هل يمكن أن أضع رواية أشرف العشماوى «تذكرة وحيدة للقاهرة» فى باب الروايات الرائجة الBest Seller؟. يبدو أنه قبل أن أجيب عن هذا السؤال لابد من توضيح ما قد يلتبس عند البعض لدى سماع مصطلح «رواية رائجة «Best Seller. فالرواية الرائجة ليست رواية رديئة بالضرورة، وإنما هى رواية واسعة الانتشار، وتجذب إليها أعدادا كبيرة من القراء، ومثال ذلك رواية «شفرة دافنشى» للكاتب الأمريكى دان براون التى وزعت منها ملايين النسخ. وهى رواية لا يمكن أن أعدها رواية رديئة بأى حال من الأحوال، ولكنى لا يمكن أن أضعها بالقطع فى موازاة رواية «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو، التى زاد من سعة انتشارها وكثرة ترجماتها ظهورها فى فيلم بديع من إخراج الفرنسى چان چاك آنو وبطولة الممثل العالمى شون كونرى. والمؤكد أن عددامن الروايات المتميزة فنيا قد أصبحت روايات رائجة من حيث أرقام التوزيع وسعة الانتشار بين القراء. والأمر نفسه ينطبق على الروايات الرائجة حيث أخذت ظاهرة «الرواية الرائجة» فى الانتشار والظهور، وأصبحت هناك روايات رائجة بالفعل، مثل روايات علاء الأسوانى الذى كان لروايته المتميزة «عمارة يعقوبيان» دوى لم يحدث من قبل فى تاريخ الرواية العربية المعاصرة، فقد جذبت هذه الرواية إليها آلافا من القراء وأغوت قطاعات جديدة من الشباب لكى يقرأها فى ظاهرة جديدة، وربما كان مرجع ذلك إلى أنها تحتوى على بعض العناصر الفنية التى تقارب بينها وغيرها من الروايات الرائجة التى أصبحت لها مكانة راسخة من التميز الجمالى مثل روايات نجيب محفوظ. هذه المقارنة بين روايات علاء الأسوانى ونجيب محفوظ ليست مقارنة منصفة لنجيب محفوظ بالقطع ولا ترفع من شأن روايات علاء الأسوانى إلى أفق روايات نجيب محفوظ، ولكنها على الأقل تكشف عن أن بعض الروايات الرائجة يمكن أن تبلغ درجة عالية من الجودة فى صنعها، وذلك إلى درجة تقارب بينها وبين روائع الروايات من حيث الظاهر على الأقل. وظنى أن رواية أشرف العشماوى «تذكرة وحيدة للقاهرة» تنتمى إلى هذا النوع من الروايات الرائجة، فهى رواية تسعى إلى فئات بعينها من القراء الشباب، وتحرص على توسيع دوائر قراءتها، مستخدمة فى ذلك تقنيات الرواية الرائجة التى هى سر جاذبيتها. وأعتقد أن التقنية الأولى للرواية الرائجة التى نراها فى رواية أشرف العشماوى هى التشويق، فالرواية تنبنى على درجة عالية من التشويق عندما تستعين على نحو غير مباشر بآليات الحكى التى تدفع القارئ إلى التساؤل عن ماذا يحدث بعد؟ وهو تساؤل لا يصل هذا القارئ إلى الإجابة عنه إلا مع نهاية الرواية. وهى نهاية لافتة للانتباه حقا، وعلامة أخرى من علامات الرواية الرائجة. أما التقنية الثانية فهى تقنية الاعتماد على المصادفات المتكاثرة، ابتداء من الحرص على أن يكون ابن السائق «عجيبة سر الختم» الذى أسقط سيارة «ويليم ويلكوكس» فى النيل، احتجاجا على الكوارث التى سوف تحدث لأبناء وطنه «النوبة»، هو والد الصغير «دهب» الذى سوف يكون النقيض البارز ل «بدر» ابن «شفيق باشا المغازى» الوزير الذى خضع لطلب «ويلكوكس» باشا فى تعلية خزان أسوان. وهى التعلية التى كان السائق «عجيبة» يعرف ما سوف يترتب عليها من مآس وكوارث للنوبيين. ومنذ ذلك الوقت تمضى أحداث الرواية معتمدة بالدرجة الأولى على منطق المصادفة التى لا ضرورة لتعداد أمثلتها على امتداد الرواية التى تصبح معرضا للمصادفات التى تنتقل بنا من مرحلة إلى مرحلة ومن أحداث إلى أحداث. ومن الطبيعى أن يذهب «دهب» إلى القاهرة مثلما يفعل العشرات من أبناء النوبة، لكن المصادفة وحدها تقوده إلى العمل فى نادى الجزيرة، ومن ثم التعرف على ابن الباشا الذى بالمصادفة وحدها يعثر على موظف مرتش فيتخذه وسيلة لتزوير عدد من الأوراق التى يسترد بها بعض أملاك أبيه التى صادرتها ثورة يوليو 1952، فيما صادرت من أراضى الإقطاع القديم. وأضف إلى هذه المصادفات عمل «دهب» أو «عجيبة» عند كودية فى السيدة زينب ثم انتقاله ليعمل إسكافيا، ومن المصادفة كذلك أن يقع فى صدام مع أولاد جزار كبير يقطعون أصابعه. ولا تكتمل المصادفات بهجرته إلى الإسكندرية بعد أن أخرج له «بدر المغازى» بطاقة هوية مزورة باسم «فارس حبيب حبشى» الرجل السودانى المسيحى الذى اشترى والده بعض أملاك «شفيق باشا المغازى» قبل ثورة يوليو 1952. وهى الحيلة التى دبرها ابنه «بدر» لاسترداد بعض أملاك أبيه بواسطة الأستاذ «أشمونى» كبير موظفى إدارة الأملاك المصادرة. ويمضى القارئ مع الرواية منبهرا بكثرة المصادفات المتتالية التى تنتقل مع البطل «دهب» أو «عجيبة» من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى سويسرا، حيث يقع «دهب» أو «عجيبة» مرة أخرى فى براثن «بدر المغازى» الذى يستخرج له جواز سفر جديد باسم «ليون برنار» صاحب شركة صرافة وتحويلات مالية. ولا تتوقف هذه المصادفات التى يتحول بعضها إلى ما يشبه العجائب إلا مع نهاية الرواية التى تصلح بالفعل لأن تكون خاتمة فيلم ميلودرامى. ولا أظن أنه يمكن الرد على أن تجمع المصادفات غير المنطقية يمكن أن يقع فى العالم الذى نعيشه، لأن الأدب كالفن بوجه عام لا يحاكى الواقع أو العالم، وإنما يخلق واقعا رمزيا جديدا موازيا للعالم أو الواقع الفعلى، وله منطقه الخاص الذى يقوم على قوانين الإمكان النابعة من داخل العمل الإبداعى، ومنطقه الفنى الذى يكون أكثر دقة واتساقا من منطق الحياة نفسها. وأضف إلى ذلك التقنية التى تتمثل فى نوع من الميلودرامية التى تتخلل الأحداث، مرتبطة بالكوارث أو المصائب التى يواجهها «عجيبة» أينما حل، فتلقى به هذه الميلودرامية فى السجن السياسى مرة، وفى عالم الكودية مرة ثانية، وفى عالم الإسكافية مرة ثالثة، ومن ذلك إلى سائق الحنطور، ومن سائق الحنطور إلى المشرف على كلاب سيدة يهودية تتيح له السفر إلى سويسرا بحثا عن زوجته وابنته، أو تلقى به فى السجون السويسرية ليخرج منها عائدا إلى القاهرة، ومنها إلى النوبة التى يقابل فيها للمرة الأخيرة «بدر» ابن الباشا غريمه، حيث تقترب النهاية فى مشهد ميلودرامى سينمائى بامتياز، نرى فيه «عجيبة» مندفعا إلى غريمه حاملا فى جيبه الأيمن أسفل سترته خنجر السير «ويليم ويلكوكس»، مبتسما ل «بدر» أو «بدرو» ابتسامة صفراء جائعة، مختصرا السنتيمترات الأخيرة فى خطوة واحدة كبيرة واسعة، كانت بلا شك خطوة فارقة فى حياته كلها، وربما فى حياة «بدر» أيضا. وهكذا تنتهى أحداث الرواية التى لا شك سوف تجذب إليها طوائف كبيرة من القراء الشباب الذين أصبحوا الشريحة الكبرى المقبلة على الروايات الرائجة والصانعة لأسطورتها فى آن. وتبقى تقنية الإفادة من السينما. وأعنى هنا السينما المصرية فى الأفلام الجماهيرية التى تحقق لمنتجيها أرباحا خيالية. ومن يقرأ رواية «أشرف العشماوى» من هذا المنظور يجد أنها رواية بصرية بامتياز، وأنها تخاطب الحاسة البصرية بالدرجة الأولى غير مغفلة بقية الحواس التى تقترن بهذه الحاسة وتلازمها. ويبدو الأمر كما لو كانت رواية «أشرف العشماوى» تمضى فى طريق الكتاب الذين يشعرالقارئ، وهو يقرأ أعمالهم، أنه يتابع وقائع فيلم سينمائى، وهى خاصية تتمتع بها كتابات «إحسان عبد القدوس» الذى يبدو فى عدد كبير من رواياته كما لو كان يدرك أن ما يكتبه سوف يتحول إلى أفلام. ولم يكن من الغريب أن تعرف روايات «أشرف العشماوى»طريقها إلى منتجى الأعمال السينمائية أو الدراما التليفزيونية، فأكثر من رواية له فى طريقها إلى التحول إلى أفلام. وتبقى التقنية الأخيرة المرتبطة بتوابل الرواية الرائجة، وهى تقنية الجنس. صحيح أن مشاهد الجنس فى الرواية موظف أغلبها توظيفا جيدا، ولكن مشهد الإغواء الجنسى الأخير من «باتريشيا» ل «دهب» أو «عجيبة» يبدو مشهدا زائدا عن السياق ليس المقصود به هدفا فنيا، وإنما إضفاء بعض التوابل التى تتميز بها الرواية الرائجة. أما شخصية «دهب» أو «عجيبة» نفسها فتبدو شخصية غير مقنعة عند التأمل النقدى الفاحص، فهى شخصية نوبى ساذج إلى درجة البلاهة يخدعه «بدر» فيغريه بالعمل معه، ولا يتردد فى أن يتهمه بسرقة بعض مقتنيات بيته، فيأتى «دهب» من النوبة مقيدا بالأغلال ومعذبا مهانا، ومع ذلك يقبل العمل مرة أخرى مع ابن الباشا الذى لا يكف عن خداعه. وتتكرر عملية الخداع مرة ثانية، فيقنعه بأن يقبل تغيير دينه وموطنه، فيستخرج له بطاقة مزورة باسم «فارس حبيب حبشى»، ويقبل «عجيبة» أو «دهب» تغيير دينه- وهو النوبى المسلم- لكى يكون عونا فى جريمة تزوير رسمى، وهو المتعلم الذى وصل تعليمه إلى السنة الأخيرة من دراسة القانون فى كلية الحقوق. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فيواصل بدر» الغواية ويقنع «عجيبة» بأنه سوف يبنى عمارة جديدة واعدا إياه بالمشاركة فيها، ولكنه يتركه فى القاهرة لمصيره ويفر هاربا إلى سويسرا. ومع ذلك كله لا يتعظ «عجيبة»، فيذهب إلى سويسرا ليقع مرة أخيرة فى الشرك نفسه، ويسمح ل «بدر» الذى أصبح اسمه «بدرو» بأن يغير هويته للمرة الثالثة ويستخرج له جواز سفر باسم «ليون برنار»، بل ويتزوج من امرأة سويسرية عجوز أكبر من أمه التى فقدها. ومثل هذه الشخصية التى أراد لها الكاتب أن تكون ممثلة لأهل النوبة هى أقرب إلى البلاهة والغفلة، وذلك على نحو يحول بينها وبين أن تصبح بطلا أساسيا فى الرواية، فالفن لا يمنح البطولة للبلهاء أو المغفلين. لمزيد من مقالات جابر عصفور