حسن فتح الباب عنوان مرحلة المقاومة والشعر الحر بائع الفل والصياد والجندي .. مهمشون حركوا إبداعي رفضت عبودية الأحزاب .. فاتهموني بالشيوعية وبالإلحاد! نخب الثقافة يهمها السلطة .. والتغريد خارج السرب له ثمن ناصر أعاد الكرامة.. وأكتوبر عبر بنا جراح النكسة السادات انقلب على الثورة .. ومبارك طاغوت عصره البوليس السري وفلول الإقطاع أضاعوا أحلام ثورة يوليو الشاعر يعترف : أكرهت على صون صقور السلطة من نظرات الحمائم! "الخريف الجهم خلف الباب... والرحلة حانت.. والجياد .. وقفت بين الفصول الأربعة .. أبصرت ريح الشتاء .. ركبتها.. أجفلت فقدت غرتها.. أعرافها..مادت إلى الطين..هوت كل الغصون في سراديب الضلوع العارية .. فقدت كل الدروع" وبالفعل فقد حانت رحلة الشاعر الفذ حسن فتح الباب ، والذي وافته المنية عن 92 عاما مؤخرا، وقد تكرس اسمه منذ الخمسينيات, في حركة شعر التفعيلة, مشاركا في تأسيس البنية المغايرة للقصيدة الجديدة, وقد درس القانون وتدرج بسلك العمل الشرطي حتى صار مديرا للقضاء العسكري، لكنه ترك كل ذلك واستقال بسبب ممارسات المنتسبين للشرطة والتي تسيء لإنجازات هذا الجهاز العظيم.. ظل وفيا للبسطاء والمقاومين ، يرعاهم بأشعاره ، حتى عده النقاد من طليعة شعراء المقاومة العرب. أصدر الشاعر دواوين عدة ومنها : "من وحي بورسعيد" 1957، "ضابط في القرية" بالعام نفسه، "فارس الأمل" (1965) "مدينة الدخان والدمى" (1967) و"عيون منار" (1971) حبنا أقوى من الموت (1975) و"أمواجاً ينتشرون" (1977) و"معزوفات الحارس السجين" (1980) و"رؤيا إلى فلسطين" (1980) و"وردة كنت في النيل خبأتها" (1985) و"مواويل النيل المهاجر" (1987) و"أحداق الجياد" (1990)، إضافة إلى الأعمال الكاملة (1995) و"الخروج من الجنوب" (1999).. وقد أصدر مجموعتين باسم "شجرة ورد خلف الشط الآخر" و"أما النهر الساجي فتمرد".. وكان يستعد لإصدار ديوانه الأخير " أصداء من ناي بعيد" . وإلى جانب الشعر، قدّم الراحل مجموعة مؤلّفات نقدية من بينها "رؤية جديدة في شعرنا القديم" و"شعر الشباب في الجزائر بين الواقع والآفاق" و"المقاومة والبطولة في الشعر العربي". وبرغم قامته العظيمة، فلم ينل الشاعر ما يستحقه من تكريم ببلده مصر، لأنه كما يقول لم يكن يسير على هوى السلطات في مراحل حياته، وكان قد حظى بجائزة البابطين الكويتية للشعر في حياته. وحين نقلب بدواوين الشاعر، نجد حنينا للحرية والصفاء البشري، ونتلمس دفء الكون، فمن ديوانه "شجرة ورد خلف الشط الآخر" كتب من منا يقتحم الإعصار يقتلع الصبار يغرس شجرة ورد خلف الشط الآخر ليفيض الطوفان ويموت الموت! ولقد أصدر الشاعر ديوانا خصصه لشهداء ثورة يناير، وأسماه "وجوه في الميدان" واستعاد وجوه أحمد حرارة وخالد سعيد وغيرهما من أيقونات الثورة المصرية ، وظل يردد أن الطاغوت سقط بعد أن جثم على صدر الوطن ثلاثين عاما من الفساد والاستبداد وجرف وعي وضمير المواطن، وشجع مستغلي الدين والفاسدين، كما أيد ثورة 30 يونيو وعدها استكمالا لنهج الثورات النبيلة ، ورغم الإحباطات المصاحبة لمرحلة المخاض التي يعيشها الوطن، لكنه ظل متفائل بأن عقارب الساعة لن تعود للوراء . وتعج دواوين فتح الباب بأشعار التراث العربي بعصوره المختلفة وصولا للشعر العربي المعاصر، فتتضافر كلمات المتنبي مع مطران ودرويش، وتحيطك كلماته بسحب شفافة شجية، ففي ديوانه "فوق العاصفة" يقول بقصيدته نجمتان : أُشعل شمعة لعلها تضيء لي الماضي الذي انطفأ أسأله: ماذا جنيت حين عدوت في طريقيَ الطويل لعلني أقطف نجمة المساء رأيتها كأنها لؤلؤة تسبح في الضياء تصحبني في ليليَ الغريق أشدو لها.. لعلها تُعِيرني سفينته من بحرها صغيرة تمخُر في الُعباب لعلها تُقِلُّني إلى سواحلٍ بعيدةٍ عن أعين القرصان تمنحني الأمان اعترافات البلبل على الجلاد في مذكراته التي تذكرنا ب"يوميات نائب في الأرياف" نجد حسن فتح الباب يعرف "الوجوه بأسمائها" كما أسمى مذكراته، والتي جاءت كشاهد على مرحلة فارقة من تاريخ الأرض وناسها، حيث شهدت ميلاد ثورة يوليو بقيادة الضباط الأحرار، وصاحبتها الآمال العظمى من الثوار، ووصف الشاعر / الضابط انحرافات الثورة والتي مكنت طبقة الإقطاعيين الرأسماليين من الاستمرار بنهش أقوات الغلابة، وظلوا هم المتحكمين بكل شيء بنفوذهم وسطوتهم وعلاقتهم بالسلطة. غلاف الديوان وقد ظل الشاعر منبوذا من "النخبة الثقافية" ، خاصة من المنتمين للحزب الشيوعي المصري، وقد عدوه جاسوسا متلصصا عليهم، بحكم عمله الشرطي، واتهموه بتهم مختلقة ليثنوه عن استقلاليته الحزبية ويجبروه على التحزب مثلهم، والحق أنه ظل عصيا عليهم، كان يميل فكريا للأفكار اليسارية التحررية، ودعا للمقاومة من الجزائر ومصر، لكنه ارتأى أن الإنضمام للعصبيات الحزبية يفقده ضميره، فالشاعر والكاتب لا يمكن أن ينتمي لعمل سري، وكان برغم ذلك تربطه صداقات حقيقية بعدد كبير منهم . وظل الشاعر كما يروي بمذكراته يستنكر ما قام به البوليس السري من اعتقالات عشوائية في زمن عبدالناصر، وقد اتهم بأنه ناصري النزعة وأنه موال للسلطة على طول الخط بعد عدة قصائد كتبها تأثرا بمواقف ناصر العروبية والتي تنتصر لشعوب العالم الثالث ومنها دعمه لحركة عدم الانحياز ودفاعه عن فلسطين ووقوفه بوجه الطاغوت الأمريكي وتابعه الإسرائيلي، وكان محقا بذلك، ولكن الكاتب يؤكد بمذكراته أن حبه الجارف لعبدالناصر لم يجعله يتوانى عن نقد اخفاقاته ، ومنها إطلاق يد البوليس السري الذي كان واحدا من ضحاياه وتعرض لاستجوابات مريرة تتهمه بنقد النظام وتحاسبه على كل كلمة بأشعاره! وقد اتهم بالشيوعية مجددا بعد قصيدته الرمزية "اغنية إلى جاجارين"، ثم رموه بالإلحاد بعد صور مجازية كتبها بقصيدته "والعالم في عيني إله .. يستخفي في صورة انسان .. جمعته رغم شتيت الاوطان .. أيد قادرة أن تقهر .. وتردد أغنية النصر "وقد كتبها بمناسبة صعود أول رائد فضاء للقمر وإيمانه بدور العلم . أما المثقفون فأسماهم "عوادي يوسف عليه السلام وصواحبه " كما قال أبوتمام، لأنهم يتلونون بتلون الأنظمة. كان الشاعر يتمزق وهو مجبر على مواصلة عمله الشرطي، الذي لم يختره يوما، فقد كان طالبا بكلية الحقوق وصدر قرار بتحويل بعض المنتمين إليها للشرطة لمنع الجمع بين كليتين، وظل الإنسان بداخله يرفض الجور على البسطاء أو موالاة الطبقة الإقطاعية، وكان رؤساؤه يقصونه عن القاهرة ويبعدونه للمناطق النائية لتجنب نشر أفكاره بين رفاقه . شاهد الكاتب بعينه كيف يعيش عمدة أي قرية كإله يُعبد، ومفت ديني واجتماعي، وحاكم يسوسهم ، بل وكانت سطوة العمدة مستمدة من رشوة مراكز الشرطة التابع لها، والإغداق عليهم بالهدايا، ويعتمد في قوته على إنتمائه للحزب الحاكم أيا كان يمينا أو يسارا، وما زال هذا النظام سار حتى يومنا، فهم اشتراكيون ثم وطنيون ولا فرق! . وقد كان العمدة الذي شاهده يسحب المجندين لخدمته بأرضه بنظام السخرة! وقد عارض الضابط حسن فتح الباب هذه الممارسات فلم ينل إلا النقل من وظيفته ! وتظل التقاليد المملوكية بتولية العشائر مقاليد المحليات فيما تتولى الأسرة الحاكمة المناصب العليا الرئاسية الحاكمة! يوميات عازف مجهول ي قول عن أيام القرية : "لم تكن الخيل والليل والبيداء تعرفني كما عرفت المتنبي، بل كنت سجانا سجينا وعازفا مجهولا". وبرغم ذلك أفلح بكبح العمدة الأفعى، الذي يسخر الحكومة لمصلحته، ونجح بضبط الأمن بالقرية، وظلت الشرطة هي الساهرة والناس نيام ، وقد حول محنته لمنحة بعد أن استغل الصمت المطبق بالريف لإيقاظ الشاعر بداخله وتأليف الدواوين . وفي القاهرة، وتحديدا بحي شبرا، كان بيته الأثير، مع زوجة وفية لطالما شجعته على الكتابة والتدوين والإبداع، وصبرت على ظروف عمله التي يندر بها الإجازات. كان يتأمل بشوارع القاهرة كيف يسير الغرباء البؤساء بين طبقة من المرفهين بالمطاعم والنوادي، وكيف أن هناك انقساما طبقيا حادا يقسم المجتمع بين أغنياء وفقراء، وهو ينافي اهداف الثورة التي انطلقت لأجل تحقيقها. عناقيد الغضب يقول بمذكراته : حين نقلت الإذاعة أنباء الاعتداء الثلاثي على مصر تفجرت بنفسه عناقيد الغضب، وتمنى لو كان في خط النار، وقد كتب ديوانه من وحي بورسعيد في عام 1957، كانت المعركة هي ما تبقى من كرامة الشباب العربي بمواجهة المستعمرين، وكانت صيحة عبدالناصر "سنحارب" هي صيحة كل عربي، بل صيحة أمريكا للاتينية وآسيا التي تضامنت مع المقاتلين لاسترداد أرض القنال، وبالفعل اندفعت عجلة التاريخ للأمام مكتسحة الأعشاب السامة التي خلفها الوحش الاستعماري، وأذنابه على أرض الوطن، وقتها لم يكن الاستعمار المقنع قد ظهر ولا لاح الوجه القبيح لأمريكا حين عرضت على ثورة 23 يوليو مشروع أيزنهاور في ظل سياسة الهيمنة على العالم من طريق فرض الأهداف العسكرية. ويشيد الكاتب بوعي الشعب المصري الذي هب دفاعا عن قائده رغم الهزيمة في 67، وقد كتب قصيدته "أغنية إلى جمال عبدالناصر" وضمها لديوانه "مدينة الدخان والدمى" التي كتبها من قلب أمريكا عام 1965 وصدرت عام النكسة، وتساءل الشاعر في كآبة : هل كتب على عرب القرن العشرين أن يكونوا شر أمة أخرجت للناس، وكتب للصهاينة أن تتحقق أسطورتهم من النيل للفرات! كما كتب الشاعر يشحذ همم الفيتناميين ضد أمريكا التي شاهد قسوتها حيث كان موفدا هناك ببعثة لأكاديمية الشرطة أواسط الستينيات. وعن عبدالناصر يكتب : الحقيقة أن الرجل تعرض لجدل كبير حول دوره ، بين مؤيد ومعارض، فالوفديون يحرمونه من كل ميزة والناصريون يكادون يؤلهونه، لكن جيل الأربعينات والخمسينات ظل يؤمن بحتمية ثورة يوليو وأنها ثورة شعب لا انقلاب عسكر، كان الناس قبلها أكثر حرية لكن ما فائدة الحرية لمن لا يملك قوت يومه! كانت الطبقات الملكية الفاسدة والإقطاع وصنائعهما من المتمصرين والأجانب من بقايا نظام الامتيازات ينيخون بكلكلهم على اصحاب البلد الحقيقيين العناة ، فضائح الملكة نازلي ومباذل فاروق ونفاق أشباه الرجال من الحاشية ورجال الدين ظل الشاعر ينتقد تصرفات نظام عبدالناصر ومنها قتل صاحب كتاب "تاريخ الحركة الوطنية" شهدي عطية، وتنفيذ أحكام إعدام ضد قيادات الإخوان المسلمين، بدون ثبوت أدلة تورطهم بالقتل، ورأى أن ذلك كان إحدى عوامل انكشاف عورات ثورة يوليو . وبشكل صريح يرى حسن فتح الباب أن نظام السادات كان استيلاء محضا على سلطة الحكم في مصر، وقد أحال الرجل أهداف الثورة إلى رماد، بعد تحكيم ذوي النزعات الإمبريالية الغربية والرأسمالية على مقدرات المصريين. لقد دب الرعب بقلب السادات بسبب تهديدات أمريكا بانها لن تصمت على هزيمة إسرائيل، فألقى خطابه الشهير في 24 أكتوبر آمرا بوقف إطلاق النار، لان مصر لا تقوى على مجابهة أمريكا! يقول الكاتب : على الرغم من أن بيان 30 مارس 68 لم ينفذ فيما يتعلق بالديمقراطية والقضاء على الفساد، ومحاكمة قادة الجيش المسئولين عن الهزيمة المروعة، وكشف الأسرار التي حجبت عن الشعب مما ادى لمظاهرات الطلبة للمطالبة بالمحاكمة، وما اقترن من الخلاف مع منظمة التحرير الفلسطينية بسبب قبول عبدالناصر مبادرة روجرز ما يعني التنازلات لما تتضمنه من اعتراف باسرائيل، وناصر لجأ لذلك كتكتيك سياسي مرحلي لا اجراء استراتيجيا برأي الكاتب، وقال للفلسطينيين أنهم غير ملزمين بهذا الاعتراف، غير أن اشتعال حرب الاستنزاف كان عملا بطوليا بكل المقاييس. ومن أمريكا يكتب لفلسطين : قصت شعر الفارس أيدي صهيون جدلت أحبالا للأطفال الجوعى بقرت أحشاء نساء كانت ترضع أطفال العرب المقهورين ويل للجبارين المهزومين مات صلاح الدين فليبعث ألف صلاح الدين ليعود طريد للمجدل يلمع في جبهته وهج الشمس وتضيء بعينيه الربوات وتعود الرايات الخضر أزهارا فوق الزيتون ومناديل على البيارات وفي ديوان "عيون منار" وهو اسم ابنته ، يكتب عن النكسة : نامت على صفارة الأمان تغمض عينيها على سؤال أين حكاية المساء من أطفأ الأنوار ماما .. وأغضب السماء ؟ ظل الطاووس الأسود المعصوب العين "موشى ديان" بعد اجتياح الأرض المصرية سيناء التي تبلغ مساحتها ثلث مساحة مصر قابعا في مأمنه غير بعيد من الشط الشرقي للقناة ينتظر المكالمة الموعودة من عدوه اللدود جمال عبدالناصر والطريق مفتوح من القناة إلى القاهرة والجيش الثاني محاصر في سيناء وبيجن رئيس عصابة أراجون يتجول ممراحا في ارض الفيروز المحتلة ليتفقد جيشه الذي لا يقهر في زعمه وليكيد مصر، لكن الفتى عبدالناصر سليل المصريين بذل جهدا مستميتا مع رجاله لإعادة بناء الجيش بادئا من الصفر، وهو الجيش الذي تناثر على رمال سيناء أشلاء ، واستعادوا الحلم الذي تبدد، واستيقظ الوعي الذي همد. و بعد نصر أكتوبر يكتب فتح الباب : ..أيها الحالمون بحثنا عن السر لم نلقه فحفرنا القناه وشدنا جسورا من النار تحت المياه التي أغرقتنا فأخرجنا الموج ..ويل المدائن قد غادرت نهرها في الجنوب القرى ..أيها الحالمون .. وكان هتاف الضحايا دليلا! مع ملح الأرض .. لا يغيب المهمشون عن قصائد حسن فتح الباب، فقد صادف يوما فتى ضرير كان ينتظره كل يوم بابتسامة وكتب فيه يقول : كل صباح ألتقي بطلعته كالظل تحت خيمة الغروب كالعود في بيادر الحصاد يطل بالجبين .. يضمر الحنين ويرشق الطريق لكن بلا عيون وينتقد الكاتب النظرة للفلاح باعتباره منعما، على غرار محلاها عيشة الفلاحة، وهي نظرة سوقها الإقطاعيون، ثم كانت هناك نظرة ترى فيهم مثالية فائقة، فهم أشداء متحملون، بنوا قناة السويس بعرقهم، لكن لم يكن الكثيرون يقتربون من ذلك السوط الذي يلفح ظهر أحدهم إن طلب شربة ماء في وقت العمل! ولا أولئك المدفونين تحت أكوام التراب بالعزب والمشاريع التي يمتلكها الكبار، وقد تعلم الكثير من شابين أميين قضيا وقتا بخدمته بالشرطة، كان منهم محمود الخفير الذي بكا أحيانا من خوفه وهو يحمل السلاح، وقد جسده بواحدة من قصائده إلى جانب الأمهات اللائي كن يفئن للمركز لتسلم متعلقات أبنائهن من الشهداء! يقول الخوف تغمر السفوح والوهاد ظلاله الكئيبة وتعصر القلوب كفه الخضيبة والقرية الخضراء في سواد ولم يزل صديقي الوديع تصافح التراب قبضته وغيمة الأسى تظل جبهته ويقترب الاديب بمذكراته كثيرا من فئة الصيادين الذين يبخسون حقوقهم بالريف، وقد رآهم بخدمته بكفر فيشا، حيث شاهد قاربا صغيرا يقطن بؤساء بجحر فيه، ومنذ ذلك الحين نذر نفسه صوتا للمقهورين، وقد كان متولي يغطس لقاع البحيرة ويسعى لصيد سمكة بيديه ، بلا شبك، لأنه فقير، فيما كان النافذين يحجزون الأسماك بحائط سد بنوه ، ويصطادونها بشباكهم القوية، فيجوع صغار متولي ويتساقطون ! كل ذلك والشرطة تتقبل الرشاوى من الفواكه الموسمية والأسماك كي تصمت! بقصيدته "دم على البحيرة" جسد مأساتها ، ومنها يقول : يا أهل القرية لا يبرح رجل داره لا يهبط صياد ادنى الجسر بئس العيش خضيبا في بحر دماء إني أسمع للريح مناحة وعويل نساء في الشاطيء يحملن الأطفال ورفيقا تحت النجم قتيلا لم يدع الشبكة تهوي من يده حتى لفظت جثته الأمواج لم يتأثر الشاعر فتح الباب بالميثولوجيا الغربية الأسطورية، كعادة الشعراء بعصره ، وقرر استعارة صوره من الواقع مباشرة والذي وجد فيه ما يفوق الخيال . وقد وجد ببولاق ذلك الحي الشعبي الذي خرجت من أحشائه نار الثورة الأولى والثانية على نابليون وجنوده سنه 1798 قبل أن تستقر أقدامهم وسنابكهم الغازية على أرض مصر، وهو مخزن الانتفاضات والمظاهرات التي تشتعل كلما استفحل البغي. ظل شارع بولاق محفوفا بالمهابة حيث استشهد فيه رجال فتح مصر على يد عمرو بن العاص، وتذكر ضريح الخضر ، كما كتب قصيدته الرائعة صابر في هذا الوقت وهو أحد شهداء الحي بالنكسة . وفي بولاق كانت الشرارة التي تحولت لجذوة من الحريق أسماها الشاعر "صابر – حكاية صياد من السويس" سنة 1967 واستمر الحي بأبطاله الفقراء المغمورين يسكنه حتى المنفى فوجده يوم 16 يونيه 1979 في قصيدته "استطرادات في ليل وهران" التي كتبها بالجزائر هو الحب يطفئه صمتنا ويحييه حقد على قاتله فثوري لنسترجع الأغنية فقد أورق الجرح شمسا وقمحا وثوري على السيف فوق الرقاب ولا تجزعي .. نصله من خشب ومقبضه من ورق وفي لبنان، يتذكر حسن فتح الباب ذلك الصياد اللبناني الأسطوري بقصيدته "عيون منار" 1971: والتي تنتهي بعبارة "المشنقة أرجوحة الأبطال ". كما يتذكر قصيدته الناي سنة 1975 أسمع نايا .. لا أرى وجوه من أحببتهم ومن أحبوا أن يروني قبل أن ينطفيء الشعاع سرت بعيدا .. بيتكم من الزجاج والشبابيك التي غنت مواويلي ولم تمل صحبتي هوت من الذكرى قتيلة يقول بقصيدته القاهرة مدينتي ولم يزل موالهم يدور محبوبتي .. القاهرة ظلت القاهرة مرتبطة عنده بالشبابيك التراثية التي تراصت أمامها القلل الغنية بالماء العذب المعطر بالنعناع وببائع الزهور البيضاء الفواحة . ويعود الشاعر من الجزائر بنهاية 1983، فيكتب قصائده "أغنيات فلاح فصيح". كانت الوزارة ترى أن بقاء الكاتب بسلك الشرطة يحقق هدفهم بمحاصرته ، وهو ما صرح به وزير الداخلية آنذاك عبدالعظيم فهمي لوزير الثقافة د . ثروت عكاشة، ودقوا أسافينهم بعد علمهم بأنه عمل بالجبهة الوطنية المصرية بالجزائر، ممثلا لتجمع الوطنيين التقدميين بالخارج، وتذكر ما قاله شاعر قديم "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند" وفي قصيدته "شوارع المدينة" يصف القاهرة فيقول : مباركة أنت يا مدينتي بنور الحبيب، مسيجة بأضلاع القلوب أنا لحبيبي وحبيبي لي .. فلتحتضن أعشاشها الطيور العائدة، ولتشد ملء الوجود ربة النغم.. سيمفونية الضياء والعبير، رقصة الجناحين في الأعالي.. قربي غصنك الرطيب يا أخت روحي يزهر في ساعدي، وقري عينا يا توأم الحلم الجميل.. لقد عرف مع رفيقة العمر زهو ارتياد المطاعم والمسارح وموائد العاشقين على النيل. ولكن عمر الورود قصير، ولابد للمترجل أن يعود إلى صليبه حتى يرى من سمائه الحدباء الوجه الآخر للقاهرة، وجهها الحقيقي.. الشوكة المستكنة تحت أكمام الزهر ومرارة الصبار.. تلفظ القاهرة ضحاياها على أرصفة الليل العارية اللامعة كل مساء .. وصناديق القمامة جوعى إلى المزيد، كما يكتب ! اعتراف أخير في قصيدة الزوبعة يعترف الشاعر أخيرا أنه جعل نفسه بخدمة السلطان وقام بحمايته من احتمال تمرد المستضعفين عليه لاسترداد حقوقهم منه ويجبي الاموال من عرقهم المسفوح ويقدمها له غنيمة باردة ، وكان مكرها على ذلك، وحاول أن يثأر لهؤلاء وأسكته الغاشم المستبد وأرغمه على حمل سوطه ليجلد ظهور العناة! وقد أتبعها بعدد من القصائد تسير على نفس النهج كقصيدة "الرمح" التي يصور بها نفسه أميرا لفقراء لا يملك شيئا، وكذلك قصيدته "الراية" و "مفترق الطرق وحلم الغريب " حيث يقول أنه ليس قديسا مقاتلا .. في قصيدته "الزوبعة" يقول : أصيح في مفترق الرياح يا من يبيعني جراحه بقلعتي .. والقوقعة بصهوة الجواد والرماح أصحو على منام سادتي العراة أبيت سجانا على جماجم الرعاة أنا السجين في قيود العرى دمية ودمعة تفاحة وجمجمة أنا سجين الزوبعة لكنه يعود في قصيدته "الموكب" ليؤكد حلمه ويطارده مع عصفور صغير فيقول : هرولت أفسح الفضاء للبشير تشبثت عصفورة شاردة بخطوتي لتجتلي الحدائق المعلقة من كوة تطل من أقدام عسكر الأمير ذكرت أنني أسير وددت لو علقت في جناحها الكسير لو أننا معا نطير