تتراكم قضايا الشأن العربى وتتداخل الأوراق وتزدحم التقاطعات بالمصالح المتعارضة دون بارقة أمل فى قدرة الحكومات على إنجاز رؤية تمنع منطقة الشرق الأوسط من الانزلاق نحو مزيد من الفوضي. وفى الوقت نفسه يتزايد خطر الجماعات الإرهابية يوما بعد يوم، وتضرب تنظيمات الدم بعنف فى كل جنبات المنطقة دون أن تلوح بارقة أمل على تحرك مشترك لوضع حد لتمددها الكارثي. الكل يعلم.. خطورة السكوت على تلك الأوضاع ورغم دعوات مصر المتكررة إلى أهمية الفعل الاستباقي وتكوين قوة عربية تواجه مصادر التهديد المتصاعد، فإننا لم نصل إلى ما يمكن أن يمثل بادرة تجمع الدول والحكومات على رؤية موحدة. لم تصل بعض الحكومات إلى قناعة بالحل المشترك لحالة البؤس الراهن التى تأكل الأخضر واليابس، وتشخص بعيونها إلى حلول تأتى من خارج المنطقة، ورغم التجارب المريرة لأدوار الآخرين فإننا لا نستوعب الدرس ولا ننظر إلى حجم الخطر بقدر ما يستحق وتهديدات جماعة مثل تنظيم الدولة داعش وفظائع جرائمه فى العراقوسوريا وليبيا وتونس. بدا العالم العربى قبل أيام قليلة وكأنه استيقظ فجأة علي الاتفاق بين الدول الكبرى وإيران بشأن برنامجها النووى الذى ترجمته وسائل الإعلام العربية والعالمية على أنه بمثابة بداية حقبة جديدة فى الشرق الأوسط وكسر لعزلة طهران فى المجتمع الدولى وبداية علاقات جديدة بين الغرب، وفى مقدمته الولاياتالمتحدة، وإيران. جاء الاتفاق بمثابة جرس إنذار إلى كل الأطراف المعنية أن الشرق الأوسط يتغير.. تغيير لن يكون على هوى العرب فى الغالب وسيفرض قواعد جديدة يتعين علينا القبول بها، لأننا لم نفعل ما هو مطلوب لمواجهة سيناريوهات خارجية غير متوقعة وربما غير مرغوب فيها منا.. من حق الإيرانيين أن يفرحوا بانتصار دبلوماسيتهم الصبورة، ومن حقنا أن نلوم البعض منا علي ارتهان مصير عالمنا العربى بعوامل متغيرة بعد أن ضاعت الثوابت فى غياهب المصالح الضيقة ورغبات السيطرة والظهور بمظهر الكبار فى خداع بصرى كشفه الاتفاق مع إيران حيث ارتعدت العواصم نفسها التى ظنت يوما أنها تملك رسم خريطة المنطقة بأموالها والميلشيات التى تدعمها فى عملية تفتيت دول ومجتمعات سيكون للتاريخ حكم قاس بشأنها عندما يٌكتب بإنصاف عما جرى من نفر منا. ردود الأفعال.. حتي الآن، تنبئ بضعف واضح فى إدارة العلاقات العربية الإيرانية حيث كانت عواصم عربية تعتمد على الدعم الأمريكى (الغربي) فى مواجهة سياسات طهران دون أن تبذل جهدا لعلاج الخلل الخطير بالاعتماد شبه الكامل على الصديق الأمريكي، ولم تفلح جهود إثناء الغرب عن توقيع اتفاق يضمن عدم حيازة إيران للسلاح النووى لمدة تصل إلى 15 عاماً وفشلت جهود الغرف المغلقة سواء فى واشنطن أو فى العالم العربى فى تقديم المصالح الإستراتيجية المشتركة على السعى الأمريكي لاحتواء طهران بعد أن تمددت إيران فى دول عربية على وقع ثورات فاشلة تحولت إلى نقمة بفعل مؤامرات الخارج والداخل على وقع مصالح قوى مالية وسوء تقدير نخب سياسية وتيارات ظلامية لا تنتمى إلى ديننا ولا تمثل عصرنا. مبدأ.. المواجهة السنية الشيعية ليس هو ما يجب أن يحركنا فى تلك المرحلة، فليس كل ما ينطق به بعض السياسيين أو رجال الدين العرب يعبر عن المتغيرات الحالية فى الشرق الأوسط. فأساليب المواجهة التى كانت تصلح قبل قرون ليست بالضرورة صالحة اليوم. آخر ما يجب أن يشغلنا هو المواجهة الدينية أو المذهبية... والأجدي أن نفكر فى المواجهة السياسية القائمة على فنون إدارة الأزمات والدبلوماسية الذكية وبناء تحالفات تعبر عن واقع التطورات فى العالم العربى وليس التى تخدم منظورا ضيقا. بعض المؤسسات فى العالم العربى فى حاجة إلى الارتقاء إلى مستوى الحوادث الجسام وأن تطور خطابا لا يدفع إلى المواجهة ولكن يضع إطارا للمصالح العربية فى مواجهة خطط جديدة لا نلم بكل تفاصيلها ولكننا على يقين أنها ستكون فى غير مصلحتنا لو ظل الحال على ما هو عليه اليوم. بكل وضوح.. لا يجب أن ننزلق أكثر إلى مستنقع توظيف الإسلام السياسي لخدمة المصالح الأمريكية أكثر وأكثر، فقد انطلقت عملية التوظيف من أفغانستان قبل أكثر من ثلاثة عقود وتوجت بمساهمة المرتزقة الأفغان والعرب فى عملية إسقاط الاتحاد السوفيتي السابق، فكانت المكافأة نقل أنشطة تلك التنظيمات إلى قلب العالم العربى فى مرحلة لاحقة قبل وقوع صدام بين الدولة الراعية والأصدقاء السابقين أفضى إلى هجمات سبتمبر الإرهابية. توظيف جماعات الإسلام السياسى أدى إلى تلك الكارثة الكبرى التى تطيح بدول اليوم، فهل كان متخيلا أن تهوى العراقوسوريا وليبيا واليمن إلى حروب أهلية وتقسيم طائفى مقيت وانهيار للدولة المركزية وضحايا بمئات الآلاف ومشردين بالملايين فى واحدة من المآسى الكبرى فى التاريخ الحديث. مصر.. لا تعتمد أساليب المواجهة الطائفية أو المذهبية على مدي تاريخها، وفى مناسبة الاحتفال بالذكرى الثالثة والستين بثورة 23 يوليو علينا ان نستلهم الدروس، فقد كان الزعيم جمال عبد الناصر يواجه حالة تخلف الخطاب العربى بالسعى لرسم سياسات تقدمية تعظم من العمل العربى المشترك على أرضية المصير المشترك والمصالح المشتركة ولم يدر فى خلده يوما اللعب على تناقضات الخلافات العرقية أو المذهبية وتعرض فى سبيل حلمه لكل صنوف المؤامرات لإجهاض مشروعه القومي. أفكار ناصر بقيت خالدة إلى يومنا هذا رغم ما أصاب مشروعه القومى من إخفاقات فيما لعبت عوامل إقليمية ودولية أدوارا مشينة لتمكين قوى الظلام والفرقة. بالأمس،كانت ذكرى ثورة 23 يوليو العظيمة التي ارتقت بقيم التعاون العربى ولم تساوم على المصير المشترك ولأن التاريخ سلسلة متصلة فقد وصلت مصر إلى ذروة مواجهة قوي الظلام (تيارات توظيف الدين فى لعبة السياسة) فى الثلاثين من يونيو عام 2013 ونجح تيار شعبى جارف فى وقف الانزلاق إلى مستنقع فشل الدولة بوعى غير مسبوق من الغالبية وهو الوعى الذى لم تدرك أبعاده قوى إقليمية ودولية عديدة وهى التى جاءت الثورة الجديدة ضد مصالحها الضيقة ورغبتها فى السيطرة على مقدرات شعوب المنطقة. لسنا.. فى منعطف تكرار تجارب توظيف جماعات الإسلام السياسى فى مواجهات إقليمية جديدة رغم تزايد النفوذ الإيرانى والمكاسب التى ستجنيها من وراء الاتفاق مع القوى الكبرى فى الشهور القادمة، فإعادة تجربة أفغانستان وزيادة رقعة التحالف مع جماعات الإسلام السياسى لن تأتى فى مصلحة المنطقة ولن تفيد القوى العربية الطامحة إلى بناء تحالف جديد ضد طهران بل سنجنى مزيدا من التعاسة السياسية وهدر الموارد دون طائل. فى الأسابيع الأخيرة.. برزت دعوات لتقوية شوكة جماعات مثل الإخوان المسلمين وتنظيمها الدولى الإرهابى فى مصر واليمن وسوريا وليبيا والترويج لسياسة التحالف معها لوقف المطامع الخارجية وكأن تلك الجماعات ليست شريكة في الفوضي وحصاد الدم المروع فى المنطقة وهو توجه مستغرب يستبعد المشاركة الحتمية فى ضرورة بناء مجتمعات مدنية حديثة ويعلى من شأن الطائفية البغيضة التى ترفضها مصر وتحارب من أجل احتواء آثارها المدمرة. والظن بأن مواجهة داء الإرهاب وجماعات التطرف من خلال دعم جماعات نظيرة متشددة هو من قبيل الجهل وقصر النظر والاستعباط السياسى ولو اعتقد البعض أن مثل تلك السياسات سوف تحميه فهو واهم فمثل تلك السياسة عمرها قصير فى حماية الأنظمة ولا تخدم حماية الأمن القومى لدول المنطقة. وهناك أمثلة حية على دول توفر الحماية لجماعة داعش وجبهة النصرة لكن طموح تلك الجماعات لا يتوقف وسيجرف فى طريقه الدول التى وفرت لها الدعم المالى والعسكرى وفى الهجمات الأخيرة داخل الأراضى التركية والتى راح ضحية سياسات الرئيس التركى رجب طيب أردوغان مواطنون لا ذنب لهم خير مثال علي انقلاب السحر علي الساحر. كما أن عملية إعادة حركة حماس، التى باعت مصر من أجل سورياوإيران ثم باعت إيرانوسوريا من أجل حماية مشروعها والدعم الأمريكى الصهيونى لمشروع الفوضى الإقليمية، واستقبال قادتها فى عواصم عربية لن يخدم الدول التى فتحت لهم أبوابها لأن الحركة اعتادت الانقلاب وخدمة أهدافها وليس أهداف القضية الفلسطينية التى تمثل حماس خنجرا فى ظهرها اليوم ولا يمكن الوثوق فى توجهاتها. المؤسف.. أننا اعتقدنا أن ثورة 30 يونيو وما كشفته من مخططات جماعة الإخوان الإرهابية خلال عام من حكم مصر وما فعلته ضد هوية مصر قد صحح مفاهيم دول فى المنطقة استخدمت تلك الجماعات فى الماضى فى الاتجاه الخاطيء على مدى عقود لكن ما جرى فى الآونة الأخيرة من محاولة احياء جماعة حكم عليها الشعب المصرى حكما نهائيا أمر لا يجب التعامل معه بخفة. فى المقابل، تقف دولة الإمارات صلبة وقوية فى موقفها المبدئى الرافض لتلك الرؤية المتقلبة فى التعامل مع الجماعة وتساند الموقف الرسمى والشعبى المصرى بلا تردد أو خشية من أحد. والسؤال فى تلك الحالة: ما الذى حدث حتى تعود تلك الدول إلى سيرتها الأولي؟ وهل هناك ضغوط من الولاياتالمتحدة من أجل إعادة الجماعة إلي الواجهة؟ وما الذى يدفعها إلى تبنى سياسات تخالف ما جرى فى العامين الماضيين؟ علينا.. أن نفكر جديا فى كيفية مواجهة السياسات الإيرانية على أرضية مختلفة لا تقوم على استدعاء الجماعات الفاشية إلى حلبة السياسات العربية ولكن التعامل بنضج أكبر يستغل كل مقومات الحالة العربية من مقدرات وموارد وميزات نسبية حتى لا تفرض على المنطقة سيناريوهات غير مرغوب فيها. لن تكون مصر يوما رأس حربة فى صراع مذهبى ضد إيران يتغذى على سياسات تروج لجماعات طائفية وفاشية تريد القفز على السلطة فى الدول العربية وتقنع أطرافا فى السلطة فى بعض الدول أن لديها قدرة على المواجهة المذهبية. وعلينا أن نعترف بوجود مشكلات حقيقية فى طريقة إدارة الشأن السياسى العربى بشكل مجمل وأن نقر بقدرة الدبلوماسية الإيرانية على تعظيم مكاسبها وتحقيق نجاحات مؤثرة ولو حدث ذلك يمكن أن نبدأ طريق العلاج. وبقيت كلمة أخيرة.. المؤسسات الدينية، خاصة الأزهر، تتحمل اليوم مسئوليات كبرى وعليها الارتفاع إلى مستوى الخطر الذى يواجهه بلدنا وعدم التعامل باستخفاف مع دعاوى تطوير الخطاب الدعوي، فعدم التعامل مع تلك المخاطر يصب فى مصلحة التشدد ولا يخلق مناخا ناضجا مواتيا لبناء دولة مدنية حديثة أو تحقيق التقارب بين المذاهب الإسلامية وهى مسئولية لو أحسنت المؤسسات الدينية القيام بها لأصبحت حائط صد مهما فى مواجهة السياسات الخاطئة فى الشرق الأوسط التى تدفع المتطرفين دوما إلى الواجهة. نقلا عن " الاهرام" المصرية