لماذا فقدت عقوبة الحبس في جرائم النشر قدرتها علي الردع؟!
مكرم محمد أحمد
أظن أنه لم يعد هناك ما يبرر الإبقاء علي عقوبة الحبس في جرائم النشر, ليس فقط لأن العالم أجمع, باستثناء عدد لا يزيد علي20 دولة, لم يعد يأخذ بهذه العقوبة البدنية احتراما لحرية الرأي, ولكن لأن العقوبة فقدت قدرتها علي الردع قياسا علي عقوبات أخري ربما تكون أشد وطأة وأكثر ردعا, تلزم الصحيفة بأن تكون أكثر تدقيقا في النشر, وأكثر التزاما بحدود القانون, وأكثر حرصا علي تجنب الأخطاء الضخمة التي تجعلها موضع المساءلة.
فقدت عقوبة الحبس قدرتها علي الردع لسببين أساسيين:
أولهما, نفور القضاة من تطبيق هذه العقوبة إن توافر في القانون بديل آخر يغنيهم عن استخدام النص المتعلق بالحبس, اذا لم يكن نص واجب التطبيق, والتزامهم بتطبيق الحد الأدني في عقوبة الحبس, لأن الذوق القانوني الحديث لم يعد يستسيغ هذه العقوبة البدنية في جرائم الرأي, في عهد تنامت فيه رياح الحرية, وتعاظمت حقوق الإنسان, فأصبحت المعرفة حقا ثابتا لكل مواطن, وسقطت فيه حواجز الجغرافيا وانفتحت سماواته, وتحول الي قرية صغيرة متشابكة تتدفق فيها المعلومات والأفكار بحرية كاملة دون عوائق.
وثانيهما, أن الحبس في جرائم الرأي عقوبة غير ملائمة, تكرس عناد الرأي, وتقلل فرص التواصل والحوار, وتوجد حالة من الترصد المسبق, تحيل أي خلاف في الرأي الي معركة حياة أو موت, وربما يترتب علي عقوبة الحبس نتائج أخري تعطي لمن وقعت عليه العقوبة نوعا من التعويض تجعله أقل اكتراثا بالعقوبة البدنية, لأنه سوف يصبح أكثر شهرة, وربما يصبح في نظر البعض بطلا.
وفي مجتمع اختار الديمقراطية نظام حكم وحياة, لا يصبح هناك مسوغ حقيقي للإبقاء علي هذه العقوبة, خصوصا عندما يكون المجتمع في طريقه لاستكمال ديمقراطيته, تتزايد فيه فرص الحراك السياسي الذي تشارك فيه جماعات وقوي ناشئة تسعي الي توسيع حق المشاركة, وتطالب بتحقيق توازنات أفضل بين السلطات الثلاث, وتعتقد أن المعارضة القوية تشكل سياج أمن لنظام الحكم تحميه من الخطأ وتدرأ عنه مخاطر الفساد, لأن عقوبة السجن سوف تكون رادعا يحد من قدرة هذه القوي الناشئة علي الحركة, وتغلق فرص الحراك السياسي, وتعيد الحياة الي ركودها السياسي السابق, حيث تسود اللامبالاة وتمتنع فرص المشاركة الصحيحة, وأظن أنه مهما تكن الأضرار الجانبية لهذا الحراك السياسي, فالأمر المؤكد أنه دليل حياة وتطور, كما أنه يشكل متنفسا حقيقيا يخفف من الضغوط الداخلية المتزايدة داخل المجتمع, تمكنه من تجاوز حالة الإحباط والسكون الي حالة النهوض والأمل.
أعرف أن هناك من يقولون, إن الأمر في جوهره لا يتعلق بحرية الرأي, لأن الصحف اليومية, خاصة وحزبية وقومية, تمتلئ كل يوم بمقالات ناقدة, تنتقد السياسات والأشخاص والأفكار بالحق والباطل دون أن يتعرض لها أحد, وأن هامش الحرية المتاحة في مصر الآن لصحافتها قد لا يدانيه هامش الحرية في أي بلد عربي, وأن المطلوب ليس تكميم الأفواه, أو إسكات المعارضة, أو الحجر علي حرية الرأي, ولكن المطلوب تحري الصدق والموضوعية, وعدم الخلط بين الشائعة والخبر, وتغليب الصالح الوطني العام علي اعتبارات الإثارة الصحفية بهدف الترويج للصحيفة, والتزام آداب الحوار بما يحفظ للناس أقدارها, ويحول دون السب والقذف والتنابز بالألقاب.
وقد لا يكون في وسع أحد أن ينكر حجم الأضرار التي يمكن أن تترتب علي النشر الخاطئ الذي لا يلتزم معايير المهنة الصحيحة, سواء علي مستوي الأفراد أو علي مستوي الدولة, فما أكثر الأفراد الذين لحقت بهم أضرار جسيمة, لأن الصحف تناولتهم بأخبار غير صحيحة يمكن أن يترتب عليها تدمير حياة أسر بأكملها في بعض الأحيان, وكذلك الأمر علي مستوي الدولة, لأن شائعة واحدة غير صحيحة تنتشر في توقيت بعينه يمكن أن تسبب أضرارا جسيمة, تلك حقائق لا يستطيع أحد أن يجادل في صحتها أو يهون من خطرها, ولكن علاج هذا القصور لا يكون بتكريس عقوبة حبس الصحفيين في جرائم النشر, لأن الحبس لن يشكل درسا مستفادا ولن يرتب عقوبة رادعة, علي العكس ربما تساعد عقوبة الحبس علي خلط الأوراق فلا يعود في وسعنا أن نفرق بين البطل والجاني, وما من شك في أن هناك عقوبات أكثر ردعا لا تعتمد العقاب البدني أسلوبا للردع, ولكنها تعتمد الغرامة المالية التي يمكن أن تكون أشد وطأة, تكبد الصحفي والصحيفة خسائر كبيرة تلزمهما معا أن يكونا أكثر تدقيقا في النشر, وأكثر التزاما بنصوص القانون,
وأكثر حرصا علي تجنب الأخطار الكبيرة التي تجعلهما موضع المساءلة, غير أن تطبيق عقوبة الغرامة علي نحو صحيح يجعل منها عقوبة رادعة بديلا عن عقوبة الحبس, ويمتنع معها البحث عن ذرائع قانونية وعملية تفسد هذه العقوبة يتطلب, أولا الحرص علي أن تكون الغرامة عادلة, تتدرج قيمتها مع حجم المخالفة دون مغالاة تحيل الغرامة الي باب جانبي للحبس, لأن الغرامة الباهظة قد لا يكون في وسع الصحفي أو الصحيفة سدادها, ويتطلب ثانيا اشراك الصحيفة في مسئولية سداد الغرامة بالتضامن مع الصحفي, لأنه مهما تكن العقوبة شخصية في جرائم النشر, فإن جزءا مهما من مسئولية الصحيفة أن تتحري دقة أية أخبار تأتي إليها من المندوبين العاملين فيها.
ومع تنوع جرائم النشر فإن الجانب الأكبر والأهم في مشكلاته يتعلق بمدي صحة المعلومات التي ينشرها الصحفي أو الصحيفة, وطبيعة الأهداف التي يتوخاها النشر, وحجم الجهد الذي بذله الصحفي من أجل تدقيق صحة أخباره قبل النشر, وكلها شروط ضرورية يرتبط استيفاؤها بمدي حرية تدفق المعلومات في المجتمع ومدي إيمان القائمين علي سياسة الإعلام بحق المواطن في المعرفة, والجهود التي تبذلها الدولة من أجل تنظيم عملية اتاحة المعلومات بما يجعل الحصول عليها ممكنا ومتاحا في ظل قانون واضح ينظم هذا الحق.
وفي المجتمعات الديمقراطية التي تعتمد الشفافية أسلوبا في الإدارة والحكم, ويتم تداول المعلومات بحرية دون قيود متعسفة, تقل الي حد ظنهم جرائم النشر المتعلقة بمدي صدق المعلومات بل تكاد تنعدم, لأن هناك وبحكم القانون تنظيما واضحا يمكن الصحفي من تدقيق صحة أخباره قبل النشر, وعلي العكس تزداد جرائم النشر المتعلقة بمصداقية ما يتم نشره في المجتمعات التي لاتزال تقيد حرية الحصول علي المعلومات, وتعتبر كل شئ سرا مغلقا, وتجتهد كي تجعل النشر وقفا علي المعلومات التي تريد الدولة اشاعتها, ولهذا السبب يطالب الصحفيون المصريون منذ فترة بقانون جديد للمعلومات يتيح المعلومات ويفرض الحظر فقط علي المعلومات المتعلقة بالجيش والمخابرات وأجهزة الأمن, أما ما نأمل عدا ذلك, فينبغي أن يكون متاحا عبر آليات سهلة وغير معقدة, تحدد المدة الزمنية اللازمة للحصول علي المعلومات ومكانتها دون مشقة.
ومن ثم تصبح مساءلة الصحفي عن صدق ما ينشره أكثر عدلا, لو أن هناك قانونا للمعلومات يتيح له فرصة الحصول علي المعلومة الصحيحة من مصادرها الحقيقية جريا علي قاعدة كل مسئولية ينبغي أن ترتب حقوقا وواجبات بدونهما تتعذر المساءلة الصحيحة, إننا نأمل أن يصدر قانون جديد للمعلومات في مصر تكون الاتاحة فيه هي الأصل, ويكون المنع هو الاستثناء, ينظم آلية واضحة وسريعة للحصول علي المعلومات أو التأكد من صحتها, وأظن أن وجود هذا القانون يسقط ذرائع كثيرة يلجأ إليها البعض للتهرب من مسئولية النشر, كما أنه يحد كثيرا من الأخبار المغلوطة التي تنشرها بعض الصحف, ويوفر ضمانات العدالة التي تجعل مساءلة الصحفي عن صدق ما ينشره أمرا واجبا.
غير أن المشكلة في جوهرها تتضمن أيضا جانبها الأخلاقي, الذي يتعلق بقيم المهنة التي ينبغي أن تعلو علي اللجاجة والاسفاف والتنابز وانتهاك سرائر الناس بأخبار مجهلة توزع الاتهامات علي الجميع, وتتجاوز حوار الطرشان الذي يلجأ الي السباب والشتائم وتوجيه اتهامات مرسلة بغير دليل وازدراء بعض الشخصيات التي ينبغي الحفاظ علي مكانتها في المجتمع, عندما تتعرض الصحافة بالنقد لبعض أعمالهم أو تصرفاتهم, ومع الأسف تشيع هذه الأعراض كثيرا في بعض الصحف الخاصة التي تسعي الي الرواج علي حساب مصداقية الكلمة وقيم المهنة, وفي بعض صحف المعارضة التي جعلت مهمتها التحريض وليس التبصير.
وبسبب إهدار العمل طويلا بميثاق الشرف الصحفي الذي ينظم الالتزام بأخلاقيات المهنة, ضعف الدور النقابي في الحفاظ علي آداب المهنة, وأصبح اللجوء الي القضاء هو الطريق الوحيد أمام القراء لاسترداد حقوقهم من الصحافة وسبيل القصاص من الصحفيين الذين استخدموا جارح اللفظ في امتهان الشخصيات العامة, وأصبحت عقوبة الحبس مطلوبة لذاتها دون النظر الي مدي جدوي هذه العقوبة البدنية في معالجة مشكلات النشر, ودون الالتفات الي أن هذه العقوبة فقدت قدرتها علي الردع في مجتمع ينشط فيه الحراك السياسي بحثا عن صياغة جديدة أكثر توازنا للعلاقة بين الحكم والناس, وأملا في وفاق وطني يستكشف آفاق المستقبل بعيدا عن الانزلاق الي الفوضي, كما ينتشر فيه دعاة مخلصون يؤكدون ضرورة التغيير, ويطالبون باكتمال الديمقراطية, وتحقيق توازن أفضل بين مصالح كل فئات المجتمع, من خلال تغيير منظم يتجنب الفوضي, كما ينتشر فيه دعاة مزيفون, همهم الأساسي التهييج والإثارة دون النظر الي عواقب الفوضي التي تتوهم بعض القوي أنها يمكن أن تهيئ لها فرصة اضعاف الوضع الراهن والوصول الي الحكم.
وأظن أن الحل الصحيح لمشكلة الصحافة والحكم يكمن في سلة إجراءات مكتملة, تسقط عقوبة الحبس في جرائم النشر, وتلزم نقابة الصحفيين القيام بدورها في تفعيل ميثاق الشرف الصحفي, وتعتمد مدونة سلوك جديدة تلتزم بها كل الصحف, قومية وخاصة وحزبية, تحمي حرية النقد وحرية الكلمة, وتمنع الاسفاف وامتهان الأشخاص وازدراء الشخصيات العامة تحت ستار النقد, وأظن أن هذه الحزمة من الإجراءات المكتملة تلقي دعما كبيرا من جموع الصحفيين المصريين, الذين يتوقون الي رفع عقوبة الحبس واستبدالها بالغرامة, ليس تهربا من المسئولية ولكن إعلاء لمكانة المهنة في بلد عريق صدرت فيه أول صحيفة مصرية قبل150 عاما, ويحرضون نقابتهم علي أن تقوم بدورها المسئول حماية لحرية الكلمة وحق النقد, وحماية قيم المهنة من مخاطر شيوع الإسفاف. عن صحيفة الاهرام المصرية 4 / 10 / 2008