باموك: أهتم بفردية الأشخاص عن السرديات التاريخية الكبرى عبدالمجيد: حرية التعبير في مصر لا تبشر بخير! باموك: أقمت متحفاً باسطنبول..وعبدالمجيد: سسيقبض عليَ إن فكرت في مثله! عبدالمجيد: اشريت صحفاً ووزعتها على المارة بالمجان بعد نشر قصتي الأولى! "قراءة تاريخ المدن من بين ثنايا سطور الروايات الأدبية له مذاق يساعد على إحياء تلك الحقب الزمنية البعيدة التي لم نعاصرها بكل ما فيها من أحداث وشخوص وتفاصيل حياة". هكذا افتتح الروائي التركي أورهان باموك، فعاليات الدورة الأولى من "مهرجان القاهرة الأدبي" في ببيت السحيمي، مساء أمس السبت، التي جرت تحت عنوان "أسطنبول تحاور الإسكندرية"، بحضور الأديب المصري، إبراهيم عبد المجيد، والذي أدراته د.شيرين أبو النجا. حول الذاكرة والمكان والحنين، دار الحوار بين الكاتب السكندري والكاتب التركي، باموك أعرب خلال الندوة عن سعادته الغامرة بالتواصل مع أدباء وقراء مصر من خلال المهرجان، قائلاً: "لا أكتب لتخليد تلك اللحظات التاريخية المفصلية من عمر الأمم وإنما لأهتم بكل التفاصيل التي لها علاقة بالإنسان بطل روايتي، فالإنسانية بمعناها الشامل هي محور كل رواياتي الأدبية. مضيفاً: كروائي أعتبر أن التاريخ هو الحاضر، والمثير في الرواية أنه لا حاضر مطلق، بل هو عدة روايات تاريخية وحاضرة، والجملة الروائية الجيدة هي أن يكون الماضي حاضر، والحاضر جزء من الماضي. من جانبه قال الروائي الكبير إبراهيم عبدالمجيد أن هناك مدن أسطورية زائلة في التاريخ، وإسكندرية إحدى هذه المدن، فقد عشت في الإسكندرية بالأربعينيات وسمع حكايات الغارات والحرب العالمية الثانية، وكانت إسكندرية هي عاصمة العالم منذ أنشأها الإسكندر الأكبر حتى منتصف الدولة الرومانية. يواصل: هناك 3 تحولات في تاريخ هذه المدينة، أولاها الحرب العالمية الثانية، ثم في الخمسينيات حين خرج منها الأجانب وأصبحت مدينة مصرية خالصة وتغير أسماء الشوارع بها، ثم في السبعينيات حين فقدت روحها المصرية؛ وأصبحت وهابية. ويشير عبدالمجيد أنه أثناء كتابته للروايات التي تستلهم التاريخ، لا يعيد تفسير الماضي وفقاً لما يراه في الحاضر، بل يحاول أن يأخذ القارئ إلى تلك الأحداث البعيدة، قائلاً: الأدب يغلب السياسة. ووصف الكاتب باموك الكتابة الأدبية ب"الفن الحداثي الذي يمارس السياسة بطريقة خاصة جدا"، قائلاً أنه رغم معيشته الطويلة في اسطنبول إلا أنه وهو يكتب لا يدرك أنه يكتب عنها، بل عن الإنسان، قائلاً: مع ترجمة كتبي تم التعامل معي باعتباري كاتب اسطنبولي. ويضيف: الروائي يعبر عن نفسه من خلال المدينة، التي هي مزيج بين المباني الحديثة والمحلات والزحام والوجوه التي لا يعرفها أحد، ومن خلال تشابك المدينة والتداخل بينها وبين الإنسان يتم خلق قصتها ووضعها في إطار. يتابع: الكتابة عن المدن تعد فهرس للذاكرة، تؤرخ أيضاً لأحاسيس مختلفة، فالمكان يسجل نفسه في ذاكرتنا وفقاً لأحاسيسنا في هذه اللحظة، وحين تدمر المباني أو تقطع شجرة ما، نفقد فهرس ذاكرتنا، وكأن فقدان المكان هو فقدان للذاكرة!. وعن متحف البراءة يقول باموك: كتبت روايتي "متحف البراءة" عام 2008، وجمعت في الرواية مقتنيات الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة العليا في اسطنبول، فرشات أسنان، وبطاقات، ورق حكومي، سجاد، أدوات مطبخ، من أجل أن تكون حاضرة في الرواية، قائلاً: أه ليس الأماكن فقط من تجمع ذاكرتنا بل أيضاً المقتنيات البسيطة تشكل الذاكرة، وانشأت بعدها "متحف البراءة" في اسطنبول. وعن المكان في أعماله يقول إبراهيم عبدالمجيد: المكان هو الأصل والإنسان ابن المكان، فمثلاً اللغة في "لا أحد ينام في الإسكندرية" أثناء الحرب لغة نارية بها هرولة، أما في رواية "البلدة الأخرى" ولأنها تدور في الصحراء فاللغة هي الصمت,. قائلاً: المكان في رواياتي هو البطل. وعن تسمية دار النشر الخاصة به "دار الياسمين" قال: أنها من أحب رواياته إلى قلبه، وتحكي عن الأب الذي لا ينجب سوى البنات الجميلات، ولا يزوجهن إلا إلى كبار السن، وهي عن عصر السادات كما يشير عبدالمجيد، وهي رواية كوميدية كما يقول، ووفاء لذكرى منزل "بيت الياسمين" الذي هدم، أسميت دار النشر باسمه كنوع من تخليد هذه الذكرى. وتعليقاً على متحف البراءة قال: لا يمكن لشخص أن ينشئ متحفاً في مصر، فمن أجل إقامة دار نشر نحتاج إلى موافقات أمنية عديدة، وإذا أقمت متحفاُ سيقبض عليَ!. وأوضح باموك أنه لا يقصد بكتابته عن التاريخ أن يخوض في السرديات الكبرى للتاريخ، أو تاريخ الحكام لكنه يهتم بالإنسان والتفاصيل الحياتية الخاصة بالشخصيات، فقد اهتممت بكيفية ظهور فرش الأسنان في اسطنبول، وكيف عرفها الأتراك، ومن أين حصلوا عليها، فالكتابة الأدبية تعني حرفة كتابة التفاصيل الدقيقة، فأنا أهتم بشخصنة التاريخ أكثر من أحداثه الكبرى. يتفق معه إبراهيم عبدالمجيد الذي أكد أنه اهتم في روايته "لا أحد ينام في الإسكندرية" التي كتبها على مدار 6 سنوات، بسعر رباط الحذاء، وأنواع السينمات والأغاني في هذا الوقت، وغيرها من التفاصيل الصغيرة، قائلاً: الحصول على السياسة سهل، لكن إدراك التفاصيل أمر صعب. وتابع: التاريخ الساذج يكتبه الحكام، لكني اهتم بحياة البشر العادية. وعن العمل الأول يقول: أعيش على النسيان وليست الذاكرة، فلا يسفط منك إلا ما ليس لك رغبة في الاحتفاظ به، لذلك ما أتذكره هو المهم، فحين أكتب شئ جديد لا أتذكر ما قبله. وعن قصته الأولى يقول: نُشرت أول قصة قصيرة لي عام 1969 بأخبار اليوم، وحصلت على المركز الأول في نادي القصة بإسكندرية، وحينها أنفقت 30 قرشاً واشتريت الصحف ووزعتها على المارة مجاناً، ليقرأوا قصتي!. وعن علاقته بالأجيال يقول أن الظواهر الكبرى تصنع أجيالاً، وحين أكتب أحاول التجديد وألا أكتب مثلما كتب الآخرون، وقضية الاغتراب تشغلني، فالإنسان منفي في هذا العالم. وعن علاقته بنجيب محفوظ يقول قرأته في سن الحادية عشر، وأحببته لأن الإسكندرية استطعت تغييره وتجديد لغته، فالمكان فعل به ذلك "اللص والكلاب" مثلاً أخرجته من الكلاسيكية لأنها كتب عن الإسكندرية وهي مدينة حرة، لافتاً إلى أن الأدب العربي لم يحظ بالأضواء إلا بعد حصول محفوظ على نوبل. ويتفق معه باموك الذي قال أن الاهتمام بالأدب التركي جاء بعد حصوله على "نوبل"، قائلاً: نواجه مسكلات تتعلق بالرقابة والحديث عن السياسة لذلك لا نتقدم مثلما يتقدم الأدب الأوروبي، فالتعريف العالمي بالأدباء يبدأ حين يؤمن المجتمع بحرية التعبير، وتحترم الحكومة ما يقدمه الأدب. وعن حرية التعبير يقول عبدالمجيد: الأيام القادمة في مصر لا تبشر بخير فيما يتعلق بحرية التعبير، مشيراً إلى مقاله "الرواية والقمع" والذي يفسر فيه لماذا لجأ أدباء أمريكا اللاتينية إلى العجائبية والأسطورية، ويرجع ذلك إلى القمع، فلجأوا إلى هذه الأنماط للخروج عن القيم السائدة والاعتراض على القمع. فالتجديد في الشكل الأدبي برأيي ثورة على القمع. وحول التجديد في الكتابة يقول باموك، أن الأجيال السابقة من الكتاب كانوا يركزون على الأوضاع المجتمعية للفلاحين في القرى، لكنني اختلفت عنهم في التركيز على الحياة البسيطة للبشر. يتابع: كواطن وورائي أهتم أكثر بفردية الأشخاص، فقد نشرت رواية عن بائع زبادي، عن تفاصيل علاقته بالعالم، فأمزج بين العام والخاص، ففي السابق كان الاهتمام باحداث التاريخ الكبرى أما الآن أهتم بفردية الإنسان. واختتم اللقاء بالحديث عن الترجمة، فمن حيث أكد عبدالمجيد أن أعماله ترجمت، لكنه قال أنه لا يهتم بالترجمة لأنها ليست عمل المؤلف، فهو يكتف بمتعة الكتابة. قال باموك أن أعماله ترجمت إلى 62 لغة، مشيراً إلى أن لديه مدققين جيدين للتأكد من أن النص لا يفقد روحه حين يترجم، قائلاً: أكتب عن اسطنبول، وبترجمة أعمالي يستطيع البشر في أي مكان أن يقرأوا عنها ويفهمون روحها. كانت شيرين أبوالنجا، الناقدة الأدبية، قالت في افتتاح المهرجان إن إدارته حرصت على أن تكون ليلة الافتتاح عبارة عن حوار أدبي راق بين مدينتي الإسكندريةواسطنبول، وذلك من خلال استضافة أشهر أديبين كتبا عن المدينتين روايات تخطت محلية موطنهما ودقت أبواب العالمية. أورهان باموق روائي تركي حصل على جائزة نوبل للآداب عام 2006، وولد في اسطنبول عام 1952 ودرس العمارة والصحافة قبل أن يتجه إلى الكتابة الأدبية. فيما ولد إبراهيم عبد المجيد بالإسكندرية، في 2 ديسمبر سنة 1946، وحصل على ليسانس الفلسفة من كلية الآداب جامعة الأسكندرية، وعمل في وزارة الثقافة، ومن أشهر رواياته "لا أحد ينام في الإسكندرية". ومن المقرر أن يستمر مهرجان القاهرة الأدبي حتى التاسع عشر من فبراير الجاري، تحت شعار "مزج الثقافات وتواصل الأجيال". ويشارك في دورة هذا العام أدباء من ألمانيا وسويسرا والمجر وبولندا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك وأيرلندا واستونيا واليونان والكويت والأردن والسودان وليبيا ولبنان إضافة إلى تركيا ومصر.