يا نفس إن قال الجهول الروح كالجسم تزول وما يزول لا يعود قولي له إن الزهور تمضي ولكن البذور تبقى وذا كنه الوجود في كلمات بليغة وموجزة، يغلب عليها الطابع الصوفي يأتي كتاب "البدائع والطرائف" لجبران خليل جبران، يضم مجموعة من مقالات وروايات من تأليف الأديب والشاعر اللبناني الكبير، نشر في مصر عام 1923. نتوقف عند فصل "وعظتني نفسي". - وعظتني نفسي فعلمتني حب ما يمقته الناس ومصافاة من يضاغنونه وأبانت لي أن الحب ليس بميزة في المحب بل في المحبوب. وقبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطاً دقيقاً مشدوداً بين وتدين متقاربين، أما الآن فقد تحول إلى هالة أولها آخرها، وآخرها أولها تحيط بكل كائن وتتوسع ببطء لتضم كل ما سيكون. - وعظتني نفسي فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة، وأن أحدق متبصرا بما يعده الناس شناعة حتى يبدو لي حسنا.. وقبل أن تعظني نفسي كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان واضمحل فلم أعد أرى سوى مايشتعل. - وعظتني نفسي فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الألسنة ولا تضج بها الحناجر. وقبل أن تعظني نفسي كنت كليل المسامع مريضها ، لا أعي سوى الجلبة والصياح، أما الآن فقد صرت أتوجس بالسكينة فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور، مرتلة تسابيح الفضاء، معلنة أسرار الغيب. - وعظتني نفسي فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر ولا يسكب بكؤوس لا تُرفع بالأيدي ولا تلمس بالشفاه. وقبل أن تعظني نفسي كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد أخمدها بعبة من الغدير أو برشفة من جرن المعصرة. أما الآن فقد صار شوقي كأسي، وغلتي شرابي، ووحدتي نشوتي. وأنا لا ولن أرتوي. ولكن في هذه الحرقة التي لا تنطفئ مسرة لا تزول. - وعظتني نفسي فعلمتني لمس ما لم يتجسد ولم يتبلور، وأفهمتني أن المحسوس نصف المعقول. وأن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه. وقبل أن تعظني نفسي كنت أكتفي بالحار إن كنت باردا . والبارد إن كنت حارا. وبأحدهما إن كنت فاترا . أما الآن فقد انتثرت ملامسي المنكمشة وانقلبت ضبابا دقيقا يخترق كل ما ظهر من الوجود ليمتزج بما خفي منه. - وعظتني نفسي فعلمتني استنشاق ما لا تبثه الرياحين ولا تنشره المجامر. وقبل أن تعظني نفسي كنت إن اشتهيت عطراً طلبته من البساتين أو من القوارير أو المباخر. أما الآن فقد صرتُ أشم ما لا يخترق ولا يهرق. واملأ صدري من أنفاس زكية لم تمر بجنة من جنات هذا العالم ولم تحملها نسمة من نسمات هدا الفضاء. - وعظتني نفسي فعلمتني أن أقول "لبيك" عندما يناديني المجهول والخطر. وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أنهض إلا لصوت مناد عرفته. ولا أسير إلا على سبل خبرتها فاستهونتها. أما الآن فقد أصبح المعلوم مطية ركبها نحو المجهول، والسهل سلما أتسلق درجاته لأبلغ الخطر. - وعظتني نفسي فعلمتني ألا أقيس الزمن بقولي: كان بالأمس وسيكون غدا. وقبل أن تعظني نفسي كنت أتوهم الماضي عهدا لا يرد، والآتي عصرا لن أصل إليه. أما الآن فقد عرفت أن في الهنيهة الحاضرة كل الزمن بكل ما في الزمن مما يرجى وينجز ويتحقق. وعظتني نفسي فعلمتني ألا أحد المكان بقولي: هنا وهناك وهنالك. وقبل أن تعظني نفسي كنت إذا ما صرت في موضع في الأرض ظننتني بعيدا عن كل موضع آخر . - وعظتني نفسي فعلمتني أن أسهر وسكان الحي راقدون. وأن أنام وهم منتبهون. وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أرى أحلامهم في هجعتي ولا يرصدون أحلامي إلا في غفلتهم . أما الآن فلا أسبح مرفرفا في منامي إلا وهم يرقبونني ولا يطيرون في أحلامهم إلا وفرحت بانعتاقهم. - وعظتني نفسي فعلمتني أن لا أطرب لمديح و لا أجزع لمذمة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أظل مرتابا في قيمة أعمالي وقدرها حتى تبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها. أما الآ فقد عرفت أن الأشجار تزهر في الربيع وتثمر في الصيف ولا مطمع لها بالثناء. وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء ولا تخشى الملامة. - وعظتني نفسي فعلمتني وأثبتت لي أنني لست بأرفع من الصعاليك ولا أدنى من الجبابرة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أحسب الناس رجلين: رجلاً ضعيفاً أرق له أو أزدري به، ورجلاً قوياً أتبعه أو أتمرد عليه. أما الآن فقد علمت أنني كونت فرداً مما كون البشر منه جماعة. فعناصري عناصرهم. وطويتي طويتهم. ومنازعي منازعهم. فإن أذنبوا فأنا المذنب. وإن أحسنوا عملاً فاخرت بعملهم. وإن نهضوا نهضت وإياهم. وإن تقاعدوا تقاعدت معهم. - وعظتني نفسي فعلمتني أن السراج الذي أحمله ليس لي، والأغنية التي أنشدها لم تتكون في أحشائي. فأنا وإن سرت بالنور لست بالنور، وإن كنت عودا مشدود الأوتار فلست بالعواد. - وعظتني نفسي يا أخي وعلمتني. ولقد وعظتك نفسك وعلمتك. فأنت وأنا متشابهان متضارعان. وما الفرق بيننا سوى أنني أتكلم عما بي وفي كلامي شيء من اللجاجة، وأنت تكتم ما بك وفي تكتمك شكل من الفضيلة.