لو تصورنا أن هناك علاقة خاصة بين أدب نجيب محفوظ والسينما فيمكن إعتبار السينما الجسر الممهد الذي عبر عليه أدب محفوظ ليصل إلي عوام الناس متجاوزاً حيز النخبة ، وعلي الرغم من أخطاء السينما وسطحيتها في بعض الأحيان إلا أنها لعبت دوراً في تفكيك روموز الإبداع وصاغتها في نسيج روائي شديد المتعة والخصوبة . ولو نظرنا لبعض النماذج الروائية ذات الأبعاد السياسية مثل رواية " الكرنك " أو " ثرثرة فوق النيل " سنجد أن اللغة الفنية للسيناريو والأدوات السينمائية المؤثرة قد طوعت الهاجس السياسي داخل الرواية لخدمة العمل الفني "الفيلم " كعنصر من عناصر الإثارة علي طريقة أفلام "الأكشن " وقليل من المعني المستهدف هو الذي وصل إلي جمهور الشباك إذا إعتبرنا أن السواد الأعظم من الرواد دون هذا الوعي السياسي وقصرنا اللغة الروائية علي الخاصة ، فلا يزال جمهور المنازل يتعامل مع أفلام مثل " اللص والكلاب وقلب الليل وبداية ونهاية " بالمفهوم البدائي للحكي الشعبي ويُسقط من حساباته الخلفيات السياسية والإجتماعية للأحداث وإن كان يصله منها شذر المأساة ، إذ أنه يستشعر بوجدانه ما تدور حوله الفكرة الرئيسية دون أن يربط الفكرة ذاتها بالهم العام ، وكأن ما يراه يمثل له محنة شخصية ، وقد سُئل الأستاذ نجيب ذات مرة عن رأيه في المعالجات السينمائية لرواياته فرد ببساطته المعتادة إن ملكيته للرواية تنتهي بمجرد توقيع العقد مع المنتج ، لذا فهو لا يجد غضاضة في تحريف السينما لبعض الخطوط الفرعية داخل الرواية أو إمتداد يد السيناريست بالحذف أو الإضافة علي نحو غير مخل بالفكرة الرئيسية ، وهذا الرد من جانب صاحب "نوبل" يمثل علي قدر غرابته حالة شديدة التواضع وثقة متناهية في أن ما يعنيهم بالكتابة يمكنهم التعامل مع أفكاره بمعزل عن المؤثرات السينمائية التي قد تكون لها ضرورة في العمل الفني وهو ما يجعله مطمئناً وغير قلق ! هكذا يري الأديب الكبير العلاقة بين السينما كأداة والأدب كفن له خصوصيته وجمهورة ، وفي رواية " بداية ونهاية " يضع نجيب محفوظ القارئ في بؤرة الشك ، ثم يأخذه تدريجياً إلي عوالم يشتد فيها الصراع بين إيمان الإنسان بالمصير والقضاء والقدر والتمرد علي مرارة الواقع ورغبته الملحة في التغيير ، ويظل الهامش يضيق بالشخصيات حتي يصبح الفارق بين الحالتين دقيقاً إلي حد التلاشي ، ثم سرعان ما يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود ويري بيقينه الفطري أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يتنافي مع التمرد علي الواقع المؤلم والنزوع إلي حياة أكثر إستقراراً وأماناً ، فبرغم البؤس الشديد الذي يعانيه البطل وحالة الإنكسار التي تنتابه يواصل المسيرة ويأخذ في العدو نحو مستقبلاً يسير في خط مواز لمأساته ، كأنما هي دعوة للإستمرار مهما كان الثمن . وتأتي شخصية جعفر الراوي في رواية " قلب الليل " لتبحث عن ماهية الذات والمعني المقصود من الحياة ، ويقطع البطل مسافات طويلة في دروب متعددة بحثاً وراء الشيء المفتقد في حياته رغم توافر كل عناصر الترفيه والمتعة ،ويقاسي مرارة الغربة والوحشة ويلوذ بصديقه المطرب ويستشعر قدراً من الأمان فيقرر أن يكون مطرباً ظاناً أن السلوي في الغناء ، ثم يعود فيكتشف أن الإحساس بالوحدة ما زال مستمراً فيتزوج من الغجرية التي خفق لها قلبه ، ولكنه لا يلبث أن يجد نفسه محاطاً بنفس الداء وتعاوده الحيرة ويأبي إلا أن يجد حلاً لمحنته ويواصل البحث عن ذاته في رحلة جديدة تختلف إيقاعاتها الإنسانية وتتسم الحياة فيها بالأبهة والرقي .. ويدخل " جعفر الراوي " هائماً علي وجهه دوائر إجتماعية غريبة عليه ويصبح زوجاً لسيدة القصر، الهانم المثقفة التي تغمرة بحبها وحنانها ويطيب له العيش معها في بادئ الأمر ، إلا أن الجوقة المحيطة بها تثير غيرته وتفسد عليه سعادته لا سيما أن معظمهم من كبار المثقفين ويمتلكون لغة غير لغته ويتبارون في إظهار ثقافتهم ويبدو بينهم جاهلاً غبياً . مستوي آخر من الإفتقاد يواجه به نفسه بعد مصارحة وإعتراف بأنه ليس مؤهلاً للجلوس معهم .. محاولة أخري من الأديب للإرتفاع بمستوي المأساة والوصول بها إلي أقصي درجاتها ، فهو يؤكد علي فلسفة الفكرة من أن الإنسان يظل في حالة من الفقد والإغتراب طالما أنه لم يتحقق ، ويفصل هنا بين المعني المادي للإكتفاء والمعني الفلسفي الفكري للتأكيد علي أن التحقق لا يشترط أن يكون في إمتلاك الأشياء ولكنه درجة أسمي من التجسيد والمادية ، ولذلك يختار البطل في رواية " قلب الليل " الإنزواء كوسيلة لإعداد ذاته فكرياً ، ويمكث ستة أشهر بين الكتب ، ثم يعود وقد صم كل ما قرأة دون أن يكون قد أصاب شيئاً من الثقافة ، فيضطر للقتل في أول مواجهة له مع غريمة الذي واجهه بحقيقته . وهكذا مضي يحمل جريمته واغترابه وسجل علي جدار الزنزانة سيرته وتأملاته وحيرته .. وفي النهاية أفضت به الحياة إلي السراب .. ذات المعني الذي أراده نجيب محفوظ للدلالة علي عبثية الحياة وبلاهة الإنسان الذي يتصور أن بإمكانه فهم كل ما يدور بها معتمداً علي عقله القاصر وحدسه الفقير . ملامح من تلك المشاهد رسمها أديبنا الكبير في العديد من رواياته ليظل السؤال قائماً وعلامات الإستفهام واقفة تنتظر الإجابات !!