عقله المدبر وقلبه المتشكك جعلا منه مفكراً عظيماً أثار جدلاً واسعاً على الساحة الإسلامية... هو العالم الراحل مصطفى محمود الذي احتل اهتمام العديد من وسائل الإعلام المختلفة في ذكرى وفاته الثانية، فمنذ رحيله في مثل هذا اليوم من العام 2009، وهو يحتل قلوب وعقول كافة المصريين لما يتمتع به من أفكار وكتابات قوية أثارت جدلاً كبيراً وأثرت تأثيراً واسعاً على الرأي العام ليس فقط في مصر ولكن في العالم أجمع. حياته في سطور مصطفى محمود مفكر وطبيب وكاتب وأديب مصري، اسمه بالكامل مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ، ولد في 27 ديسمبر 1921 بشبين الكوم بالمنوفية، وكان توأماً لأخ توفي في نفس عام مولده، وتوفي والده بعد سنوات طويلة من إصابته بالشلل في العام 1939، عُرف عنه تفوقه الدراسي ولكنه كان له موقف ورأي منذ الصغر، فعندما ضربه أحد أساتذته، امتنع عن الذهاب إلى المدرسة لمدة ثلاث سنوات حتى تم نقل هذا المدرس، وكان يعشق مجال الطب والتشريح قبل أن يلتحق بكلية الطب، حيث أنشأ معملاً صغيراً بمنزل والده يصنع فيه الصابون والمبيدات الحشرية ليقتل بها الحشرات، ثم يقوم بتشريحها، والتحق بعد ذلك بكلية الطب وتخصص في الأمراض الصدرية وتخرّج منها في العام 1953. عاش في مدينة طنطا بجوار مسجد "السيد البدوي" الشهير الذي يعدّ أحد مزارات الصوفية الشهيرة في مصر؛ مما ترك أثراً واضحاً على أفكاره وتوجهاته، وكان لالتحاقه بكلية الطب تأثير أيضاً على أفكاره، نظراً لوقوفه طول اليوم أمام أجساد الموتى مفكراً في الإجابة على عدة تساؤلات حول سر الحياة والموت وما بعدهما، واشتهر حينها بلقب "المشرحجي". تزوج مرتين الأولى عام 1961 ورزق فيها ب " أمل" و"أدهم" ولكن سرعان ما انتهى ذلك الزواج بالطلاق في عام 1973، وبعد عشر سنوات تزوج للمرة الثانية من السيدة زينب حمدي، وانتهى أيضاً بالطلاق في العام 1987. اشترى قطعة أرض من عائد أول كتبه (المستحيل)، وأنشأ عام 1979 مسجداً في القاهرة وألحق به ثلاثة مراكز طبية تهتم بعلاج الفقراء، وضم أيضاً أربعة مراصد فلكية ومتحفًا للجيولوجيا يقوم عليه أساتذة متخصصون. أزمات فكرية لم يكن الطب هو المجال الوحيد المفضّل له، بل كان يعشق الكتابة والبحث، وتفرغ لهذا المجال عام 1960، وألّف ما يقرب من 89 كتاباً في مجالات متنوعة منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، إضافة إلى الحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات، وقد تميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة. وعرّضته أفكاره وتوجهاته لأزمات وهجوم عنيف، كان أولها طلب الرئيس جمال عبد الناصر بتقديمه للمحاكمة عقب تأليفه لكتاب "الله والإنسان" التي اعتبرها الأزهر قضية كفر، ولكن اكتفت المحكمة حينها بمصادرة الكتاب، وتم طبع الكتاب في عهد الرئيس أنور السادات بعدما أبدى إعجابه به. وتأثر محمود بالتيار المادي الذي تزايد في الستينات، كما تأثر بالفلسفة الوجودية، وظل يبحث ثلاثين عاماً عن الله ولغز الحياة والموت، وقرأ في البوذية والبراهمية والزرادشيتة، ولكن طوال فترة البحث والشك لم يُلحد أو يَكفر فهو كان معترفاً بوجود الله بشكل مطلق ولكنه عجز عن إدراكه والتصور الصحيح له، وبعد إنهاء تلك المحنة الروحية ألّف مجموعة من أروع كتبه ومنها (مع صديقي الملحد)، (رحلتي من الشك إلى الإيمان)، (التوراة)، (لغز الموت)، (لغز الحياة)، وصنعت منه تلك التجربة مفكراً دينياً بارعاً ومؤثراً. وكانت الأزمة الكبري التي أدت إلى إصابته بجلدة مخية في العام 2003 عقب اعتزاله الكتابة قليلاً وانقطاعه عن الناس، هو ما جاء في كتابه "الشفاعة" من أن شفاعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة مقيدة أو غيبية إلى أقصى حد، وأن الاعتماد على الشفاعة لن يؤدي إلا إلى التكاسل عن نصرة الدين والتحلي بالعزيمة والإرادة في الفوز بدخول الجنة والاتكال على الشفاعة وهو ما يجب الحذر منه، مما عرضه لموجه عنيفة من الهجوم وصلت إلى تأليف 14 كتاباً للرد عليه. كما أثارت كتاباته ومقالاته في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة جدلاً واسعاً، حتى قال عنه الشاعر الراحل كامل الشناوي ”إذا كان مصطفى محمود قد ألحد فهو يلحد على سجادة الصلاة، كأن يتصور أن العلم يمكن أن يجيب على كل شيء، وعندما خاب ظنه مع العلم أخذ يبحث في الأديان، بدءً بالديانات السماوية وانتهاءً بالأديان الأرضية ولم يجد في النهاية سوى القرآن الكريم“. وكانت من أبرز مؤلفاته (الإسلام في خندق، زيارة للجنة والنار، عظماء الدنيا وعظماء الآخرة، الإسلام السياسي والمعركة القادمة، المؤامرة الكبرى، عالم الأسرار، على حافة الانتحار، إبليس، لغز الموت، لغز الحياة، في الحب والحياة، أينشتين والنسبية). وله مجموعة من أروع القصص والروايات، من بينها ( أكل العيش، عنبر 7، شلة الأنس، رائحة الدم، رجل تحت الصفر، الأفيون). العلم والإيمان ولم يكتف الدكتور بالوسائل الإعلامية المطبوعة للتعبير عن أفكاره، بل توجه أيضاً إلى التلفزيون وعرض مشروع برنامج العلم والإيمان، الذي وافق عليه التلفزيون مقابل 30 جنيه للحلقة، مما أدى إلى فشل المشروع منذ بدايته، إلا أن أحد رجال الأعمال علم بالموضوع فأنتج البرنامج على نفقته الخاصة ليصبح من أشهر البرامج التلفزيونية وأوسعها انتشاراً على الإطلاق، وقدم المفكر والأديب 400 حلقه به، وكان لوقف البرنامج أثر كبير علي متابعيه الذين اعتادوا على انتظاره كل أسبوع وسماع مقدمة الناي الحزينة وافتتاحية مصطفى محمود (أهلاً بكم)، وقد صرح ابنه أدهم أن قرار وقف البرنامج صدر من الرئاسة المصرية إلى صفوت الشريف - وزير الإعلام آنذاك - تحت ضغوط صهيونية، فقد كانت إسرائيل تتربص به دائماً لأنه كان يفند أكاذيبها بأسلوب علمي موضوعي في كتبه وبرامجه التليفزيونية، وما زاد من غضبها تأليفه كتاب "إسرائيل البداية والنهاية" الذي بدأ فيه الكشف عن حقيقة إسرائيل ومحاولاتها لفرض سيطرتها على الشعوب العربية.