدارة الأملاك المصادرة. تدور الأحداث وينتقل "عجيبة"من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى سويسرا، حيث يقع مرة أخرى فى براثن "بدر" الذى يستخرج له جواز سفر جديد باسم "ليون برنار" صاحب شركة صرافة وتحويلات مالية ليستغله في صفقات غسيل أموال. مصائب عجيبة! طوال رحلته .. يقابل أشخاص من عوالم مختلفة غريبة عنه ليجد نفسه يصارع حياة لا يعرفها .. ليتورط في الكثير من المصائب و المشكلات و يبقى هو الضحية الوحيدة لجرائم غيره ، مع وعود كثيرة لأن يعود إلى أرضه و زوجته و إبنه .. يضطر من جديد أن يسافر إلى أوروبا للبحث عنهما ، ليتورط من جديد في مصائب عديدة .. ليجد نفسه في النهاية عائدا إلى بلده من جديد. من مفارقات الرواية الساخرة؛ بينما يقبض على عجيبة في النوبة ويتم عذيبه، يبث الراديو خطاب الرئيس جمال عبد الناصرالذي جاءت كلماته كما تصفها الرواية مسكرة منمقة وهو يؤكد على أن خيرات السد العالي ستعم على الجنوب مثل الشمال، فيبتسم عجيبة وهو يتمتم: "فعلاً والخير غرّقنا يا ريس!". علا صوت الرئيس هاتفاً في الجماهير: "لن تحرموا من الخيرات، بنينا السد لأجلكم وستختفي شكواكم من الانعزال..أفراد العائلة الواحدة يشكون أن عائلها بالشمال وكلهم يقيمون بالجنوب، أيها الأخوة المواطنون كنتم منعزلين وحان وقت لم الشمل!". ليعلق عجيبة قائلاً: والله العظيم الكلام ده ما صحيح، وكانوا رافضين يسلموني البي والجاموسة العُشر لأني مغترب". ويكشف مشهد التهجير عن بشاعة لنذرف جميعا الدموع ونحن نقرأ، فقد سلبوا من النوبيين المواشي التي أعطتها لهم الحكومة بحجة أنها موبوءة، ولحظة مفارقة الأرض كانت صعبة، تصفها الرواية قائلة: شاخت القلوب في ساعات قليلة بدوا طيوراً مذبوحة تنزف ألماً، سقط العشرات منهم في مكانهم، نام آخرون إلى جوار بعضهم، متراصين موليين وجوههم شطر النيل، بدوا كقرابين للنهر العظيم الذي عاشوا على ضفافه وهاموا به عشقاً، حى دفنوا في قاعه!. وتحكي الرواية عن "مسكة" زوجة "عجيبة" التي رفضت مغادرة الأرض رغم معرفتها بغرقها، وصفت الرواية المشهد: رحلوا جميعاً إلا امرأة واحدة رفضت..أبت بكبرياء وصممت على عنادها، اعتلت الجبل وهدد بقتل وليدها الصغير لو أجبروها على الرحيل، فتركوها وحيدة لتموت ببطء!. حياة عصيبة! تكشف الأحداث عن عجيبة النوبي الذي امتهن مهن عديدة، تارة إسكافي يصلح الأحذية القديمة، وتارة أخرى مساعد كودية في حفلات زار وجلسات لتحضير الجان، وتارة ثالثة يفقد هويته تمامًا ويتحول إلى شخص سوداني بهوية مزورة ليساعد إقطاعي قديم على استرداد أرضه التي صادرتها الحكومة بعد الثورة، ليصير من الأعيان ويتمرس على مراهنات الخيول بنادي الجزيرة، ليصادف في محطات رحلته شخوصًا غريبة وأنماطًا مختلفة من المجتمع، حتى يفيق من سكرته فجأة ويتورط في قضية، فيضطر للهروب إلى الاسكندرية ليعمل حوذي على عربة حنطور قديمة، حتى يلتقي بسيدة يهودية فيلتحق بخدمتها ومنها يطير إلى سويسرا بمساعدتها لتتغير هويته للمرة الثالثة. يخدعه "بدر" فيغريه بالعمل معه، ولا يتردد فى أن يتهمه بسرقة بعض مقتنيات بيته، فيأتى "دهب" من النوبة مقيدا بالأغلال ومعذبا مهانا، ومع ذلك يقبل العمل مرة أخرى مع ابن الباشا الذى لا يكف عن خداعه. ويواصل بدر الغواية ويقنع «عجيبة» بأنه سوف يبنى عمارة جديدة واعدا إياه بالمشاركة فيها، ولكنه يتركه فى القاهرة لمصيره ويفر هاربا إلى سويسرا. ومع ذلك كله لا يتعظ "عجيبة"، فيذهب إلى سويسرا ليقع مرة أخيرة فى الشرك نفسه، ويسمح ل "بدر" الذى أصبح اسمه "بدرو" بأن يغير هويته للمرة الثالثة ويستخرج له جواز سفر باسم "ليون برنار"، بل ويتزوج من امرأة سويسرية عجوز أكبر من أمه التى فقدها. كوارث تحل بالبطل النوبي وهو لا ينسى سعيه وراء زوجته وابنه، ينقل لنا الراوي أدق تفاصيل الحياة بالمجتمع السويسري، ويدخل البطل في عالم تهريب النقد المزور إلى شرق أوروبا وتتلقفه منظمات المجتمع المدني التي تساعد الأقليات على العودة لموطنها الأصلي، فلا يدري دومًا أين تكون محطته الأخيرة، ويحاول دائمًا العودة ليكتشف أن القدر يقوده دائمًا نحو الاتجاه العكسي فيبتعد أكثر. وتختتم الرواية بهذا المشهد: نرى "عجيبة" مندفعا إلى غريمه حاملا فى جيبه الأيمن أسفل سترته خنجر السير "ويليم ويلكوكس"، مبتسما ل "بدر" ابتسامة صفراء جائعة، مختصرا السنتيمترات الأخيرة فى خطوة واحدة كبيرة واسعة، كانت بلا شك خطوة فارقة فى حياته كلها، وربما فى حياة "بدر" أيضا. رحلة إنسانية الرواية تحكي عن حكايات خلف الخزان القديم بأسوان ولحظة إلقاء كتل السد العالي بنهر النيل منتصف الستينات ، لحظات فارقة بالنوبة وقت التهجير تذرف معها الدمع. وعن ذلك يقول صاحب الرواية: عشت مع النوبيين وتأثرت بهم كثيراً فكتبت عنهم هذه الرواية، حيث التقيت بمئات النوبيين منذ عامين ، كما عشت بينهم لمدة أسبوعين في النوبة القديمة ومحافظة أسوان وأعتقد أنني من فرط تأثري بهم كتبت عنهم روايتي . ويضيف في أحد الحوارات: معظم أحداث روايتي من نسج خيالي ولا مراجع اعتمدت عليها في كتابتها، انما استفدت من قراءتي للكثير عن النوبة وتهجير أهلها، واعتمدت على حكايات نوبيين، وأرشيف "الأهرام"، و"نادي الجزيرة"، والنص والفكرة ساعداني. فأنا أقدم في هذه الرواية تاريخاً من خلال رحلة انسانية لا تحتاج إلى مراجع. ويصف العشماوي بطله فيقول: البطل ليس ساذجا، لكنه طيب ومتسامح وقليل الحيلة، فالظروف جعلته كذلك والكل قد تحالفوا ضده؛ فقصة بطل "تذكرة وحيدة للقاهرة" هي مأساة مثل مأساة النوبة الممتدة على مدار قرن، ومن غير المنطقي أن يكون البطل غير ذلك. وعن المشهد التي تحفل به الرواية وتحمل نقداً لعهد عبدالناصر يقول العشماوي: عبد الناصر بدأ دراسات السد العالي عام 1957 لكن الإعداد للتهجير بدأ في 1963!، لم يتم دراسة تهجير عائلات من موطنها الأصلي؛ اهتموا بالحجر علي حساب البشر، هؤلاء عانوا وماتوا من أجل نقطة ماء نشربها في بيوتنا بالقاهرة وسط أولادنا وهم يغرقون ويموت أطفالهم أمام أعينهم. بالمناسبة؛ توجد مقبرة لأطفال النوبة الذين غرقوا يمكن زيارتها للتعرف على حجم المأساة التي صاحبت تهجيرا غير مدروس، فأنا لست ضد السد ولست ضد تهجير للمنفعة العامة، لكن بترتيب وتمهيد وإعداد وهو ما لم يحدث للأسف.