ألقى فضيلة الشيخ شريف عبد العزيز عضو الفريق العلمي، خطبة التراويح بعنوان "تأملات في قدرة الرحمن في الكون والإنسان"، بجامع الأحمدي، بدمنهور بمحافظة البحيرة مصر، وتناولت عناصر الخطبة، القرآن يأمر بالتفكر والتأمل في الكون، بيان عظيم قدرة الله وبديع صنعه، صفة القدرة لله وعلاقتها بأسماء الله الحسنى، دلائل قدرة الله في خلق المتضادات، أمثلة القرآن على كمال قدرة الله تعالى، آثار الإيمان بقدرة الله على حياة المسلم. واستنكر فضيلة الشيخ خوف أغلب البشر من قوة المخلوق دون التأثر بقوة الخالق عز وجل، مرجعا ذلك إلى ضعف قوة الأيمان لدى العبد تجاه الخالق، الأمر الذي جعلنا مذلولين لخلقة. وحث المسلمين على ضرورة ترك المخلوق، لأجل الخالق عز وجل، وأن يستخير الله في أي أمر يقدم عليه. وإلى نص الخطبة (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرد بصفات الجلال والكمال، وتنزه عن الأنداد والأمثال. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أعلم الناس بربهم، وأتقاهم له، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها المسلمون: إن للقدرة الالهيّة أدلة كثيرة، وبراهين وفيرة، كاختلاف اللغات، وتعدد الأصوات، وتباين النغمات، وتفاوت الصفات، كلها تدل على رب الأرض والسموات، خذ مثالا حيا, ورقة التوت تأكلها الدودة فتخرج حريراً، والنحلة فتخرج عسلاً، والغزال فتخرج مسكاً، ألا يدل على علام الغيوب, ومن هو على كل شيء قدير, وعلى الحكيم الخبير، وتأمل البيضة حصن حصين، وبناء رصين، لا منفذ ولا مخرج ولا هواء ولا ماء, تفقس فيخرج منها حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن، وهيئة جميلة، وصوت مليح، فاسأل من خلق، ومن برأ، ومن أنشأ، ومن صور، إنه الخلاق العليم, والزهرة ذات ألوان؛ أبيض فاتح، وأحمر غامق، وأسود فاحم، وأخضر ممتع، تهل بالندى، وتفوح بالشذى، وتميس مع الهوى، آية من آيات مَن على العرش استوى, وفي هذا يصدق قول الشاعر: تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليكُ عيون من لجين شاخصات *** بأحداق هي الذهب السبيكُ على كثب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريكُ إن مبدع هذه المخلوقات العظيمة، وخالق هذه الكائنات العجيبة، هو الرب الملك القادر، الذي يستحق أن يُعبد وحده، وأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يتلقى منه وحده منهج الحياة كله، وأن لا يكون لغيره أمر ولا نهي، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم، فذلك كله لله وحده لا شريك له, ولا نقدم بين يديه ورسوله قول كبير أو عزيز أو عالم أو ذوق أو كشف أو رغبة أو هوى. عباد الله: إنّ كثيرا من الناس يتأثر بقوة المخلوق، ولا يتأثر بقوة الله، وذلك لضعف الإيمان واليقين، فحُرم من الاستفادة من خزائن الله، ومن قدرة الله، وإن قوة الناس لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة المخلوقات التي خلقها الله كالسموات والأرض والجبال، وقوة المخلوقات كلها لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة الله، وقوة الناس وقوة المخلوقات كلها بيد الله وفي قبضة الله، يعز بها من يشاء، ويذل بها من يشاء، ويهلك بها من يشاء، ويقارن الله بين ذلك (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) . وبسبب ضعف الإيمان واليقين تأثرنا اليوم من قوة المخلوق، فأصبحنا نخافه ونرجوه، مع أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً, وأعرضنا عن الخالق القادر المالك لكل شيء، فلا نرجوه ولا نخافه، ولا نقف ببابه فأذلنا الله. عباد الله: إن كان البشر لديهم قوة المصنوعات اليوم، فإن الله عنده قوة المخلوقات، وقوة المخلوقات التي خلقها الله أقوى وأشد من قوة المصنوعات التي صنعها البشر، وهذه وتلك لا تفعل شيئاً إلا بإذن الله. من هذه الأمثلة: فهذا الهواء اللطيف الذي خلقه الله، والذي لا يستغني عنه الإنسان، جعله الله بقدرته قوة مدمرة عاتية، وريحاً شديدةً عقيماً، أرسلها الله وسلطها على قوم عاد لما كفروا بالله، وكذبوا رسوله، فدمرت كل شيء بأمر ربها: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) . وكذلك الماء الذي خلقه الله، والذي لا يستغني عنه الإنسان، حينما يأمره الله أن يغرق الأرض ومن فيها، من ذا يرده؟، ومن ذا ينجو منه؟ إن قوم نوح لما كفروا بالله -سبحانه- وكذبوا نوحاً، ماذا فعل الله بهم؟ (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ) . لقد وقف موسى وقومه أمام البحر والعدوّ من ورائه أمره الله بضرب البحر بعصاه ففتح الله لموسى ومن معه من المؤمنين، فدخلوا معه وخرجوا، ثم تبعهم فرعون ومن معه فأطبقه الله عليهم، فهلكوا جميعاً. ثم لما جاوزا البحر، وساروا في طريقهم أصابهم العطش، فدعا موسى ربه، فأمره الله بضرب الحجر بعصاه ففجر القوي القدير المياه العذبة من تلك الحجارة القاسية, قال الله: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) وهما آيتان خلاف العقل والمألوف: الأولى: اضرب البحر يظهر الحجر اليابس. والثانية: اضرب الحجر يخرج الماء السائل، فسبحان القدير الذي يفعل ما يشاء. وتوضأ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية من إناء، فجهش الناس من شدة العطش، فماذا فعل الله لإرواء رسوله والمؤمنين معه؟. اسمع إلى الخبر عن جابر -رضي الله عنه- قال: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ فَتَوَضَّأ، فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقال: "مَا لَكُمْ"؟ قالوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأ وَلا نَشْرَبُ إِلا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أصَابِعِهِ كَأمْثَالِ الْعُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا، قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قال: "لَوْ كُنَّا مِائَةَ ألْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً" متفق عليه. فمتى نستفيد من قدرة الله؟ ومتى نستفيد من خزائنه؟. أيها المسلمون: إن المؤمن الحق لا يغتر بجاهه أو ماله أو قدرته، بل يتبرأ من حوله وقوته، ويسأل الله الإعانة في أموره؛ فقدرته تعالى نافذة، فإذا سمع المؤمن المؤذن يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، كأنه يقول: هذا الذي تدعوني إليه وهو الصلاة والفلاح أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته، إنه يطلب الإعانة من الله تعالى حتى في أمور دينه. وإذا حار بين أمرين لا يدري ما الخير له فيهما استخار الله -عز وجل-، وسأله بقدرته وعلمه أن يختار له الأحسن فقال: "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب" . وإذا شكا وجعًا وألمًا علم أن الله -سبحانه- قادر على أن يذهب وجعه، وأن يسكن ألمه؛ فيضع يده على مكان الوجع ويقول: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" . إن من قوي إيمانه بالله تعالى قوي يقينه بقدرة الله وقوته؛ فلا يعظم ولا يخاف إلا الله تعالى. لا يعظم مخلوقًا كتعظيم الله تعالى مهما كان له من الإنجازات والعطاءات، ومهما شاهد من قدرته وقوته؛ لأنه يعلم أن الله تعالى أقوى وأقدر. ومن كان كذلك فإنه لا يظلم العباد؛ لأنه إن رأى قدرته فوق قدرتهم علم أن قدرة الله تعالى فوق قدرته، وهو كذلك لا يخاف الظلمة والمتسلطين؛ لأنه إن رأى أن قدرتهم فوق قدرته علم أن قدرة الله –تعالى- فوق قدرتهم. والمؤمن مأمور دائمًا أن يتذكر قدرة الله -عز وجل- وقوته في كل أحواله وشؤونه, ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأَبِي هُرَيْرَةَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ, لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ, فيَقُولُ الله: أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ" . فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واطلبوا منه العون في الأمور كلها، وتبرؤوا من حولكم وقوتكم، ولوذوا بحمى من هو على كل شيء قدير.