مع إشراق فجر يوم عرفات تتجه القلوب والأبصار صوب البقعة المقدسة في مكةالمكرمة ، في أيام معدودات أفلح من أصاب خيرها . وفي كتاب أحمد بهجت " بحار الحب عند الصوفية" نتوقف عند معاني رحلة الحجيج في الزمان والمكان، ومعنى التوبة كسفر إلى الله ، ووقوع الأفئدة في هوى الكعبة مصداقا لدعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام " فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم "، وهكذا يخضع الحج لمنطق الحب. الكتاب صدرت مؤخرا طبعة جديدة منه، وقد صدرت طبعته الأولى عن مؤسسة المعارف للطباعة والنشر ببيروت عام 1979، ويقول بهجت في مقدمته : "..في بحار التصوف ألف سؤال وسؤال، وألف غريق وغريق، وألف لؤلؤة ولؤلؤة، وألف محارة فارغة ومحارة مليئة بطين القاع، وثمة حكايات لها العجب مثل حكايات الأساطير في ألف ليلة وليلة، وبدلا من قصص الجن وعجائبه سنجد قصص الأولياء وكراماتهم وهي أيضا عجائب".
ويقول الكاتب: قبل أن ننشر أشرعتنا البيضاء ونبحر في بحار الحب، نريد أن نعبر نهراً صغيراً متقلباً..هذا هو الجدل حول الصوفية..يعتقد البعض أن الصوفية كلمة لا علاقة لها بالإسلام، ويرى البعض أن التصوف بمعنى الصفاء في حب الله هو لب الإسلام، ومثلما يقف البعض من التصوف موقف العداء والحذر والتشكك والرفض، يراه البعض غاية سير السائرين ومقصد أمل العابدين، ولكل فريق حجته وأسلوبه في إثبات وجهة نظره.
يقول بهجت : ولو تصورنا أن قاضياً من بني البشر يريد أن يحكم على التصوف فكيف يحكم عليه؟ لا ينبغي أن يطمئن القاضي لقانون غير القرآن، ما وافق القرآن كان حقاً وإن حمل اسم التصوف وما خالف القرآن كان باطلاً وإن حمل اسم الحقيقة. . لكن هل وردت كلمة التصوف في القرآن؟ يقول الصوفية أن القرآن لم يورد الكلمة ولكنه أورد قصة عظيمة هي لب التصوف الإسلامي هي قصة موسى عليه السلام والعبد الرباني، أحد معاني القصة أن في الدنيا أحداثاً يختلف ظاهرها عن باطنها يبدو الظاهر مأساة على حين ينطوي الباطن على حقيقة الرحمة، أو يبدو الظاهر خالياً من العقل والتدبير يشي الباطن بالحكمة العميقة.
ومن بين التعريفات المتعددة التي ضمها الكتاب عن من هو المتصوف هذا التعريف للصوفي أبو تراب النخشيي الذي يقول فيه: الصوفي لا يكدره شيء، ويصفو به الكدر ذاته. ويتساءل الكاتب احمد بهجت بين سطوره قائلا: وهل هناك وجود حقيقي لمثل هذا المخلوق ؟ يقول الصوفية: أن هناك وجودا لهذا المخلوق فمن صفا قلبه لله وشاهد حكمته ورأي بديع صنعه لم يكدره شيء حتى الكوارث والآلام لا تخدش صفاءه ويقول الإمام أحمد بن حنبل: "أنا جنتي بين صدري".
يقول بهجت : أصل كلمة "صوفية" محل خلاف بين العلماء، هناك القائلون باشتقاق الكلمة من أهل الصفة الفقراء الذين كانوا ينزوون في جانب من مسجد الرسول ويبيتون فيه لأنهم لا يملكون نقوداً يستأجرون بها بيوتاً، أيضاً يختلف العلماء على الصفاء والصوف، فمن العلماء من يقول أن التصوف لفظ مشتق من الصفاء، ومنهم يقول أنه لفظ مشتق من ارتداء الصوف ولبس خرقة الصوفية. ويرى بهجت سر هذه الحيرة أن تعريفات التصوف شخصية لحد بعيد، فكل صوفي يعبر عن حاله، وأحوال الخلق الروحية تختلف مثلما تختلف أحوالهم في المعايش.
والصوفي من لا يرى لنفسه مكاناً ولا مقاماً ولا وجوداً أمام الله، وشيوخ التصوف السني كالجنيد يريدون من الصوفي أن يذهب ويضيع ويتلاشى ويعود إلى الصفاء الذي كان عليه قبل أن يخلقه خالقه، حين كان ذرة في عالم الذر.
ويقسم المؤلف التصوف إلى نوعين: التصوف الإيجابي والتصوف السلبي، ومعيار التفرقة هنا هو الكتاب والسنة، ما كان محكوماً بإطار الكتاب والسنة، كان تصوفاً إسلامياً، وما خرج عنهما كان فناً يخضع لمقاييس الفن وقيم النقد، ولم يعد يلزم الإسلام في شئ.
التصوف والشعر
يقول بهجت : شعر الصوفية متصل بالدين وليس شعراً لرجال الدين، والسر في كل المنازعات التي وقعت بين الصوفية أنفسهم أو بينهم وبين غيرهم هو أن الناس اعتبروا شعراء الصوفية رجال دين يقولون الشعر، ولم يعتبروهم شعراء يتحدثون في الدين، وبسبب هذه النظرة الخاطئة قتل الناس شعراء صوفيين بتهمة الزندقة والإلحاد، وكانت تهمتهم الحقيقية هي اتساع الخيال وغرابته وعق التجربة وتوهجها.
إن الشعر الصوفي رؤية شعرية أولاً وصوفية ثانياً – كما يقول صاحب الكتاب - ليس هناك قانون عام أو قاعدة يمكن تطبيقها على جميع الصوفية، فكل واحد منهم نسيج وحده، ولو تأملنا ثلاثة نماذج للصوفية لأدركنا المعنى، إن الغزالي وجلال الدين الرومي والحلاج ثلاثة نماذج من الصوفية وهب الله تبارك وتعالى كل واحد منهم موهبة البحث عن الحقيقة الإلهية، ورغم أنهم جميعاً صوفيون، إلا أن كل واحد فيهم يختلف عن الآخر بشكل واضح.
عرف الغزالي باسم حجة الإسلام، لأنه استخدم عقله الناقد في ضرب الفلاسفة وعلماء الكلام والانتصار للتصوف السني القائم على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، أما جلال الدين الرومي فيسمونه شاعر الصوفية الأكبر لأن موهبته كشاعر قد استخدمت في التغني بالحب الإلهي استخداماً بالغ الروعة.أما الحلاج فقد قادته موهبته إلى شطحات أنهت حياته بالقتل وألصقت باسمه أكثر من تهمة أقلها الزندقة.
وعن حقيقة الشعر الصوفي يقول بهجت: يشير معظمه إلى أن الوجود الحقيقي هو الله، ومهما يكن من أمر فإن شعر الصوفية هو سر عظمة الآداب التي ينتمي إليها الصوفيون، مشيراً إلى فكرة الموت عند شعراء الصوفية كبداية انطلاق أكبر في سلم الخليقة، فحين تسقط الأزهار وتموت تبدأ حياة الثمار الجديدة، وكذلك الروح لا تقوى ولا تلبس كسوة جديدة حتى يتهدم الجسد الفاني، ويخلع العمر البالي، والله تعالى هو الجواد المطلق، وهو لا يسلب نعمة إلا ويعطي نعمة أكبر منها فإذا سلب الحق تعالى الحياة الضعيفة السقيمة، أعطى بدلاً منها حياة أوسع وأبقى وأجمل وأرقى..وفي ذلك يقول جلال الدين الرومي:
"لماذا هذا الإشفاق من الموت، ولماذا هذا الفرار من الأجل، إن الإنسان لم ينل البقاء إلا عن طريق الفناء، فلماذا تفر يا هذا من الفناء الجديد الذي هو مقدمة للبقاء الخالد..ولماذا تتمسك بهذه الحياة وتلتصق بها مع أنها تخلف حياة لا زوال لها ولا خوف فيها ولا أحزان ولا متاعب".
يعالج الكتاب كذلك موضوع كرامات الأولياء وعن ذلك يقول المؤلف: الأولياء في القرآن الكريم مثل صاحب موسى وصاحب سليمان وأهل الكهف وذي القرنين وغيرهم لا يورد القرآن أسماءهم، التي تظل سراً، كما أخفى القرآن كذلك أمكنة وجودهم، وفهم من هذا أن العبرة بمضمون الولاية لا بأسماء الأولياء، كما أن المهم هو خشية الأولياء لله لا الخوارق التي يجريها الله على أيديهم، والحق أن أهم معنى للولاية هو الصدق مع الله.