تثير الرسالة التي وجهها الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل لزوجته ولم تفتح إلا بعد رحيله، تأملات حول رسائل الحب لكبار الكتاب والشعراء والمفكرين الحاضرة في الشرق والغرب معا. ووفقا لما ذكره أحمد نجل محمد حسنين هيكل، فإن والده الراحل لم يترك وصية بل خطابا موجها لوالدته، موضحا في مقابلة تليفزيونية أن هذا الخطاب كان "عاطفيا ومؤثرا للغاية ولم نقم بفتحه إلا بعد وفاته". وكان الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة قد ذكر في سياق طرح حول الأستاذ محمد حسنين هيكل أنه كان يعشق حديقة أشرف عليها بنفسه في بيته الريفي بمنطقة "برقاش" وهي حديقة حافلة بألوان الورد البلدي وقد أقامها من أجل زوجته ورفيقة عمره السيدة هدايت تيمور. وإذا كان أحمد هيكل لم يبح في هذه المقابلة التليفزيونية التي أذيعت مؤخرا بأي تفاصيل تتعلق بمضمون "رسالة عميد الصحافة العربية لزوجته السيدة هدايت تيمور"، فإن رسائل الحب حاضرة سواء في الشرق أو الغرب وهي تثير الفضول دوما بقدر ما قد تشكل دليلا للمحبين في عالم يفتقر لما يكفي من الحب. ومن هنا وعلى سبيل المثال اهتمت الصحافة الأمريكية بشدة برسائل الحب بين الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون وزوجته باتريشيا والتي كان يسميها في فترة الخطوبة "بالحبيبة الغجرية". وثمة ست رسائل غرامية من الرئيس الأمريكي الراحل للحبيبة الغجرية تعرض للزوار لمتحف ريتشارد نيكسون بكاليفورنيا وهي الرسائل التي سمح بنشرها من بين عشرات من رسائل الحب بين الرئيس الأمريكى الراحل ريتشارد نيكسون وزوجته باتريشيا المنحدرة من أصل ايرلندى والتي قضت في شهر يونيو عام 1993. وإذا كان الرئيس ريتشارد نيكسون قد عرف في العالم كله كبطل فضيحة ووترجيت المتعلقة بالتنصت على خصومه في الحزب الديمقراطى المنافس لحزبه الجمهورى والتي اطاحت به خارج البيت الأبيض في منتصف سبعينيات القرن العشرين، فإن هناك جوانب في شخصيته لم يعرفها العالم بما يكفى عن الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة الذي ولد العام 1913 وتوفى يوم الثاني والعشرين من ابريل عام 1994. فتلك الرسائل من ريتشارد نيكسون لزوجة المستقبل باتريشيا رايان أثناء فترة الخطوبة التي استمرت عامين تكشف عن جوانب بالغة الرومانسية في شخصية رئيس مثير للجدل حتى اليوم بقدر ما كان من أصحاب الأقلام وقارىء من الدرجة الرفيعة. وها هو في إحدى الرسائل التي يقرأها زوار متحفه ومكتبته الرئاسية بكاليفورنيا يستعيد وقائع اللقاء الأول مع الحبيبة الغجرية بكلمات بالغة العذوبة تكشف عن شخصية حالمة خطفتها السياسة فيما يبدو من الشعر الرومانسي. وفي إحدى الرسائل يقول نيكسون لباتريشيا أو الحبيبة الغجرية التي تزوجها يوم الحادى والعشرين من يونيو عام 1940:"كل ليلة.. كل يوم..اهيم بك شوقا واريدك معى..عيناى تحلمان بك وانت لى..ياحبيبة القلب اريدك لى ولست انانيا ولامريضا باالغيرة والاستحواذ؟؟ دعينا نذهب للجبال البعيدة..دعينا نقرأ الكتب معا أمام المدفأة". والطريف أن نيكسون وخطيبته باتريشيا التي عرفت بعد الزواج ببات نيكسون" كانا من هواة التمثيل المسرحى واشتركا معا أثناء فترة الخطوبة في بعض المسرحيات ومن الطريف أيضا أن تكون قضايا الحب حاضرة حتى في إشكاليات الاقتصاد الكبرى ومعضلات فلسفية سعى مفكر وفيلسوف بحجم كارل ماركس للبحث عن حلول لها. وهكذا ظهر "الحب ورأس المال" وهو كتاب لمارى جابرييل يتعرض لأسرار الحياة الخاصة للفيلسوف والمفكر الشهير كارل ماركس ويمزج بين الخاص والعام للرجل الذي سعى لتغيير العالم عبر أفكاره. والكتاب بعنوانه الكامل:"الحب ورأس المال..كارل وجينى ماركس:مولد ثورة" يتضمن صورا قلمية مشوقة لماركس وزوجته جينى وعائلته ورفيق عمره فريدريك انجلز وسياق العصر والحياة في المنفى وعذابات الغربة، والعمل الثوري، والكفاح من أجل الأفكار وطغيان الهم السياسي وانشغالات الثائر على حساب اسرته الصغيرة. بمقاربات البحث الجاد، وتقنيات السرد المشوق في كتاب لا يزيد على 200 صفحة تذهب مارى جابرييل إلى أنه لولا النساء في حياة كارل ماركس لما أصبح ماركس الذي عرفه العالم تماما كما أنه لولا ظهور ماركس لما اصبح العالم هو العالم الذي نعرفه. هكذا يتجول القارىء في البيت مع كارل ماركس وزوجته الجميلة ذات الأصل الارستقراطى جينى فون فيستفالين كما يتجول في أروقة التاريخ بعواصم أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر والأجواء الثقافية والسياسية ايامئذ. وإذا كان جدل الشرق، والغرب لن ينتهي فالحب حاضر كقضية في هذا الجدل الثقافي، وفي كتابه "الحب والغرب" يقارن دينيس دورجمون بين الحب العذري وما يماثله في الغرب، وينتهي إلى أن البحث عن عائق للوصال في الثقافتين يتكرر في الحالتين، إنه الغزل والتشبيب بالحبيبة الذي يحول دون زواج العاشق من حبيبته في المثال العربي، وهو السيف الذي يمدد بين الجسدين كما في أسطورة تريستان وايزولدة. وفي كتاب الطاهر لبيب "سوسيولوجيا الحب العذري" مقاربة استثنائية وفريدة للحب العذري فيما قد تستوقف البعض مقارنة تاريخية بين بقدر ما هي اجتماعية بين قصة الشاعر العذري عروة بن حزام واسطورة تريستان وايزولدة كتعبير غربي عن الحب الأفلاطوني. وكل ذلك يعني ضمنا وجود أوجه للقاء بين الشرق والغرب في قضايا الحب رغم التوجهات الاستشراقية المؤدلجة والنافية لأي لقاء بين الشرق والغرب والتي أفضت لخسائر جراء عزل الظواهر الإنسانية مثل الحب في عالم يصر على مواصلة الجهل بذاته قبل تورطه المزمن بجهل الآخر. وكان المفكر والكاتب المصري الراحل سلامة موسى قد عقد مقارنة قبل عقود عديدة وفي النصف الأول من القرن العشرين بين تناول المبدع الكبير توفيق الحكيم لأسطورة بيجماليون وبين معالجة الساخر الأيرلندي العظيم برنارد شو لهذه الأسطورة وخلص إلى أن الفارق بين المعالجتين هو نتاج ثقافة وتاريخ. ورسائل الحب حاضرة في أعمال الكاتب الراحل أنيس منصور صاحب" في صالون العقاد كانت لنا أيام" والذي كتب في الحب كثيرا وحكى وبكى وهو يتحدث عن "الحبيبة التي كانت في ايطاليا" وتساءل بلوعة: "لماذا لم أقف معها.. فالحياة لاكانت قبلها ولاهى بعدها.. لقد أخذت حياتى معها وتركت بقاياى تبكى على بقاياى". وعن هؤلاء الشعراء الذين يتعذبون بسبب الحبيبة يقول أنيس منصور" الحب يصل الليل بالنهار، والشوق، والحنين، والأنين..لقد كنت في حبى مثل اولئك الشعراء..أحيانا كنت أحس أن الأرض صارت كوكب آخر يدور بنا حول الشمس وحدنا..لم أكن أريد أن أخرج من هذه التجربة فأنا ولدت لأعيش". وها هو أنيس منصور يضيف في رسالة لصديق " أنا غائب عن الحاضر..غارق في الماضى.. وليس في الماضى كله إلا هي.. التصقت صورتها.. انطبع صوتها..لا أسمع سوى لها ولا أريد غيرها ولا أريد بديلا عنه..أنت تعرف كم امرأة عرفت..كثيرات هنا وفى أوروبا..كثيرات في كل لغة". ويطلب من صديقه العذر بسبب عدم الوضوح احيانا في رسائله مضيفا" يجب أن تعذرني عندما أكتب عنها بعد موتها وأتذكر ما جرى لى..لا أجدني قادرا على الكلام..لا أعرف كيف أنا..كيف تماسكت وكيف عشت..لن أكتب كلمة واحدة عن زيارتى لأهلها لتقديم العزاء..لا أحد يعرفني ولكني أعرف الجميع من كلامها عنهم..كان يوما أسود عندما ذهبت إلى قبرها وعندما عدت إلى مصر لزمت الفراش". ويرى أنيس منصور أن الفن ليس إلا نوعا من الاعتراف أي ازالة الحائط الرابع بين الفنان، والناس فيحدثهم عن نفسه بلا تحفظ حتى أنه قال" إن صفحات كتبى هي بقايا دموع..صدى صرخات ترددت بعيدا في نفسى وفى نفوس الآخرين لها طعم الملح ولسع النار ووخز الابر وإلحاح الضمير وبريق الأمل". بمداد الصدق والدموع يقول أنيس منصور في رسالة لصديقه فريد حجاج " استأذنك يا فريد بعض الوقت فلا أريد أن تسقط دموعي على الورق" فيما يتساءل عما يمكن أن يفعله "إذا كان هذا قلمها وهذا عطرها وهذه صورتها وهذه هديتها..حتى القطرة التي أضعها في عيني قطرتها كأنني أضع دموعها في عيني"!. ها هو يبوح لصديقه برغبته في البكاء على الحبيبة وللحبيبة " أريد أن أبكى ولذلك أتحدث عنها..اننى لم أبك بما فيه الكفاية..لاتجف الدموع..لا أعرف من أين تجىء ولماذا تطاوعنى ولماذا أطاوعها؟..إن الفيلسوف باسكال هو الذي قال إن للحب أحكاما يستأنفها العقل ولكن يبقى حكم الحس هو الحكم الذي لا يقبل الاستئناف". ويمضى انيس منصور مع الحبيبة في رحلة الدموع والحب قائلا:"عدت إلى رسائلها (87 خطابا) أقرأها وأقبلها وأشم رائحتها..لماذا كان خطك جميلا ولماذا كانت رسائلك معطرة؟..أوجعت قلبى إلى الأبد..قرأت خطاباتها مائة مرة لا أريد أن أفرغ منها..لا أريد أن ينتهى أي شىء". فهل انتهى كل شيء ولم يبق سوى الدمع والشجن وعزاء الذكريات؟!..ام أن ثمة سرا في القلب كشعلة ورد تتوهج في الأشواق ويضييء شذاها القلب؟!..شيء يضيء الدرب في العتمة ووسط الأنواء؟!..بالتأكيد للحب اسراره التي قد تكشف عن طرف منها رسالة أو صورة !. عن المرارة في حياة جمال حمدان تقول الكاتبة سناء البيسي: "التقيت المتحفظ جدا الذي تسكن في حياته مأساة حب أو خيانة قد تكون سببا رئيسيا في تقوقعه وخصامه للجميع وقد ذكر في تلخيصها جملة عجفاء لم تشبع نهم أذني النهمة إلى الاستقصاء إلى آخر المدى من أنه عاش يوما عصيبا كبر فيه فجأة اربعين عاما". ما الذي حدث بالضبط في هذا اليوم المرير الذي كبر فيه جمال حمدان فجأة 40 عاما؟!..لا إجابة كاملة وشافية إنما هناك أشارات تتوالى من حين لآخر آخرها كلمات الكاتبة سناء البيسي عن العالم النبيل والكبير الذي قدم استقالته من منصب الاستاذ الجامعي "وعاش لأبحاثه لا يريد أن يكون طرفا في عالم تغلب فيه قيم النفاق". عندما عاد لمصر حاملا درجة الدكتوراه من بريطانيا بعد ثورة 23 يوليو التي ايدها وقع جمال حمدان "ضحية لسياسة تغليب أهل الثقة على أهل الخبرة والمعرفة" فقدم استقالته من الجامعة بعد معركة نفسية زاد من حدتها موقف زميلته الجامعية التي جمعت بينهما قصة حب أدارت لها الحبيبة ظهرها تخوفا على مكانتها الجامعية"!. وعندما قضي جمال حمدان في ذلك الحريق الغامض يوم السابع عشر من أبريل العام 1993 وجدوا في ضلفة دولابه الصاج الصديء صورة "حسناء مجهولة" لعلها كانت السر الكبير في واحدة من أكثر قصص عظماء الابداع مرارة. والرسائل حاضرة في العلاقة بين الشاعر وزوجته وحال الحب مع الشاعر وها هو دافيد بارك مؤلف كتاب:"زوجات الشعراء" يبحر في البرزخ الفاصل والرابط ما بين الواقع والخيال ويطرح أسئلة كبيرة ومهمة من قبيل:"ماهية الأدب ومعناه فيما يطرح شخصيات حقيقية ويصنع شخصيات من نسج خياله !. ولعل أفضل أجزاء هذا الكتاب هو الجزء الأول الذي اعتمد على ماكتبته كاثرين زوجة الشاعر ويليام بليك التي سعت لتخليد زوجها بقناع وان كانت قد اخفقت في أن تحقق حلمه في الأبوة..انها قصة أمراة ليس بمقدورها أن تقرأ رسائل الحب للشاعر حتى يخبرها كيف يثق بصورة مطلقة في صدقية رؤاه. والشاعر الإنجليزي ويليام بليك ولد يوم الثامن والعشرين من ونوفمبر عام 1757 وقضي في الثاني عشر من أغسطس عام 1827 وهو إلى ذلك رسام ونحات فيما اعتبرات أعماله علامة فارقة في الشعر والفنون البصرية للعصر الرومانتيكي. ومن أهم أعماله الشعرية:"اغاني البراءة" و"زواج الجنة والجحيم" و"القدس" و"إلى الخريف" وقد عانى كثيرا من شظف العيش فيما تميز شعره بحساسية عالية وخلق تفاعل بين الإنسان والطبيعة، ويقول نقاد إن أعماله شكلت حجر الأساس للرومانسية في الشعر. ولئن دعت الحاجة لكتب أو دراسات حول وضعية الرومانسية في زمن الإنترنت أو العصر الرقمي فها هي الكاتبة والأديبة المغربية ربيعة ريحان قد عالجت قضية الحب في زمن الإنترنت ابداعيا في روايتها الأخيرة "طريق الغرام" وعالم الرسائل الإلكترونية المتبادلة واندفاعات البوح عبر الفضاء الإلكتروني والواقع الافتراضي. ومهما بلغت التقنية مبلغها في الجبروت فإنها لن تكون قادرة على قتل مشاعر الحب ما بقى الإنسان إنسانا وما بقى الشعر ورسائل الحب مثل تلك الرسالة الشاعرة التي قال فيها الشاعر الراحل امل دنقل للحبيبة وهو يستعد للرحيل من الحياة الدنيا بعد مقاومة باسلة واجه فيها بشجاعة المرض الغادر: "قبليني لأنقل سري إلى شفتيك..لأنقل شوقي الوحيد لك..للسنبلة..للزهور التي تتبرعم في السنة المقبلة قبليني ولا تدمعي!".