يلقي المعرض الحالي للفنان المصري الراحل منير كنعان أضواء على العلاقة بين اللوحة والكلمة أو يثير تأملات عن "حوارات الريشة والقلم" في إبداعات فنانين مصريين لن يغيبوا أبدا عن الذاكرة الثقافية المصرية. والمعرض الحالي لأعمال الفنان الراحل منير كنعان الذي يقام برعاية وزير الثقافة حلمي النمنم يشكل حراكا إيجابيا في ساحة الفنون التشكيلية والساحة الثقافية المصرية على وجه العموم، فيما كان هذا المعرض الذي افتتح بقاعة "أفق" بمتحف محمد محمود خليل بمنطقة "الدقي" ولعل ذلك المعنى كله يتجسد في حرص العديد من المثقفين والكثير من الشخصيات العامة على زيارة هذا المعرض. وكانت الكاتبة الصحفية الكبيرة سناء البيسي زوجة الراحل الكريم والفنان الكبير منير كنعان في استقبال رواد المعرض والى جانبها نجلها هشام كنعان فيما نهض الفنان المثال إيهاب اللبان بمهمة تنسيق اللوحات لفنان كرس حياته للوحاته "واستنطاق الجمال في الوجود" حتى رحيله عن الحياة الدنيا في العام الأخير من القرن العشرين. والمعرض الذي يستمر حتى الثاني عشر من شهر أبريل المقبل، وكان قد افتتحه حلمي النمنم بحضور الدكتور خالد سرور رئيس قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة ولفيف من المثقفين والفنانين يمثل "بانوراما بصرية" لأعمال منير كنعان الذي ولد العام 1919 وقضى في العام 1999 وهو لا يمكن اختزاله في مجرد وصفه بأنه "من رواد التجريدية في مصر" حيث شهدت مسيرته الفنية الرحبة تنوعا مثيرا في فنون الواقعية والبورتريه والرسم الصحفي. ومنير كنعان الذي مضى على رحيله نحو 17 عاما مازال حاضرا بقوة في الذاكرة الثقافية المصرية بأعماله الغزيرة والبالغة ثراء فنيا بقدر ماجمعت مابين الأصالة والحداثة ومزجت مابين جذور راسخة في الوجدان المصري ورؤى استشرافية للمستقبل وقراءة عميقة للكون عبر اللون والخط وبقى دوما هذا العاشق لمصر مرتبطا بتراب الوطن ووجوه الناس في مناحي الحياة اليومية المصرية وبيئاتها المتعددة والمتنوعة . ومن هنا يعد منير كنعان احد انبل فرسان الفن التشكيلي المصري وعلامة مضيئة خالدة ودالة على معنى التطور و"روح المبدع السباق والمتجاوز للمراحل"، وهو الذي لم يكف عن التجريب وارتياد كل جديد في الفن حتى قدر عدد المراحل الفنية التي قطعها عبر مسيرته في الفن التي تجاوزت النصف قرن بنحو 13 مرحلة توالت ما بين مدارس الانطباعية والسيريالية والتكعيبية والتجريدية والكولاج. وهكذا يحق وصف الفنان منير كنعان المتوج بجائزة الدولة التقديرية في الفنون العام 1996 بأنه كان "في سباق مع الزمن" وهو وصف تومىء له الكاتبة سناء البيسي في احاديثها وكتاباتها حول زوجها الراحل الذي رتبت الأقدار اول لقاء بينهما وهي مازالت طالبة تدرس الصحافة بعامها الجامعي الأول في جامعة القاهرة وتحمل جيناتها ميولا ابداعية تجلت فيما بعد في اعمال فنية تشكيلية ورسومات صحفية الى جانب موهبتها الساطعة ككاتبة مبدعة وصاحبة بصمة مميزة في عالم الكتابة. ومنير كنعان ذاته من رموز الفن والابداع في بلاط صاحبة الجلالة "الصحافة" حيث عمل لفترة في دار الهلال ثم ابحر لسنوات طويلة في صحف واصدارات مؤسسة اخبار اليوم ولهذا الفنان الذي استهوته نداءات الألوان وغواية التجريب لوحات صحفية على اغلفة مجلات بديعة حقا وخاصة اغلفة مجلة "اخر ساعة" في زمن يستحق ان يكون كنعان من رموزه ورسومه. ولعل بعض عشاق القراءة من أجيال الأربعينيات و الخمسينيات والستينيات يتذكرون تجليات منير كنعان المبهرة في المشاهد الدرامية التي رسمها لتصاحب القصص والروايات المنشورة بصحف ومجلات وكانت بحق جزءا لايتجزأ من متعة القراءة. أما الفنان المصري حسن سليمان الذي ولد عام 1928 وقضى عام 2008 فيبقى النموذج المبهر لهذه الكوكبة النادرة من المبدعين الجامعة مابين سحر الريشة والقلم وبقدر ما استحق وصفه "بأسطورة الضوء والظل" فهو صاحب قلم يعتبره بعض الكتاب من اكثر الأقلام التي تهدي المتعة للقاريء. والفنان التشكيلي حسن سليمان الذي عرف بزهده في بريق الاعلام والأضواء راضيا ومكتفيا بالإبداع بالريشة والقلم ورحابة الفن في مرسمه بدرب اللبانة كان من الواثقين دوما في رهانات الابداع بقدر ماكان نموذجا للصدق مع الذات والآخرين فيما يتجلى سحر الكلمة في كتابه "حرية الفنان". ورغم إنجازاته الخالدة في تاريخ الفن التشكيلي المصري والعالمي يقول حسن سليمان في هذا الكتاب :"كلما وعيت أكثر..قرأت أكثر..رأيت أكثر..احتقرت نفسي فأنا لم أفعل شيئا ولم آت بالجديد بالنسبة لانجازات البشرية عبر آلاف السنين". ويضيف " بالرغم من أن حياتي الفنية مملوءة بالصراعات والتغيرات وفرضت علي معارك حتمية حددت مسار حياتي فإن الفن هو الملاذ الوحيد وكان صمودي هذا نتيجة تربية اعتمدت كثيرا على الثقافة". وتابع"نأيت بنفسي عن كل ما يستهلكني او يضعني في صراع لا طائل منه وعلى الرغم من هذا فأنا الوم نفسي كثيرا اذ كان يجب ان اركز اكثر في عملي". وها هو حسن سليمان يهمس لذاته قبل الآخرين عندما يقول" لم أشعر بالغيرة قط من إنسان اغتنى أو حتى صنع صورة جيدة..لا أغير..لا أحقد..لا أتنافس على شيء من متاع الدنيا، مثل هذه الأشياء أن اخذت بتلابيب الفنان فستعوقه ان يواجه السطح الأبيض الذي امامه بكل حرية وبكل تركيز ولم يشغلني قط ما يفعله الآخرون". وعن علاقته بمرسمه يقول حسن سليمان :"مرسمي كان فقط هو الذي يعطيني الطمأنينة ورضى يغمرني وسكينة في وجهي" فيما يوضح رؤيته للابداع بالقلم والريشة بقوله " الكتابة أو الرسم ليست فقط القلق والتوتر والمعاناة التي تدغدغ الحواس بل اصبحت لعبة اصطياد الكلمات أو الأشكال في حد ذاتها خطرة فالكلمات أوالأشكال يجب أن تحقق لك بالضبط ما تريد التعبير عنه وبالكيفية التي تريدها". إنه حسن سليمان الذي رفض العيش خارج الوطن وهو الكائن المتمرد الذي يعرف أن الفن دون تمرد لا يساوي شيئا فيما ظلت إبداعاته بالريشة، والقلم أو باللوحة والكلمة تنبع من روح هائمة بين عوالم الفن بكل أشكاله، وصوره. ومن الفنانين المصريين الكبار الذين جمعوا ما بين الريشة والقلم الفنان صبحي الشاروني الذي قضى في شهر اغسطس عام 2014 عن عمر ناهز 81 عاما ويعد احد رواد الفن التشكيلي المصري كفنان ومصور وناقد فيما وصفه شقيقه الأكبر كاتب القصة والناقد يوسف الشاروني في رثاء مؤثر بعد رحيله بأنه كان "شديد الطموح منذ شبابه الباكر وتفتح مواهبه المبكرة". وصبحي الشاروني الذي ولد العام 1933 عمل كصحفي متخصص في نقد الفنون الجميلة في صحف واصدارات دار التحرير لم تكن الكتابة بعيدة عن موهبته الشاملة الجامعة حتى انه اسس دارا للنشر حملت اسم "كتابات معاصرة" ونشرت اكثر من 40 عنوانا على مدى خمس سنوات مابين عامي 1968 و1973 لكتاب ومبدعين في عالم السرد من اجيال متعددة مابين نجيب محفوظ ويحيي حقي وعبد الحميد جودة السحار وثروت اباظة ومحمد عبد الحليم عبد الله ومحمود البدوي ويوسف ادريس والفريد فرج وإدوارد الخراط وجميل عطية ابراهيم ونعيم عطية وغالي شكري. كما تشمل هذه القائمة لإصدارات دار النشر التي أسسها هذا الفنان المصري الكبير اسماء لكتاب مثل لطفي الخولي وأبو المعاطي أبو النجا ومحفوظ عبد الرحمن وحسن محسب وعبد العال الحمامصي وعبد الغفار مكاوي وجلال العشري وجمال الغيطاني واقبال بركة، ورأفت سليم. واذا كان الدكتور صبحي الشاروني والذي حصل على الدكتوراه في فلسفة الفنون الجميلة من جامعة حلوان العام 1994 قد نشر أول كتاب نقدي عن شقيقه يوسف الشاروني بعنوان "الخوف والشجاعة" واستهله بقصتين من قصصه فمن الطريف كما يتذكر يوسف الشاروني ان شقيقه صبحي الشاروني ترجم اعجابه في منتصف خمسينيات القرن العشرين بالممثلة الأمريكية الشهيرة والشابة حينئذ مارجريت اوبراين بأن شكل لها "رأسا من الجص" لتتجلى موهبته المبكرة في فن النحت كما تجلت في فن التصوير واللوحات التشكيلية. ولأن عشق الوطن والأرض سمة لكل فنان أصيل ويجيد "قراءة النور في القلوب والأرواح" فإن صبحي الشاروني لم يختلف عن منير كنعان في عشقه للبيئات المصرية بتنوعها وحرصه على إبداع أعمال فنية سواء عن الصعيد أو دلتا النيل وواحة سيوة.