أسعار الجمبري والكابوريا اليوم السبت 4-5-2024 في محافظة قنا    عمرو أديب عن الفسيخ: "مخلوق مش موجود غير في مصر.. تاكله وتموت سعيد"    مصدر ل تايمز أوف إسرائيل: صبر واشنطن مع حماس بدأ ينفد    8 مستندات لتحديد تاريخ مخالفة البناء.. اعرفها لتقديم طلب التصالح    أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024.. عز 24155 جنيها للطن    توريد أكثر من 16 ألف طن قمح بالإسكندرية    أخبار مصر: خبر سار للاقتصاد المصري، فرمان بنهاية شيكابالا في الزمالك، شيرين تثير الجدل بالكويت، أمريكا تطالب قطر بطرد حماس    أسعار الذهب في بداية تعاملات السبت 4 مايو    حسين هريدي: أمريكا لا تؤيد فكرة وقف إطلاق نار دائم في غزة    دبلوماسي روسي ينتقد الاتهامات الأمريكية بتورط موسكو في الهجمات الإلكترونية على أوروبا    بلينكن يقول إن هجوما إسرائيليا على رفح سيتسبب بأضرار "تتجاوز ما هو مقبول    جيش الاحتلال يعتقل 5 فلسطينيين من بلدة سبسطية شمال غربي نابلس بالضفة الغربية    الزمالك يختتم تدريباته استعدادًا لمواجهة سموحة    موعد مباراة الأهلي والجونة والقنوات الناقلة في الدوري المصري    بداية من اليوم.. ممنوع دخول المقيمين إلى مكة المكرمة إلا في هذه الحالة    تصل ل600 جنيه.. سعر اللوحات المعدنية في قانون المرور الجديد (تفاصيل)    حالة الطقس المتوقعة غدًا الأحد 5 مايو 2024 | إنفوجراف    مونودراما فريدة يختتم لياليه على مسرح الطليعة في هذا الموعد    نشرة المرأة والصحة : نصائح لتلوين البيض في شم النسيم بأمان.. هدى الإتربي تثير الجدل بسعر إطلالتها في شوارع بيروت    اكتشاف جثة لطفل في مسكن مستأجر بشبرا الخيمة: تفاصيل القضية المروعة    إصابة 15 شخصًا في حادث سيارة ربع نقل بالمنيا    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام وولفرهامبتون    30 دقيقة تأخير في حركة قطارات «القاهرة - الإسكندرية» السبت 4 مايو 2024    حدث ليلا.. خسارة إسرائيل وهدنة مرتقبة بغزة والعالم يندفع نحو «حرب عالمية ثالثة»    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    مصرع شاب في حادث اليم بطريق الربع دائري بالفيوم    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد بن حنبل.. لم يكن حنبلياً
نشر في محيط يوم 11 - 07 - 2015

من الإنصاف للإمام أحمد بن حنبل أن ننزهه من أفعال وأقوال الرذلاء من أتباعه الذين أتوا من بعده ليشوِّهوا صورته ومكانته، فأبدًا لا يحق أن ينسب التزمت والتشدد وضيق الأفق لهذا العالِم الجليل الذى اتبع سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سماحة الخُلق، ولين الجانب، وبشاشة اللُّقيا، والقول الحسن، والتواضع الجم، والبّر والورع والتقوى، ونصرة المرأة، والدفاع عن المظلوم... من الظلم البيّن أن يطلق على كل فظّ غليظ القلب، جامد الفكر، ثقيل الوطأة، ظلامى الرؤية، قاطع رحم التواصل، موصد المنافذ، محتقن الحوار، مدبب الملافظ، مستنفر الادعاء، متحفز الانقضاض، مستكره للآخر، مستحرم الحلال، طالب المحال.. اسم الحنبلى.. من الظلم للإمام العظيم أن يظل داخل دائرة الاتهام حيّاً وميتاً، فقد كان إماماً مجددًا داعيًا إلى الحركة، ومواجهة كل عصر بأحكام جديدة يقاس فيها على روح الشريعة السمحة،
وما كان يلقى الناس إلا مبتسماً، ويقدمهم عليه إذا مشوا فى طريق أو دخلوا مكانا أو اصطفوا لصلاة الجماعة، وكان يكره لأصحابه أن يغلظوا القول، ويطالبهم حين يأمرون بالمعروف أو ينهون عن المنكر اتباع سنة الرسول «ادعُ إلى سبيل ربك بالحِكمة والموعظة الحسنة»، وكانت سماحته تسع الذين يسيئون إليه مهما تكن الإساءة فادحة، فعندما وشى به رجل للخليفة زاعماً أن ثائرًا علويًا يختبئ فى داره، ولو صحت الوشاية لقُتِل الإمام لإخفائه ذلك الثائر، فلما تبين للخليفة كذب الوشاية أرسل الواشى مكبلا بالأغلال إلى أحمد ليفتى فى عقابه، فما كان منه إلا أن عفا عنه بقوله: «لعله يكون صاحب أولاد يحزنهم قتله»، وكان شعاره فى الأخلاق «إذا أردت أن يدوم لك الله كما تحب، فكن كما يحب»..
لكنه.. ابتُلى ببعض أتباع نسبوا إليه ما لم يقل وما لم يصنع، وفرَّعوا على أصوله ما هو برئ منه، وأسرفوا على الناس حتى لقد كان منهم من يطوفون بالمدن يغيّرون بأيديهم ما يعدونه بدعة أو منكرًا، وغالوا فى ذلك حتى نال الناس منهم الأذى والتعنت فكرههم الناس وسخروا من حماقتهم وضيق أفقهم لتصبح كلمة «الحنبلى» تعنى التبلد والتحجر والتعصب المذموم.. ومن وقته إلى وقتنا هذا تظل أعمال هؤلاء وأحفادهم من ضروب الحماقة التى كتب عنها فى البداية ابن الأثير عام 323ه واصفاً بعض ما حدث من غلوائهم «من عظم أمر الحنابلة أن وجدوا مغنية فضربوها وكسروا آلتها، واعترضوا فى البيع والشراء، وسألوا الرجل عن التى تصحبه فإذا لم يخبرهم ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأزعجوا الناس»..
وما كان الإمام أحمد ليزعج أحدًا، وما كان متعصباً لرأى، بل كان يحاور ويرجع فى رأيه إن تبين له ما هو أصح، حتى لقد نهى عن كتابة فقهه، لأنه كثير العدول عن آرائه، وتخوفاً من أنه إذا ما دوَّن الفقه أن تتجمد الأحكام، وكان من نزاهة عقله إذا ما وجد أن الصحابة قد اختلفوا فى المسألة لم يوازن بين أقوالهم أو يختار واحدة منها بل يجعل المسألة ذات أقوال وللسائل أن يختار أيها شاء، وما كان منقباً عن عيوب الناس، وكان يدعو إلى طاعة الحاكم حتى ولو ظلم، فالخروج عليه ظلم أفدح، لأن فى الخروج مجلبة للفتنة، وفى الفتنة تنتهك الحرمات وتهدد دماء الأبرياء، وهو فى ذلك على اتفاق بما أفتى به الأئمة الثلاثة من قبله: أبوحنيفة النعمان، وأنس بن مالك، والشافعى، فكلهم رأى أن طاعة الحاكم الظالم مع توجيه النصح له خير من الثورة عليه لما يصاحب الغضبة من عدوان.. وما كان ابن حنبل يجيز طعن الصحابة من الخلفاء الراشدين، وعندما سُئل عن حق علىّ فى الخلافة أجاب: «لم يكن أحد أحق بها فى زمن علىّ من علىّ ورحم الله معاوية»، وقد بلغ من تقديره للإمام الشافعى أنه أنكر على كل شيوخه أن يكتبوا فقههم فى كتب إلا الشافعى..
أنكر على مالك كتابه «الموطأ» وقال عنه «ابتدع ما لم تفعله الصحابة رضى الله عنهم»، وأبى على أصحابه أن يكتبوا آراءه أو فقهه هو نفسه، ولكنه عندما وصله كتاب «الرسالة الجديدة» الذى وضعه الشافعى فى مصر بُهرَ بمحتواه وقرأه على أصحابه وحضهم على تعلمه واحتفظ به فى خزانة كتبه كما يصون كنزًا، وهكذا صنع مع كل كتب الشافعى التى وضعها فى مصر، وكان قد تأثر إلى مدى بعيد أيضاً بفقه إمام أهل مصر «الليث بن سعد» مقتدياً بالشافعى فى ذلك التقدير الكبير للإمام الليث.. وقد بادله الشافعى التقدير بل لقد عدّه من إحدى عجائب علماء الزمان الثلاث بقوله: «إعرابى لا يعرب كلمة وهو أبوثور، وأعجمى لا يخطئ فى كلمة وهو الحسن الزعفرانى، وصغير كلما قال شيئاً صدقه الكبار وهو أحمد بن حنبل»، وقال عنه: «خرجت من بغداد وما خلفت فيها رجلا أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من ابن حنبل» ويضع أحمد بن حنبل شيخه الشافعى فى أعلى منزلة بقوله: «إن الله يبعث على رأس كل مائة عام إماماً صالحاً من عباده يحيى به السنن ويرفع شأن الأمة، وقد كان عمر بن عبدالعزيز على رأس المائة الأولى، وعسى أن يكون الشافعى على رأس المائة الثانية»..
إمامنا.. ما أن امتلأت رئتاه بالهواء ليصرخ مولودا يرى الوجود لأول مرة فى عام 164ه ببغداد حتى امتلأت مآقى الأم بدموع آلام المخاض ممتزجة بدموع لوعة فراق الزوج الجندى الشاب الذى مات فى الثلاثين تاركاً فى أحضانها مولودًا لا يعى ولا يدرك أصله ونسبه العربى الخالص لقبيلة شيبان بالبصرة، وأن جدّه «حنبل بن هلال» كان قد انتقل بأسرته إلى خراسان حيث صار والياً فى العهد النبوى على ولاية «سرخس»، وأن لآل شيبان فى البصرة مسجدًا هو مسجد «مازن» الذى اعتاد أحمد أن يصلى فيه كلما نزل البصرة قائلا لمن يسأله: «إنه مسجد آبائى».. ولقد عكفت الأرملة الشامخة على تربية اليتيم رافضة الزواج رغم جمالها وشبابها وكثرة خطابها، ودفعت بصغيرها إلى مقرئ يعلمه القرآن فختمه صبياً، ليظل حياته بطولها يعاود قراءته والتفكر فى آياته البيّنات، وكانت الأرملة معتمدة فى إنفاقها على السكنى فى عقار تركه زوجها الراحل إلى جانب بيت يضم عدة حوانيت تدر عليها دخلا شهريا يبلغ سبعة عشر درهماً تغنى عما فى أيدى الناس، وما كان فى أيدى بعض الناس الكثير حتى أن الخليفة قد خلع على كل من المدعوين إلى زواج ابنته صك هبة بضيعة وجارية ودابة، إلى جانب اللالئ والعطايا..
وعندما وثبت بابن حنبل مدارج الحياة إلى أعتاب الشباب فى بغداد وجد من حوله دنيا عجباً، تطغى فيها البدعة على السُنة، ويشقى فيها عالم الأمر بجاهله، وتكتظ خزائن البعض بالذهب بحيث لا يعرفون كيف ينفقونه، وعلى مقربة منهم لا يجد الكثيرون قوت يومهم إلا فى القمامة وقد لا يجدونه فيها!.. دولة تتابع فيها على مدى نصف قرن من حياة أحمد بن حنبل على عرش الخلافة خلفاء هجناء! فأم المأمون خراسانية، وأم المعتصم تركية، وأم الواثق رومية، وأم المتوكل خوارزمية، أى ليس فيهن واحدة عربية.. دولة أمر فيها الرشيد بشراء مغنية بآلاف الدراهم فاستكثرها وزيره فأحضر المبلغ وكوَّمه أكواماً وجعله هضبة يطلع عليها الرشيد فى ذهابه إلى الوضوء ورجوعه منه، ورأى الرشيد الأكوام فاستكثرها حقا لكنه أصرّ على الشراء!.. وكان عمه يعمل فى خدمة الخليفة هارون الرشيد، ويجمع أخبار بغداد ويسلمها إلى والى البريد، ليوصلها إلى الخليفة إذا ما كان خارج بغداد.. وتنقطع أخبار بغداد فجأة عن الخليفة فيرسل إلى الوالى مستفسرًا، فسأل الوالى بدوره عم أحمد، وكان أحمد غلاماً صغيرًا يرسله العم بالأخبار إلى الوالي.. سأله العم: ألم أبعث الأخبار معك إلى الوالى؟! قال أحمد: نعم، فعاد يسأله: فلأى شيء لم توصلها؟.. قال أحمد: رميت بها فى الماء!.. أأنا أوصل الأخبار؟!» وحين سمع الوالى بما كان من أمر أحمد والأخبار قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون.. هذا غلام ورع.. فكيف بنا نحن!!».. وعلى هذا الورع نشأ أحمد بن حنبل، حتى أن نساء الجند الذين سافروا مع الرشيد فى الغزو كن لا يجدن فتى غيره يثقن فيه ليقرأ لهن رسائل الأزواج، ويملين عليه الردود، ولكنه كان يمتنع عن كتابة الكلام الخارج الذى قد تمليه بعض الزوجات المتشوقات إلى الأزواج فى البعد!!
أدرك أحمد معاناة أمه فى سبيل توفير حياة كريمة له رافضة ألاّ يكون وحده فى مركز اهتمامها بزوج دخيل، فحرص على أن يعوضها ببذل جهد جبار فى التحصيل معتمدا على نفسه حتى قال أحد الجيران يحسده: «أنفق على أولادى وأجلب لهم المؤدبين على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل الولد اليتيم انظروا إلى أدبه وعلمه وحجم تحصيله وحسن تربيته!».. لقد أنضجه الاعتماد على النفس وحرصه على مكافأة أمه على جهدها، لكنه عندما وجدها تبيع درّتين كانتا فى صياغة قرط تحتفظ به شعر بأنه قد أصبح ثقيل الوطأة عليها فأقسم ألا يثقل عليها بعد ذلك بألا يأكل إلا من عمل يده اقتداءً بالأنبياء، وقد روى أحمد عنها: «كنت ربما أردت البكور فى تعلم الحديث فتأخذ أمى بثيابى قائلة: «انتظر حتى يؤذن المؤذن للفجر أو يصبح الناس»، وحينما بلغ الخامسة عشرة، أتى إلى بغداد عالِم عظيم وأقام على الضفة المقابلة لدار أحمد بن حنبل، وفاض نهر دجلة وارتفع حتى ترك الرشيد قصره ونزل بأهله وأمواله وحاشيته للسكنى فى السفن، وهرع طلاب العلم إلى ابن حنبل على الضفة الأخرى ينادون عليه فى الزوارق، فأبى أحمد النزول إليهم حتى ولو كان فى ذلك إنقاذاً لحياته، قائلا: «أمى لا تدعنى أركب الماء فى هذا الفيضان» وعاد إلى أمه يواجهان هول الفيضان معاً.. كان بارًا بوالدته ولم يكن جبارا ولا شقيا، يراها قد رفضت الزواج للتفرغ للعناية به، فأبى هو الآخر الزواج للتفرغ لرعايتها، وما تزوج إلا بعد أن ماتت، وكان قد بلغ الثلاثين، لكى لا يُدخل على الدار سيدة أخرى تنازع أمه السيادة على مملكتها التى ثبتت أركانها، وكانت زوجته الأولى هى «العباسة بنت الفضل» أم ولده «صالح» التى قال عنها «أقامت معى أم صالح ثلاثين سنة ما اختلفت أنا وهى فى كلمة»، والثانية أختها «ريحانة» وكانت بعين واحدة ومنها أنجب عبدالله، وعاشت معه أيام تعذيبه ومنعه من إلقاء دروسه، وكانت الثالثة اسمها «حُسن» التى تزوجها وقد تخطى السبعين وقد رزقه الله منها فى كل عام بغلام، بل استفتحت بتوأم ماتا عقب ولادتهما، ثم أنجبت الحسن ومحمد وزينب وسعيد الذى ولد قبل موت أبيه بخمسين يوما، وكان الإمام لا يجمع أبدا بين زوجتين ويلاحظ أن ليس فى داره أو أخباره أمهات لهؤلاء الزوجات (أى حماوات) وأنهن كن أبكارًا، وكان هذا منهجا له لا صدفة، فقد سأله تلميذ له عن الزواج فقال له: «تزوج ببكر واحرص على ألا يكون لها أم»..
وكان الإمام ابن حنبل أسمر الجبهة يشع من عينيه بريق حاد محفوف الشارب نحيل الجسد ثابت الخطى، حاملا حقائب كتبه على ظهره يجوب الأقطار ويقطع الفيافى والقفار راكباً إن أسعفته الحال، وماشياً إن ضاقت النفقة، فهو يرحل إلى البصرة والكوفة، وإلى اليمن والحجاز، حيث أدى فريضة الحج خمس مرات ماشياً وضّل فى إحداها لولا أن هداه الناس، وجاور بمكة عاماً ونصف العام، وكان لا يكف عن الدعاء «الله سلم.. سلم».. ويكرر رحلاته طلبا للحديث، ويؤجر نفسه لحمل المتاع لينال ما يسد به رمقه فى الطريق، كما يكتب بأجر عندما يحط الرحال وتضيق به الحال، بل يصنع بعض ما يعرف من الصناعات، ويفضل ذلك على العطاء لأن اليد العليا خير من اليد السفلى.. وكان كثير الرحلة إلى اليمن يطلب الحديث من أحد علمائها، ورأى الشافعى حين كان ببغداد رقة حال أحمد وعنائه فى رحلاته، وكان المأمون قد طلب من الشافعى أن يختار له قاضياً لليمن، فعرض الأمر على تلميذه أحمد فأبى.. فلما ألحّ عليه الشافعى قال له أحمد: إن عدت إلى هذا لا ترانى أبدًا»! ظل يرحل طوافاً فى طلب الحديث إكباراً للغاية التى يسعى إليها أو عجزا عن النفقة ليجمع آلاف الأحاديث، حتى نحل جسده وارتفع لهاثه فلامه أحد أصدقائه قائلا: إلى متى؟! فقال أحمد: «مع المحبرة إلى المقبرة»، فرغم قوة ذاكرته لم يكن يعتمد عليها، بل يدوّن كل ما يسمع خاصة الأحاديث التى لا ينطق بها إلا إذا قرأها مما كتبه فى أوراق بلا تبويب قرأها قبل وفاته على أهل بيته فبادر أولاده بجمعها فى كتابه «المسند»، وقد ارتفع الظن إلى حد اليقين فى أنه كان مُلمًا باللغة الفارسية، بل ويتكلم بها أحياناً، فى حال كان مخاطبه لا يُحسن العربية، وإذا ما كانت صلة أحمد بمعاصريه قد أوجبت عليه أن يتعلم لساناً غير عربى، فالأولى به أن توجب عليه هذه الصلة أن يعرف العلوم التى كانت سائدة فى عصره وقد عرفها واطلع عليها مثل علم الكلام وآراء الفرق المختلفة كالخوارج والشيعة والجهمية والمعتزلة وغيرها إلا أنه كان يصف أصحابها بالابتداع، وما كان لمثل أحمد فى حرصه وعقله أن يرمى أناساً بهذه الرمية من غير أن يعرف فكرهم، إذ الحكم على الشىء نفيًا أو إثباتاً، أو استحساناً أو استهجاناً، فرع من تصوره ومعرفته لكنها لم تتلاق مع ميوله، ولم تشربها روحه، ولم تتأثر بها نفسه..
وكانت محنة ابن حنبل الكبرى عندما أراد المأمون أن يحمل الفقيه على القول بخلق القرآن وأنه محدّث فأبى أحمد ذلك القول وأصرّ على أن القرآن كلام الله، وظلت المحنة ممتدة من بعد المأمون إلى عهدى المعتصم والواثق، وأول من دعا إلى القرآن مخلوق ومحدث هو «الجعد بن درهم» فى العصر الأموى، وعندما ظهر المعتزلة خاضوا فى المسألة فأمر الرشيد بحبس المجادلين فيها حتى تولى المأمون الخلافة ليصطفى علماء المعتزلة، وبدا له فى سنة 218ه أن يحمل الناس، علماء وغير علماء، بقوة الإمامة، على القول جهرًا بفكرة خلق القرآن، ويرسل إلى نائبه اسحق بن إبراهيم فى بغداد ليحمل الفقهاء والمحدثين على القول بذلك وعزل كل من لا يقول بخلق القرآن، مع إرسال الرافضين إلى معسكره بالرِّقة تحت حراسة مشددة مقيدين بالأغلال كى يتوبوا عن الشرك أمام المأمون وإلا نفذ فيهم حكم الإعدام، وسيق المحدثون والفقهاء وأصحاب الفتوى ومن بينهم أحمد بن حنبل إلى أمير المؤمنين المأمون وأمام التهديد والوعيد والمسح من الوجود اعتنق الجميع مذهب الاعتزال والقول بخلق القرآن إلا أربعة أصروا على موقفهم وهم أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريرى، وسجادة، وفى الصباح خارت عزيمة القواريرى فأطلق سراحه، واستشهد ابن نوح، وبقى ابن حنبل، ومات فجأة المؤمون ليأتى من بعده الخليفة المعتصم الذى بقى أحمد فى عهده ثمانية وعشرين شهرًا يُضرب بالسياط يومياً حتى يغمى عليه وينخس بالسيف ليأتى به فى اليوم التالى مثقلا بمزيد من القيود لمعاودة تعذيبه، ومع كل هذا لم يتراجع ابن حنبل عن موقفه فى قضية خلق القرآن، وكان صبره جميلا كما جاء فى قوله تعالى ليعقوب عليه السلام «فصبر جميل»، ظل صبورا ثابت الخبان لا يطيش صوابه حتى أنه وسط أغلاله فى حضرة الخليفة وقد ضُرب عنق رجلين أمامه وقع بصره على أحد أصحاب الشافعى فسأله: «وأى شيء تحفظ عن الشافعى فى المسح على الخفين؟» فأثار دهشة الحاضرين حتى صرخ خصمه أحمد بن أبى داوود متعجباً: «انظروا الرجل قادم على ضرب عنقه يناظر فى الفقه!!!»، إنها النفس المسلمة لقضاء الله وقدره... وحين يئس معذبوه أعادوه إلى بيته مثخن الجراح لا يقوى على السير، وقد انتصر بتقواه، وهزم أصحاب السياط، وانقطع عن الدرس إلى أن هدأت جراحه من آثار وندوب التعذيب، ويموت المعتصم ويتولى الخليفة الواثق الذى يعيد المحنة إلى حياة ابن حنبل بمشورة الداهية ابن أبى داوود، وذلك بتحديد إقامة أحمد وإجباره على السكن فى منفى بعيد عن إقامة الخليفة الواثق، فبقى مختفياً يعيش حياة الظل طوال خمس سنوات من 228ه إلى 232ه إلى أن مات الواثق وتولى المتوكل الذى حارب الاعتزال وعاد أحمد عزيزًا مكرمًا إلى التدريس فى المسجد وغير المسجد ليغدو مثالا خارقاً لصاحب الرأى الذى يناضل فى سبيل رأيه فأكبره الذين يوافقونه والذين يخالفونه على السواء.. إلا الذين فى قلوبهم مرض..
ويعبر الإمام عتبات الخامسة والسبعين فى خلافة المتوكل ويعمل له أهله مرهماً بمنزل عمه مخافة أن يدس إليه السم ابن أبى داوود، والأوجاع تلازمه أبدًا من أثر الضرب وإذا ما عرى ظهره للشمس بانت مواقع السياط محتقنة وكأنها لم تزل تدوى فى الهواء، وتمضى الأيام والزوجة «حُسن» فى شُغل به تحاول جهدها أن تدخل البهجة إلى قلبه، وكانت كالأخريات ماهرة فى الغزل، وكان من تقشفه يأبى ارتداء ما تصنعه له من ثياب ويدفعها لبيعها، وذات يوم استبقى عباءة من صنعها طالباً منها ألا تبيعها فأبقتها.. وتلك رآها فى دخيلته تصلح كفناً له.. وعندما انتشرت أخبار آلامه خفّت حاشية الخليفة إلى بغداد تعوده، فحجبهم ابنه صالح عن الدخول إليه، وأتى الناس أفواجاً فأذن لهم ليسألهم الدعاء، وأوصى بأن الميراث الذى خلفه له أبوه هو الذى يخلفه لصغاره، وساوى الإمام فى العطاء بين الأحفاد بنين وبنات، وكان يقول لصالح إذا ولدت له البنت: «الأنبياء أولاد بنات»، وجهد جهده ليقول بلسان ثقيل: «ادعوا الصغار» فجعل يتشممهم، ويمسح بيده على رءوسهم، وقيل له: «ذرية تكون بعدك يدعون لك».. قال: «ذاك حصل».. ويروى حفيده «زهير بن صالح»: «كنا ندخل إليه كل جمعة وكان بيننا وبينه باب مفتوح فكان يعطى كل منا حبتين من فضة، وحين خُتِّنَ أخى الصغير حضر جدى ليدفع لكل منا بدرهم ويعطى للحجّام ما فى قبضة يده خفية».. وبرحت الأوجاع به فطلب إلى ابنه عبدالله أن يخرج كتاب عبدالله بن إدريس فقرأ الحديث: «إن النبى عليه الصلاة والسلام كان يكره الأنين فى المرض».. فما سُمع لأحمد أنين حتى مات... وكان قد طلب الوضوء فأوضأه أبوبكر المروزى فقال له الحنبلى وهو يوضئه: «خلِّل الأصابع».. وهكذا كان لا يفوته الكمال حتى آخر لحظة، وما أن شعر بالاقتراب حتى أوصى بالشعرات الثلاث من شعرات النبى اللواتى لا يفارقنه، أن توضع على كل عين شعرة وعلى لسانه شعرة وأتى صبح الجمعة 12 من ربيع الأول عام 241ه ليمضى من النهار ساعتان.. و..قبض الإمام..
[email protected]
الإمام أحمد بن حنبل.. المهيب من غير خوف، وموضع الإجلال من غير رهبة، حتى الشرطة كانت تهابه فعندما ذهب الشرطى ليناديه هاب أن يطرق بابه مفضلا أن يطرق باب عمه ليصل إليه من خلاله حتى يكون لقاء المهيب بالتدريج، وهيبته سرها يكمن فى قوة الوجدان لا بقوة السلطان، وفى صمته الدائم فلا لغو ولا تأثيم..
ابن حنبل المحب للصداقة والأصدقاء الذى يفهم معناها الدقيق، ويعرف أن الحياة بدون الأصدقاء جافة وذليلة قائلا: «إذا مات أصدقاء الرجل ذلّ»..
الإمام الذى احترم أهل الديانات السماوية التى سبقت الإسلام، لأن الرسالة المحمدية ما جاءت إلا مكملة لها، وهدف الشرائع جميعها هو العدل...
ويُسأل أحمد عن تقبيل المصحف فيقول: «ما سمعت فيه شيئا ولكن روى عن عكرمة بن أبى جهل أنه كان يفتح المصحف ويفتح وجهه عليه ويقول: (كلام ربى.. كلام ربى)»... وحتى الدودة يرحمها أحمد فى معرض استعمال الحقوق فيُسأل عن تشميس دود القز ليموت فى نسيجه كى لا يقرض ما عليه من القز، فيقول: إذا لم يجدوا منه بدًا ولم يريدوا بذلك أن يعذبوه»... ولا يبيح بيع السلاح عند الفتنة لأن استعماله فيها راجح، ولا بيع العنب للخمارين لأنهم سيعصرونه خمرًا.. والإيمان بالقدر خيره وشره، والناظر فى القدر كالناظر فى شعاع الشمس كلما ازداد نظرًا ازداد حيرة، أما عن صفات الله وأسمائه مما جاء فى القرآن أو السنة فيرى الإمام أحمد روايتها واتباعها كما جاءت، وكذلك رؤية الله تعالى يوم القيامة، يجب فيها أن نؤمن بما جاء فى الأحاديث الشريفة، وقد رأى الرسول ربه، ويجب أن نفهم الأحاديث بظاهرها.. وأخذ الإمام أحمد بالاستصحاب أى مصاحبة الواقع، فما ثبت فى الماضى ثابت فى الحاضر.. وفى فقه الإمام أنه إذا أراد أحدهم أن يحج عن أبويه فليبدأ بالأم، إلا أن يكون الأب قد وجّب عليه، وإذا دعت الأم ابنها وهو يصلى حق عليه أن يجيبها من صلاته إذا كانت صلاة تطوع.. وفى مسائل عديدة لم يجب الإمام أحمد، لأنه لم يجد النص الذى يهتدى به، ولكنه لم يكن يسكت، بل يقول فيها كل أوجه الرأى، على أنه كان أحياناً يقول: «لا أدرى.. واسأل غيرى».. وقد سمعه البعض يجادل فقيها آخر فى بيته ويقول له: «إيش (أى شىء) أنتم؟ لا إلى الحديث تذهبون ولا إلى القياس ولا إلى الاستحسان تذهبون.. ما أدرى إيش أنتم؟!»..
نقلا عن " الاهرام" المصرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.