اللي يشرب من النيل لازم يرجع له تاني قاسم سلطان في غضون شهر واحد زرت القاهرة مرتين، آخر مرة كانت لقضاء أسبوع مع العائلة، ولأثبت المقولة المصرية القائلة: «من شرب من ماء النيل لابد وأن يرجع له» قضينا أياماً جميلة وممتعة بعيداً عن الرسميات وكان من بين أفراد الأسرة من يزور القاهرة لأول مرة، فأتيحت لي الفرصة لاكتشف القاهرة معهم بعيون سائح متفرغ يقضي فيها أياماً للراحة والاستجمام وهكذا كان، مع أن يوم وصولنا لم يبشر بالخير وكان متعباً خاصة بالنسبة للأطفال .
حيث واجهتنا مشاكل لم تكن في الحسبان بالنسبة لمحل إقامتنا في الفندق، تحملناها في البداية بالتوتر وبعد ذلك بروح رياضية والتسليم بالأمر الواقع أمام خفة دم المصريين وحلاوة لسانهم، «ماعليش يا أفندم» و«كلها ثواني وحترتاح ياباشا».
وأصبحت الثواني ساعات وساعات وكأن الوقت لا قيمة له، ولم يكن أمامنا إلا أن نصبر ونأمل خيراً إلى أن انتهى طول الانتظار بحصولنا على غرف محجوزة لنا مسبقاً منذ فترة، أو هكذا المفروض!!
زيارة القاهرة ممتعة لكل الجنسيات وبمختلف الأذواق، من أراد الحضارة، فإن المعالم والآثار التاريخية والمتاحف ومآذنها الألف تشهد على تاريخ هذا البلد العريق، ومن أراد الفنون بمختلف أنواعها الثقافية والترفيهية، فالقاهرة بلا شك من أكثر المدن العربية حيوية ونشاطاً لكن من معي من أفراد الأسرة فضلوا زيارة أماكن معينة منها المتحف المصري والأهرامات.
عند زيارتك المتحف المصري الذي أنشئ عام 1902 سوف يبهرك تاريخ مصر القديم من خلال المعروضات الفرعونية التي لا مثيل لها في أكبر المتاحف في العالم، وسوف تقف عاجزاً أمام ما وصل إليه الفراعنة من تفوق علمي وقدرات هائلة لم يستطع العلم الحديث تجاوزها حتى هذا القرن، قرن ما يسمى بالتقدم العلمي والمعرفي، ألا وهي تحنيط الجسم البشري، فالفراعنة.
كما يقال كانوا يؤمنون بالعودة إلى الحياة مرة أخرى، وهذا ما تمثله مجموعة كبيرة من المومياوات في صناديق زجاجية وكأنها تذكر الزائرين بعظمة هذا الشعب وتفوق ذلك العهد وسبحان مغير الأحوال، كما تعرض فيه كنوز الملك «توت عنخ آمون» الذي تم اكتشاف مقبرته عام 1922، لكن مع الأسف هذا المتحف بقي كما هو عليه منذ إنشائه.
ولم يأخذ حقه من الرعاية والاهتمام، مع أن هذا الكلام قد لا يعجب المسؤولين عنه لأنهم يعتقدون غير ذلك، لكن شتان ما بين عرض هذه الكنوز التي لا تقدر بثمن هنا، وبين عرضها في الخارج، فعندما تنقل بعض القطع للعرض في أوروبا وأميركا فإنها تلقى عندهم من الاهتمام والرعاية ما يليق بتاريخها وتاريخ من صنعوها، كما يتم تقدير قيمتها الفنية والتاريخية.
أما المعروضة الدائمة منها في متاحفهم، فإنها تلقى من الدلال والاهتمام وكأنها ما زالت تعيش حياة ذلك العصر، بعكس موطنها الأصلي، حيث في رأيي بالإمكان تقديمها وعرضها بشكل أفضل، كما يجب تجديد وتحديث أسلوب إدارة المتحف تقديراً لقيمة هذا التاريخ المصري الذي لن يتكرر.
وفي اليوم التالي زرنا الأهرامات، فزيارة مصر بالنسبة لكل سائح تبدأ من الأهرامات هذه الآثار الشامخة التي لم تشخ أو تنكسر مع مرور الزمن، لكن الأجواء المحيطة بها اختلفت عما كانت عليه قبل 30 سنة عندما زرتها لأول مرة، وهذا ما تأكد لي عندما التقيت بأحد السائحين الأوروبيين الذي أراد أن يستفسر مني ظناً منه أنني مصري، فقلت له بأني سائح مثله لكن عربي من دولة الإمارات.
فقال إنه يزور مصر للمرة الثالثة بسبب الأهرامات والأماكن الأثرية لأنه يعشق الآثار القديمة والأهرامات من أشهر وأقدم الآثار في العالم، وتابع لكنني كنت أتمنى أن يكون هذا التاريخ العظيم في مدينة أخرى، وعند من يقدر عظمته، أما هنا فمرة بعد مرة لا ألاحظ إلا ازدياد الفوضى واللامبالاة في كل موقع محيط بالأهرامات.
فعدد الأفراد المصريين العاملين بشكل رسمي أو غيرهم أكثر من عدد السياح، فالكل هنا مسؤول ويعرف كل شيء مع ذلك لا أحد يقدم للسائح ما يفيده، الكل يريد أن يستفيد، كم كنت أتمنى أن أرى شخصاً مسؤولا أو صندوق اقتراح أو شكاوى، أو على الأقل الأفراد العاملين بملابس رسمية عليها أسماؤهم أو رقم واسم الإدارة التابعين لها بلغة معروفة، لكن لا شيء تغير، هكذا تركته لألحق بالعائلة.
إن أجمل هبة من الله للمصريين هي النيل أو كما يسميه المصريون البحر لأنه فعلاً كذلك كونه أطول نهر في العالم تتحرك فيه أكبر البواخر السياحية وتطل عليه عشرات الفنادق والمباني والمراكز السياحية ويضم عدداً من الجزر، هذه مصر بنيلها وأهراماتها ومعالمها القديمة ثم الأقدم بمساجدها وكنائسها وفنونها المعمارية وغيرها الكثير، إلى جانب تنوع طبيعتها.
من زار القاهرة ولم يذهب إلى مكتبة مدبولي التي أصبحت من أشهر المعالم الثقافية الشعبية في القاهرة ومطعم فلفلة أشهر مطاعمها وسط المدينة والذي استقبل شخصيات وفنانين ورؤساء دول وعلى رأسهم كما يقولون «جيمي كارتر» وكذلك لم يزر «جروبي» مقهى الباشاوات وكبار الشخصيات والملوك مع أنه لم يعد كذلك، ومن لم يقطع عبور المشاة والإشارة حمراء في ميدان سليمان باشا فكأنه لم يزر القاهرة، كنت أقول لأحد أبنائي مازحاً إن إشارة المشاة خضراء لكننا لا نستطيع العبور إلا وهي حمراء، وبالصدفة شاهدت عشرات يعبرون والإشارة حمراء، وهكذا فعلنا، «فالحشرة مع الناس عيد»!
مدينة مثل القاهرة التي فيها المعالم المتنوعة الجميلة تستحق عناية أكثر من المسؤولين عليها، وليتهم يتحركون على أرض الواقع وفي مواقع مختلفة للقضاء على كل ما يشوه جمال المدينة وعراقتها، فهي بحاجة إلى خطوات أشخاص أصحاب رؤية وإبداع.
مثل خوفو الذي فكر واتخذ قراراً وأمر بتنفيذ فكرته بإنشاء الأهرامات، أو كالخليفة المأمون الذي رد كما يقال على الذين طالبوا بهدم الهرم الأكبر، بأن أمر بفتح ثغرة فيه لاكتشاف ما بداخله، وهكذا وبفضل بعد نظرهم استطاعت البشرية التعرف على تاريخ الفراعنة وعجزت عن التقدم أمام ما حققوه، وبقيت الأهرامات شامخة إلى يومنا هذا.
وأخيراً مبروك لمنتخب مصر لكرة القدم الفوز بكأس إفريقيا وتحية تقدير وإعجاب للاعب محمد أبو تريكة نجم منتخب مصر بدرجة مسؤول عربي مفقود. عن صحيفة البيان الاماراتية 19/2/2008