أرسى الإسلام مجموعة من القواعد والأسس التي يؤسس بها المسلمون علاقاتهم في التعايش مع الآخر في جميع الأحوال والأزمان والأماكن، بحيث يصبح المسلمون في تناسق واندماج مع العالم الذي يعيشون فيه، بما يضمن تفاعلهم مع الآخر وتواصلهم معه دون تفريط في الثوابت الإسلامية. هذه القواعد والأسس تشكل النسق الإسلامي الذي يتميز بأنه نسق مفتوح يدعو لبناء الجسور مع الآخر ويهدم الحواجز، يدعو إلى التواصل الإيجابي النافع الذي يجعل من العالم كتلة واحدة وفاعلة تستوعب الجميع ولا ترفض أحدًا، هذا النسق يدعو للخروج من حالة الجمود والانغلاق الحذر الدائم من الآخرين وبناء أسس متينة من التواصل والتحاور، وجسور من المكاشفة ترسخ قيم الثقة ونبذ العنف والخلاف. والشريعة الإسلامية داخل هذا النسق المفتوح للدين الإسلامي تتسع للجميع ولم تكن قاصرة على أتباعها مثل غيرها، بل على العكس فهي شريعة تخفيف ورحمة، لا يعدم أحد أيًّا كان نوالاً منها، بل تستطيع البشرية جميعًا باختلاف عقائدهم ومشاربهم أن يستمتعوا بما فيها من عدل وأمن وحكمة ورفع للحرج، ووضع للآصار والأغلال، وحِل الطيبات وتحريم الخبائث، وأمر بمعروف ونهي عن منكر. كما أن الخطاب القرآنى جاء عالميًّا موجهًا للبشرية أجمعين، على اختلاف أعراقهم وأجناسهم وألوانهم واختلاف ألسنتهم وعاداتهم وتقاليدهم، لذا خاطبهم القرآن الكريم بقوله تعالى: «يا بنى آدم»، و«يا أيها الناس»؛ فالإسلام دين عالمي وكذلك خطابه، جاء للناس كافة، فقال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا»، وقال عزَّ وجل: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» لكل العالمين وليس الأمر مقصورًا على المسلمين. وعليه فقد جاءت معظم النصوص القرآنية عامة في لفظها ومعناها، وظهرت القاعدة الأصولية الشهيرة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، التي تعني أن أسباب النزول لا تُقيّد معاني النصوص ودلالاتها بمن نزل فيها، بل تتعدّى لتشمل غيرهم ممن لم ينزل فيهم الخطاب، ليأتي دور الخطاب الإسلامي المتسم بالتجديد من خلال علماء نذروا أنفسهم وأعملوا عقولهم لاستخلاص الأحكام التى تناسب ما استجد في الزمان والمكان ولكي تجد الأمة ما يهديها إلى الطريق المستقيم. ولقد استوعب الإسلام بحضارته العظيمة الحضارات الأخرى واستفاد منها وأفادها، حتى إن الحضارة الإسلامية قد أخذت بعض العلوم من الحضارات الأخرى واستبعدوا منها السحر والخرافة وأضافوا لها المنهج العلمي الذي يعتمد على المنهج التجريبي والقياس والتوضيح واستكمال الناقص من المعلومات، كل هذا في إطار عدم مخالفة الشرع الشريف، وأبهر علماؤنا الجميع مثل ابن الهيثم في الهندسة، وابن سينا في الطب، وحنين بن إسحاق في الترجمة الطبية، وأبو بكر الرازي في الطب، وغيرهم من علماء المسلمين. والنبي صلى الله عليه وسلم أعطانا الدرس والمثل والقدوة في كيفية الاستفادة من الآخر ما دامت تلك الاستفادة لا تتعارض مع الشرع الشريف، ووضع شروطًا وآليات تحكم هذه العلاقة، فهو صلى الله عليه وسلم نفسه قد أثنى على قوانين قريش السياسية، وعمل بها ما دامت لا تصطدم بالشرع أو تجر إليه الذلة والهوان، وتمثل ذلك في حلف الفضول، وحلفه مع عمه أبي طالب، وحلفه مع المطعم بن عدي، وصحيفة المدينة، وحلفه مع خزاعة وغيرها والتي تؤكد حرصه صلى الله عليه وسلم على تحقيق مصالح الأمة دون ذل أو صدام مع الشرع. فمثلاً ، أقر صلى الله عليه وسلم قانون الجوار وإغاثة المستغيث وهو أحد القوانين الوضعية التي وضعتها قريش في الجاهلية، حين طلب جوار المطعم بن عدي المشرك، وذلك بعدما خذله أهل الطائف، فدخل مكة في جوار هذا الرجل وطاف بالبيت وصلى بالكعبة ولم يتعرض له أحد، ولو أن أهل قريش قد ظفروا به قبل هذا الجوار لفتكوا به، مما أسس للمسلمين بعد ذلك الاستفادة من الآخر مالم يخالف الشرع أو الدين أو يجر عليهم الذلة والصغار. وكذلك قبوله صلى الله عليه وسلم بفكرة الأحلاف مع المشركين ما دامت تلك الأحلاف تهدف إلى أمر نبيل مثل نصرة المظلوم وردع الظالم، بل إن الإسلام يدعمها ويؤكدها، قال صلى الله عليه وسلم: «وَأَيَّمَا حِلْفٍ كان فِي الجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلامُ إِلا شِدَّةً» وتعامل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع من يخالفونه في العقيدة يؤكد سعة الشريعة الإسلامية وعدم حرصها على إقامة الحواجز بينها وبين الآخر. كل هذه النماذج الإسلامية التي قدمها النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده صحابته تدل على أن الإسلام سعى لاستيعاب الحضارات والثقافات ولم يسع لإقامة الحواجز والصدام معها، لكنه وضع شروطًا وآلياتٍ تحكم هذا التلاقح الحضاري يجب ألا تفوتنا وهي أننا نأخذ منها ما يتفق مع حضارتنا، وما لا يتعارض مع أسس الإسلام ومسلماته، وما يحقق إعمار الكون وإسعاد البشرية، ولا نأخذ ما يختلف معها، وهذا يتم وفق منهجية للاقتباس من تلك الحضارات تقوم على قياس مدى الحاجه الحقيقية لهذا التلاقح، والقدرة على ربطه بالسياق الحضاري والديني دون تعارض أو صدام. نقلا عن "الاهرام" المصرية