تشهد الأزمة السياسية السورية مرحلة أخرى جديدة في ضوء مفاوضات جنيف-3 التي تنطلق في التاسع والعشرين من يناير 2016 برعاية أممية، إذ أعلنت الأممالمتحدة أن تلك المفاوضات ستبدأ "غير مباشرة" وبدون شروط مسبقة، وقد تستمر لستة شهور، داعية المفاوضين والقوى الدولية لإنجاحها. فبعد "جنيف -1" في 2012، و"جنيف 2" في 2014، واجتماع فيينا في نوفمبر 2015، وقرار مجلس الأمن في ديسمبر 2015، يعول المحللون والمراقبون على أن يؤسس لقاء "جنيف 3" لتدشين مسار سياسي جديد للأزمة في سوريا، وتجاوز العراقيل المحلية والإقليمية والدولية التي تهدد بإفشاله. المنبر المحوري تأتي مفاوضات "جنيف 3" على خلفية تصويت مجلس الأمن يوم 18 ديسمبر 2015 بالإجماع على مشروع قرار أمريكي رقم 2254، ينص على بدء محادثات السلام بسوريا في يناير 2016، والإقرار بدور المجموعة الدولية لدعم سوريا، باعتبارها المنبر المحوري لتسهيل الجهود الأممية الرامية إلى تحقيق تسوية سياسية دائمة في سوريا. وقد نص القرار على ضرورة إنجاح المفاوضات بين السوريين، تحت الإشراف الأممي، وتنتج هيئة حكم ذات مصداقية، وتشمل الجميع وغير طائفية، مع اعتماد مسار صياغة دستور جديد لسوريا في غضون ستة شهور، مع إجراء انتخابات في غضون 18 شهرا بإشراف أممي. ولإنجاح ذلك، شدد القرار على ضرورة وقف شامل لإطلاق النار في كل المناطق السورية مع بدء الخطوات الأولى لعملية الانتقال السياسي. وفي إطار الجهود الدولية والإقليمية المبذولة لحل الأزمة، عقد كل من وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة سيرجي لافروف وجون كيري سلسلة لقاءات قبل انطلاق المفاوضات، التي تهدف للمساعدة على حل الأزمة السورية، في ضوء اعتراف الطرفين بوجود خلافات عميقة حول شكل مستقبل سوريا، وتصنيف الجماعات المسلحة. كما أسفر اجتماع المعارضة السورية الذي عقد بالرياض يوم 20 يناير الحالي، عن إعلان تشكيل الوفد المفاوض في محادثات "جنيف 3"، فتم اختيار العميد أسعد الزعبي رئيسا للوفد المفاوض، وجورج صبرا نائبا له، ومحمد علوش كبيرا للمفاوضين. واشترط المنسق العام لهيئة المفاوضات التابعة للمعارضة السورية رياض حجاب إنهاء حصار المدن والبلدات لحضور المفاوضات، مشيراً إلى أنه لا يمكن لفريق المعارضة المشاركة في المفاوضات إذا انضم طرف ثالث إلى المحادثات، متهماً روسيا بالعمل على عرقلة سير المفاوضات. ومن المقرر أن يقود دي ميستورا المفاوضات في شكل غير مباشر عبر اتصالات مع ممثلي الحكومة والمعارضة في غرف منفصلة، وتستمر الجولة الأولى نحو 10 أيام على أن يعقد وزراء خارجية "المجموعة الدولية لدعم سوريا" مؤتمراً في فيينا في 11 فبراير المقبل، لتقويم نتائج الجولة الأولى ووضع أسس سياسية لدفع الجولة اللاحقة. مرجعيات "جنيف 3" يؤكد المراقبون أن "جنيف-3" يعتمد على خلاصات لقاء فيينا يوم 14 نوفمبر 2015 الذي حضرته 17 دولة وثلاث منظمات دولية ناقشت وضع إطار انتقال سياسي في سوريا. إذ أكد البيان الختامي للقاء فيينا، على اتفاق الأطراف المشاركة على جدول زمني لتشكيل حكومة انتقالية في سوريا خلال ستة شهور بعد انطلاق المفاوضات وإجراء انتخابات خلال 18 شهرا، ومحاربة "الجماعات الإرهابية" والضغط على كافة الأطراف في سوريا دون تمييز ل وقف إطلاق النار وإنهاء العمليات العسكرية. فضلاً عن ذلك، يعتمد "جنيف 3" على تفادي وتجنب سلبيات "جنيف 2"، والتي كان من أبرزها آلية التفاوض بين وفدي التفاوض عن المعارضة والنظام، حيث تمسك وفد الأخير بضرورة تركيز النقاش حول "الإرهاب أولا" بينما كان الاقتراح مناقشة الحكومة الانتقالية والمصالحة الوطنية ووضع أجندة تؤسس لمستقبل أفضل لسوريا. ونظراً للتباين الواضح بين مطالب الطرفين، أعلن الوسيط الأممي والعربي الأخضر الإبراهيمي حينئذ انتهاء جولة "جنيف 2" دون تحقيق نتائج، لكنه تم الاتفاق على جدول أعمال لجولة ثالثة وافق عليها الطرفان، ويتضمن أربع نقاط وهي، العنف، والإرهاب، وهيئة الحكم الانتقالي والمؤسسات الوطنية، والمصالحة الوطنية. خطة أنان وكانت "مجموعة العمل من أجل سوريا" قد أصدرت عقب اجتماعها بمدينة جنيف يوم 30 يونيو 2012 بيانا تحدث عن ضرورة الضغط على جميع الأطراف لتطبيق خطة البنود الستة المعروفة ب"خطة أنان" بما في ذلك وقف "عسكرة الأزمة" مشددا على أهمية حل الأزمة "بطريقة سياسية وعبر الحوار والمفاوضات فقط، الأمر الذي يتطلب تشكيل حكومة انتقالية، من قبل السوريين أنفسهم". كما تحدث عن ضرورة إقامة هيئة حكم انتقالية تضم الجميع دون تمييز، على أن يكون الشعب السوري هو من يقرر مستقبل البلد، وإقامة نظام دستوري جديد وتنظيم انتخابات جديدة نزيهة. وتضمن البيان ضرورة الإفراج عن المعتقلين واحترام حرية تشكيل الجمعيات وحق التظاهر، والسماح للمنظمات الإنسانية بالوصول إلى جميع المناطق، وذلك إلى جانب احترام تطلعات الشعب السوري في إنشاء حكومة ديمقراطية تعددية. وعكست تصريحات جون كيري وزير الخارجية الأمريكية خلال لقائه المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب في الرياض ما بدا تغيرا فى مفردات الموقف الامريكي علي نحو جعل البعض يعتبرون ذلك بمثابة "إنحياز للنظام السوري" إذ أبلغ كيري حجاب بأن للمبعوث الأممي الحق في تشكيل الوفد المعارض إضافة لإمكانية دعوة مفاوضين أو مستشارين من خارج الوفد الذي أعلنه اجتماع الرياض. كما أكد كيري في هذا السياق أن المفاوضات ستتمحور حول تشكيل "حكومة وحدة وطنية" وليس "انتقالية"، إضافة لإمكانية ترشح الرئيس بشار الأسد للانتخابات. وأما إجراءات حسن النية التي طلبتها المعارضة لبدء المفاوضات فستكون على طاولة النقاش مع النظام وليست شروطا مسبقة له. ويرى المراقبون أن ملامح هذا التغير تعكس ما بدا يظهر كتوافق في الرؤيتين الأمريكية والروسية فيما يتعلق بمستقبل الأسد، وهو الأمر الذي يأتي مخالفاً لبعض الجهود الإقليمية التي تدعم موقف المعارضة السورية، وإزاء هذه الحالة من التجاذبات السياسية الدولية والإقليمية،فإن مفاوضات جنيف 3 المرتقبة تبدو محل شكوك ومخاوف في نتائجها.. لكنها فى المقابل ربما تظل على الأقل تؤسس لمسار سياسي جديد يضع حلاً للأزمة السورية التي طال عليها الامد.