لا يعنى البؤس الفقر المالى فى كل الأحوال، يصح أن نعرّف البؤس على أنه الفقر فى المطلق، ثم نترك تحديد نوعه بعد ذلك لما يُنسب إليه، أو للوصف الذى نخلعه عليه، فهناك الفقر الفكرى، والفقر الأخلاقى، وفقر الأداء، فقليل الفكر أو الأخلاق أو الأداء هو فى النهاية بائس، بل قد يزيد فى بؤسه عن فقير المال إذا رزقه الله عقلاً أو خُلقاً أو حسن أداء، وإذا مددت خط التفكير فى هذا الموضوع على استقامته فيمكنك أن تخلص إلى أن شُح المال قد يكون أبسط أنواع البؤس، والأقرب إلى التخلص منه إذا عزم الإنسان على ذلك، أما أنواع البؤس الأخرى فقد يصعب على المرء فى أحوال كثيرة الخروج منها. بؤس الفكر شائع جداً فى حياتنا، تتجلى أماراته فى ترديد نفس الكلمات فى كل المواقف، وتكرار نفس الألعاب التى سبق ولعبناها، دون أدنى وعى باستهلاك الفكرة أو اهتلاك اللعبة. راجع مثلاً الكلام الذى تردد على هامش مذبحة شباب ال«وايت نايتس» بالدفاع الجوى، مقارنة بما سبق وتردد أيام مذبحة «ألتراس أهلاوى» ببورسعيد. نفس الكلام: إيه اللى وداهم وجرّاهم ورا ماتش كورة؟ الإخوان همه اللى قتلوهم، الشرطة بريئة من دمهم، نواسى أهالى الشهداء، والمجرم لازم يتعاقب. فى كل مناسبة نفس الهرى وذات الرغى، دون كلل أو ملل. وقس على ذلك عندما تحدث واقعة إرهابية: فما أكثر ما نسمع عبارات من فصيلة: الإرهاب يترنح، الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة، لقد تحرك الإرهابيون بسبب الضربات الأمنية الموجعة التى وُجهت إليهم.. فى كل مرة لا جديد. قام إرهابيو «داعش» بذبح 21 مواطناً مصرياً قبطياً، لم نسمع من المسئولين سوى نفس الكلام الذى قيل أيام ذُبحت أسرة قبطية بأكملها فى ليبيا على أيدى الدواعش أيضاً. نفس الأسطوانة: الرئاسة تتابع، خلية الأزمة تعمل، اتصالات مكثفة من أجل كشف ملابسات الموقف.. من جديد لا جديد تحت شمس الفكر أو العقل أليس ذلك بؤساً؟ الفقر الأخلاقى حدّث عنه ولا حرج، فيكاد يكون الكذب هو لسان حال الجميع، الكبير والصغير، ومعه أصبح الصدق عملة صعبة فى حياة الكثيرين، المواطن يكذب، والمسئول يكذب، الرجل يكذب، والمرأة تكذب، أصحاب اللحى يكذبون، وأصحاب البدل الأنيقة يكذبون، الغنى يكذب والفقير يكذب، فإذا أضفت إلى حديد «الكذب» أسمنت «النفاق»، وخلطته ب«زلط» القبح اللفظى الذى أصبح سمة فى لغة نماذج بشرية كاريكاتيرية، مؤكد أنك لست بحاجة لأن أذكر لك بعضها بالاسم لأنك تعرفها جيداً، إذا خلطت هذه الخلطة مع بعضها فسوف تخرج بحقيقة أن الفقر الأخلاقى لدينا أصبح متيناً متانة «الصبّة الخرسانية». وعن فقر الأداء حدّث ولا حرج، فنحن نكرر نفس الأساليب البالية التى ثبت لنا فشلها فى كل مرة دون سأم أو ملل. مثلاً العجز فى الموازنة يزداد، حسناً، لا تُجهد عقلك كمسئول وتفكر فى حلول مبتكرة، استقرب جيب المواطن وارفع له الأسعار، وقلل دعمك له، وافرض عليه المزيد من الضرائب. مصريون مختطفون على هويتهم القبطية فى ليبيا.. «طنش» على الموضوع، أهاليهم بيسألوا عليهم النهارده.. بكرة يتعبوا. فى كل موقع ومع كل مسئول فى هذا البلد ستجد «المخلوع» مبارك شاخصاً وهو يقول: «ارمى ورا ضهرك».. شوف البؤس! نقلا عن "الوطن" المصرية