لا صوت أعلي في مصر الآن من صوت المليارديرات والفاسدين، وهم يلوون عنق الحكومة التي تتجبر علي الفقراء والموظفين إذا لم تكن كلمة الناس نافذة، وإذا جري تعليب البرلمانات والانتخابات، فاحذروا غضب الشوارع الذي لا يبقي ولا يذر. وبينما نكتب هذه السطور، فإن غضب الناس يجتاح ميادين العواصم، ومن بغداد إلي بيروت إلي «كوالالمبور» عاصمة ماليزيا، عشرات ربما مئات الآلاف في الشارع، ولا قبل لأجهزة الأمن بالمواجهة ولا إنهاء الظاهرة، فالغضب عارم، ليس لأن هذه البلدان بلا برلمانات، فالانتخابات العامة تجري، والتصويت الدوري يحدث، والأفراح والليالي الملاح تقام يوم إعلان النتائج، والحكومات تتشكل بالأغلبية كما يجري في ماليزيا، أو بالتوافق، وتشكيل ما يسمي حكومات وحدة وطنية كما في العراقولبنان، لكنه توافق العفن ووحدة الفساد، والضحك علي ذقون الناس بخلافات السياسيين ومشاجراتهم التليفزيونية، بينما الفساد يحكم ويعظ، وينتقل من يد إلي يد، ودونما تمييز بين قادة أحزاب دينية أو أحزاب طائفية كما يجري في بغدادوبيروت، أو بين أحزاب مدنية «إسلامية» كما يحدث في ماليزيا، وحيث يحكم حزب «الجبهة القومية» الموروث عن مهاتير محمد باني نهضة ماليزيا المعاصرة، والذي يفكر بالمشاركة في المظاهرات ضد خليفة خليفته نجيب عبد الرزاق، المنتخب ديمقراطيا، والمتهم بتحويل 600 مليون دولار من المال العام لحسابه الشخصي. والعودة إلي الشارع في عواصم المشرق العربي، وبالامتداد إلي ماليزيا المسلمة، يعكس غضبا يذكر بغضبة 2011، والتي تقدمت من الغرب في تونس إلي مصر في القلب، وكانت دوافعها مفهومة ضد حكم العائلات، بالتمديد للآباء والتوريث للأبناء، والتزوير المنهجي المنتظم للانتخابات والبرلمانات، وشفط الثروة والسلطة إلي أعلي، وحيث بلاط العائلة مع حوارييها من مليارديرات المال الحرام، كان غضب الناس تلقائيا جامحا جامعا، وحين ترك الناس الشارع، جرت سرقة الثورات لحساب قوي الثورة المضادة من الإخوان أو من فلول الحكم العائلي، ولاتزال الدراما متصلة إلي إشعار آخر، غير أن غضبة 2015 تنطوي علي ملامح مضافة لغضبة 2011، فهي تجري في بلدان لا توصف عادة بالديكتاتورية، ويصعب أن تصدق ديمقراطيتها في الوقت نفسه، فبقاء الحزب الحاكم في السلطة لوقت طويل، يولد الفساد، وحتي لو جري ذلك بالفوز الانتخابي المتكرر، وكما جري في تركيا وفي ماليزيا، فالسلطة مفسدة، والسلطة الدائمة مفسدة دائمة، وهو ذاته ما يحدث في لبنانوالعراق بطريقة أخري، فكل الأحزاب دائما في السلطة، وباسم التوزيع الطائفي للكعكة، أو باسم الوحدة الوطنية، أو باسم توافق الفرقاء، وتواطؤ الفساد الذي يسند بعضه بعضا، ويحول الدولة إلي مزرعة، بل يدمر الدولة ذاتها، ويحولها إلي خرائب وأطلال وأكوام نفايات، «طلعت ريحتها» من زبالة الشارع إلي زبالة الحكم. ولا تعد مظاهرات الإخوان في مصر من علامات غضبة 2015، فهي بقايا «تفل ناشف» في قيعان أكواب قديمة، والإخوان ليسوا أهل ثورة ولا غضب اجتماعي، بل أهل عنف وإرهاب و»دعشنة»، تجلب نفور الناس، وتعزل المتظاهرين المنكمشين، وتنحسر بالعطف عنهم، وتقوي أجهزة الأمن، ودون أن يعني ذلك أنه لا غضب في مصر الآن، بل الغضب طافح، وبسبب الفساد وغياب العدالة وتغول الظلم الاجتماعي، ويتحول الغضب أحيانا إلي مظاهرات ناطقة زاعقة علي طريقة ما يفعل معارضو «قانون الخدمة المدنية»، أو علي طريقة الأسباب المتراكمة لتمرد أمناء الشرطة، وكلها ظواهر توحي بإمكانية الانزلاق إلي غضب اجتماعي واسع، لا يصد فيه جهاز الأمن ولا يرد، ولا يستطيع تحمل تكاليفه ومضاعفاته، هذا بالطبع إن استمر الحال علي ما هو عليه، ولم يقم الرئيس السيسي بالثورة عليه وكنس ركامه، فالفساد لايزال يحكم ويعظ برغم قيام ثورتين، والسلطة لا تجرؤ علي الاقتراب من مكامن الفساد العظمي، وتأمل مثلا ما جري مع ناهبي الأراضي علي الطرق الصحراوية، فقد أخذوها بتراب الفلوس، وأحيانا من غير ولا مليم، ثم حولوا النشاط من استصلاح زراعي إلي سكن ومنتجعات، وحين أخذت الحكومة أخيرا حبوب الشجاعة، وأعدت قوائم بالمستحق علي المخالفين طبقا للقانون، وبلغت قيمته مئات المليارات من الجنيهات، وطالبتهم بالسداد، فلم يفعل هؤلاء شيئا سوي «الطناش» المزدري لقرارات مجلس الوزراء، ولم تفعل الحكومة سوي أن جعلت ظهرها للحائط، وأخذت تعطي السادة المليارديرات مهلة تلو مهلة، وهو ما تكرر إلي الآن أربع مرات، وتستعد لإعطاء المهلة الخامسة وليست الأخيرة، ودون أن يهرش هؤلاء جيوبهم، أو أن يدفعوا مليما من فلوس الدولة المنكوبة، تماما كما فعلوا بالامتناع عن الدفع لصندوق «تحيا مصر»، وبإرغام الحكومة علي سحب قانون الضريبة الرمزية علي أرباح البورصة، والإلغاء التام للضريبة الإضافية علي من تفوق مكاسبهم المليون جنيه سنويا، وعلي النزول بالشريحة القصوي لضرائب الدخل والشركات من 25% إلي 22.5%، هذا إن دفعوا الضرائب أصلا، ولم يتهربوا كالعادة بتزوير السجلات، فلا صوت أعلي في مصر الآن من صوت المليارديرات والفاسدين، وهم يلوون عنق الحكومة التي تتجبر علي الفقراء والموظفين، وتتهمهم بمحاولة «لي الذراع». وقد تتغير الأمور للأسوأ مع الجنازة الحارة المنصوبة الآن، والتي تحدثكم عن انتخابات وعن برلمان، وقد لا نشك في حدوث انتخابات التزم بها الرئيس، لكنها في الأغلب ستفرز برلمانا معروفا بأصله وفصله، برلمانا للمليارديرات والثورة المضادة، وبزعامة الفلول لا الإخوان هذه المرة، وبعملية شراء أصوات محمومة لم يسبق لها مثيل، وبعزوف أغلبية الناخبين عن التصويت، وهو ما يعني أننا سنكون بصدد برلمان يمثل أقلية الأقلية، ولا يمثل سوي مصالح الذين اشتروا مقاعده، بينما يبقي الفقراء والطبقات الوسطي بلا تمثيل حقيقي في البرلمان، وهو ما نتوقع معه أن يعود الغضب إلي الشارع، وأن يتحول الميدان إلي برلمان الناس لا الحراس. نقلا عن " الاخبار" المصرية