صدرت رواية أشرف العشماوى الأخيرة «تذكرة وحيدة للقاهرة» مؤخرا، وأشرف العشماوى كاتب لا ينتمى إلى الشباب تماما، وإن لم يفارق الشباب بعد، فهو قاض فى الخمسينيات من عمره سرقته محبة الروايات، فكتب روايات عديدة آخرها رواية «البارمان» التى طبعت اثنتى عشرة طبعة. ولكن قيمة الرواية لا تحسب عادة بعدد طبعاتها أو حتى سعة انتشارها، وإنما تحسب بما فيها من خصائص إبداعية وقدرة على أن تبحر فى آفاق النفوس الإنسانية، فاتحة آفاقا جديدة من الكتابة الروائية التى تضيف إلى خبراتنا الحياتية والأدبية وتثرى وجداننا. ويقينى أن رواية أشرف العشماوى الأخيرة هى أنضج ما كَتب إلى اليوم، ففيها خصائص تشهد لها شهادة إيجابية. أول هذه الخصائص أنها تكشف عن فترة زمنية من التاريخ النوبى الذى تبدأ مآسيه من أول القرن العشرين تقريبا وتمتد إلى ما بعد انتهاء بناء السد العالي. وهى مآس ترتبط بالتعلية الأولى لخزان أسوان سنة 1912 ثم التعلية الثانية سنة 1934، وقد ترتب على هاتين التعليتين– فضلا عن بناء الخزان نفسه- غرق المناطق التى يسكنها أهل النوبة، وعدم اهتمام الحكومة بتعويضهم تعويضا عادلا، أو حتى تدبير أراض بديلة بالقرب من نهر النيل يمارسون عليها حياتهم. وما لم أكن أعرفه حقا، وقد عرفته من هذه الرواية المتميزة، هو أن عددا لا بأس به من أهالى النوبة رفضوا ترك منازلهم وبقوا فيها مع مواشيهم التى غرقت معهم، نتيجة بناء الخزان أولا, ثم تعليته الأولى ثانيا, ثم تعليته الثانية أخيرا. وقد تواصلت هذه المآسى إلى ما بعد قيام ثورة يوليو وإقدام عبد الناصر على بناء السد العالى الذى ترتب عليه إغراق ما تبقى من أراضى النوبة. ولم يكن هناك فارق بين الظلم الذى وقع على أهل النوبة، سواء فى عهد الملكية الذى امتد من زمن الملك فؤاد، مرورا بعهد ابنه فاروق، وانتهاء بالزمن الناصرى الذى لم يشهد إنصافا لأهل النوبة ولا اهتماما لائقا بهم بوصفهم مصريين. وقد ترتب على ذلك نوع من الاغتراب لا يزال يشعر به أهل النوبة الذين لم يفارقهم الإحساس بالظلم أو التمييز إلى اليوم. يكفى هذه الكلمة التى نسمعها صفة لهم فى الرواية، أعنى كلمة «بربري» التى تنطوى على معنى التمييز، حتى ولو كان يُقصد بها الضحك، كما فى حالة الممثل الشهير «على الكسار» الذى اخترع شخصية «بربرى مصر الوحيد»، وهى تسمية تسىء إلى النوبيين من ناحية بقدر ما تنتقص من شعورهم بالانتماء إلى الوطن المصرى مثل غيرهم. وظنى أن هذا التمييز لا يزال قائما، فالنوبى لا يزال يشعر بالغبن، ابتداء من فقدانه منازل الأجداد منذ التعلية الأولى لخزان أسوان فى الوقت نفسه الذى لا يزال يشعر بنوع من المعاملة السيئة التى تجعله يبدو كأنه مواطن من الدرجة الثانية، وذلك على نحو يؤرق فيه إحساسه بهويته الوطنية وينتقص من مبادئ المواطنة فى التعامل معها. وهو الأمر الذى خلق مشكلة الهوية عند النوبيين على النحو الذى أدى ببعض المغالين منهم إلى الوقوع فى أسر بعض الجمعيات الأجنبية المعادية لمصر، ومن ثم المطالبة بوطن مستقل. وأرجو أن تكون هذه الرواية بحق صرخة تحذير نستمع إليها جيدا وتستمع إليها الحكومة قبلنا، فتعدل فى المعاملة بين أهل الشمال والجنوب من ناحية، ولا تسمح بأى نوع من التمييز بين المصريين، سواء على أساس الموقع الجغرافى (شمال/جنوب) أو اللون (أبيض/ أسود). وهناك أدب نوبى رائع من نتاج أبناء النوبة أنفسهم يكشف عن هذه المشكلات التى أشرت إليها، ابتداء من رواية «الشمندورة» للكاتب النوبى محمد خليل قاسم، وليس انتهاء بروايات حجاج أدول ويحيى مختار والمرحوم إدريس علي، وكلها نماذج متميزة تكشف عن ما يمكن أن أسميه بالكتابة ضد القمع الواقع على أبناء النوبة بحق، ابتداء من بناء خزان أسوان الذى بدأ سنة 1897 وانتهى سنة 1902، وأظن أن هذه هى المرة الأولى التى يهتم فيها كاتب من غير أبناء النوبة بالكتابة عن القمع الواقع عليهم، كما لو كان الضمير الوطنى لأشرف العشماوى هو الذى دفعه إلى الكتابة عن مأساة أبناء جزء عزيز من وطنه. وتبدأ أحداث رواية أشرف العشماوى من عهد الملك فؤاد الأول فى مطلع الثلاثينيات وتستمر إلى زمن الانفتاح (السداح مداح) الذى جاءنا به أنور السادات، وكان لأرض النوبة نصيب منه. والبداية والنهاية مرتبطة بالبطل النوبى «دهب عجيبة سر الختم» الذى تتبع حياته من قبل أن يولد إلى نشأته ومسيرة حياته التى تنتهى بإصراره على الانتقام من ابن «شفيق باشا المغازي» الذى لم يكف عن قمعه قمعا غير إنساني، منذ أن عرفه عاملا فى نادى الجزيرة الذى كان مخصصا للباشوات ولكبار ضباط الاحتلال قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952. والبداية هى استجابة «شفيق باشا المغازى» وزير الأشغال العمومية مرغما إلى إلحاح «ويليم ويلكوكس» المهندس البريطانى الذى كان يقوم على بناء سد أسوان، وأشرف على تعليته الأولى وتعليته الثانية. و«ويليم ويلكوكس» (1852-1932) شخصية تاريخية فعلية، فقد كان المهندس الذى أنشأ قطاع الرى فى الحكومة المصرية، كما أنشأ سد أسوان، وكان من أول الدعاة لتبنى العامية بدلا من العربية الفصحى لغة للقراءة والكتابة، إضافة إلى كونها لغة تخاطب، وهو الذى صمم وأنشأ قناطر أسيوط بين عامى 1898-1903 على نهر النيل والترعة الإبراهيمية، وخزان أسوان بتعليته الأولى والثانية. أما شخصية «شفيق باشا المغازي»، فلا أعرف إذا كانت شخصية حقيقية أم خيالية. المهم أنه يؤدى دور وزير الأشغال والري، وهى الوزارة التى قامت بتنفيذ بناء خزان أسوان تنفيذا لخطط «ويليم ويلكوكس» المشرف الأساسى على بناء خزان أسوان وغيره من الأعمال المرتبطة بنهر النيل. ويبدو أن القمع الواقع عليه فى بداية الرواية من المهندس الإنجليزى يتحول إلى قمع مواز للقمع الواقع على أبناء النوبة، ابتداء من سائق ويليام ويلكوكس «عجيبة سر الختم» الذى ما إن يسمع عن التعلية الثانية حتى تنتابه حالة من الذهول تنتهى به إلى الانحراف بسيارة المتغطرس الإنجليزى التى كان يقودها إلى نهر النيل فيغرق مع ويلكوكس الذى كان أبناء النوبة يرونه بمثابة رسول الشر إليهم. ونمضى مع أحداث الرواية التى تركز على ابن الباشا «بدر شفيق المغازي» الذى يرث ثروة أبيه الطائلة ويوازى نقيضه «دهب عجيبة سر الختم» ابن السائق الذى قاد سيارة «ويلكوكس» إلى قاع النيل، والذى ورث منه ابنه «دهب» صفات المقموع الذى يخضع دائما لممارسات القمع الواقع عليه من ابن الباشا الذى يرث طبقة أبيه وغطرسة المحتل فى ممارسة القمع على «دهب عجيبة سر الختم» إلى نهاية الرواية. والحق أن الرواية هى نوع من السيرة التى تتناول العلاقة بين القامع والمقموع، والقامع هو ابن الباشا الممثل لطبقته وابن عجيبة سر الختم الذى يشتهر باسم والده ممارسا دور المقموع على امتداد الرواية دون ثورة حقيقية على قامعيه. وتمضى الأحداث من مطالع الثلاثينيات إلى منتصف السبعينيات لتشهد مراحل من العلاقة بين القامع الممثل لطبقته من الإقطاعيين، والمقموع الذى يمثل أبناء النوبة الواقع عليهم القمع المزدوج، أعنى القمع المرتبط بسبب اللون من ناحية وبسبب الظلم الاجتماعى والسياسى من ناحية ثانية. ويقص علينا السرد مراحل أو تجليات متعاقبة من أشكال العلاقة بين القامع (ابن الطبقة الحاكمة أو المتحكمة) والمقموع (ابن النوبة) الذى يبدو كأنه مصاب بحالٍ من العجز الأبدى التى تحول بينه والثورة على قامعه أو قامعيه. وتتخذ هذه العلاقة أبعادا زمنية ومكانية مختلفة تتغير عليها خلفيات مشاهد الزمان والمكان. ولكن تظل العلاقة فى جوهرها واحدة بين قامع هو «بدر» ومقموع هو «دهب أو عجيبة سر الختم». وكما يجد «بدر» عونا له من فاسدى الزمن الثورى أو فاسدى العالم الأوروبي، سواء فى مصر أو سويسرا، فإن دهب أو عجيبة يجد عونا له من المقموعين من أمثاله عبر الزمن والمكان الذى يتغير بتغير فصول الرواية. أما الصفة الثانية التى تعطى لهذه الرواية تميزها، فهى الدرجة العالية من التشويق التى تجعلنا نتابعها حريصين على معرفة ماذا سوف يحدث؟. وفى هذا البعد تأخذ الرواية تقنية الرواية البوليسية التى تدفع قارئها دائما إلى السؤال: وماذا بعد؟، وتدفعه متحمسا إلى متابعة القراءة حتى يعثر على ما يجيب عن السؤال الأساسى للسرد. أما الصفة الثالثة فهى مرتبطة بحيوية الشخصيات، وسواء كنا نتحدث عن شخصية «عجيبة» أو «دهب» أو شخصية «بدر»، فإن التركيز الحيوى يقع على شخصية «دهب» أو «عجيبة» على وجه الخصوص، وهى الشخصية التى تفترش ملامحها أغلب الرواية التى تبدو بعد إكمال القراءة وكأنها رواية تدور حول المقموع الذى تحاول أن تتعمق مشاعره وأحاسيسه المتحولة بتحول أشكال القمع الواقع عليه على امتداد المراحل الزمانية والانتقالات المكانية التى يمضى بنا السرد عبرها. ويعنى هذا أن الشخصية الأساسية فى الرواية هى شخصية المقموع الذى يحاول السرد الإلمام بملامحها الخارجية والداخلية فى آن، وذلك على نحو تبدو معه الشخصيات المغايرة, بما فيها شخصية «بدر» نفسه، شخصيات كارتونية تؤدى أدوارا ثانوية لصالح البطل الأساسى للرواية، وهو «دهب» أو «عجيبة سر الختم». (وللتحليل بقية) لمزيد من مقالات جابر عصفور