د. عبدالمنعم سعيد حتى وقت كتابة هذا المقال كان الفريق القومي المصري لكرة القدم قد أدى أداء رائعا ووصل إلى «المربع الذهبي» حيث تصبح المسافة مع القمة لا تزيد على عقلة إصبع. وبغض النظر عما سوف تؤول إليه الأمور فإن ما جرى كان نتيجة مجموعة من العوامل اللازمة لكل نجاح: التخطيط الجيد، والتدريب بإصرار شديد، ولياقة بدنية مرتفعة، وجماعية وجمال في الأداء الفردي، وتوفيق وحظ لا يأتي- كما قال نابليون- إلا لمن يستحقهما. ولست خبيرا كرويا بأي معنى حتى ولو كنت أتمنى أحيانا أن يكون لدي قدرة حسن المستكاوي ونفاذ بصيرته، وربما لم يحدث في تاريخ البطولات الرياضية أن أصبح لدينا هذا القدر من المحللين الذين جعلوا اللعبة والبطولة أكثر غنى وإثارة ومتعة. ولكن وسط كل ذلك «العرس» الحضاري والباعث على الفخر جرى أمر يستحق التسجيل والتنويه، والمناقشة أيضا. وبدأت القصة بعد مباراة زامبيا وقبل التدريب الأول للفريق المصري، إذا بالفريق والمسؤولين عنه يقومون بذبح عجل وتوزيع لحمه على فقراء غانا على أرض الملعب. وكانت وكالات الأنباء العالمية التليفزيونية والإذاعية والتابعة للصحافة المكتوبة قد بدأت في مراقبة الفريق المصري بجدية بالغة بعد فوزه الباهر على فريق الكاميرون. صحيح أن الفريق المصري كان على القمة بوصفه حامل اللقب، ولكن الدنيا تتغير، وما بين 2006 و2008 كانت القوى الكروية الإفريقية قد انتابتها تغيرات عظمى ظهرت على فرق الكاميرون وساحل العاج وغانا والتي ضمت لاعبين ينتمون إلى أندية القمة في العالم مثل الأرسنال وتشيلسي وبرشلونة وغيرها من قمم رياضة كرة القدم. ولذلك كان الفوز على الكاميرون الممتلئة بالنجوم والسحرة شهادة على أن «الفراعنة» لديهم من الفنون ما يحير العمالقة. وهكذا أصبح الفريق المصري وطاقمه الفني وحتى الإداري قصة مثيرة لكل أجهزة الإعلام التي ما لبثت أن وجدت الفريق المصري يطارد عجلا في الملعب حتى أمسك به حيث تم طرحه أرضا بعنف شديد وهو على الأرض أخذ «كابتن» الفريق أحمد حسن في ذبحه حيث تدفق الدم من عنقه، ولكن اللاعب إبراهيم سعيد أخذ بعضا منه حتى يفك النحس الذي انتابه خلال الشهور والسنوات الأخيرة. كان المشهد مغايرا كلية للصورة العامة للفريق المصري والقائمة على تقاليد حضارية عميقة. ولم يكن في هذه التقاليد ما يخل أبدا بالإيمان العميق للفريق والذي يظهر في السجود عند تسجيل الأهداف، والصلاة الجماعية للفريق كله بعد المباراة، وتمتمات الدعاء أثناء المباراة من حارس المرمى. كل ذلك كان أمرا مقبولا وجميلا وحضاريا، فما أروع أن تظهر الأمم المختلفة إيمانها، وما أجمل أن تتمتع الرياضة حالة من الصفاء الروحي والنفسي يعطي للاعبين قدرات بدنية وعقلية كبيرة. ولكن كل ذلك جانب، وذبح العجل بهذه الطريقة جانب آخر. صحيح أن «الضحية»، وتوزيع اللحوم على الفقراء هي من التقاليد المشتقة من الفداء بذبح عظيم كما حدث للنبي إسماعيل عليه السلام، والذي أصبح تقليدا عظيما في نهاية مراسم الحج. ولكن هذا التقليد تم تنظيمه وتهذيبه ورفع قيمته من خلال إجراء عمليات الذبح داخل مؤسسات محددة تحافظ على نظافة الذبيحة والمجتمع الذي يتم فيه ثم بعد ذلك يتم توزيعه على الدول الفقيرة والفقراء فيها. ومعنى ذلك أن عمليات الذبح لم تعد متروكة للأفراد والجماعات الصغيرة لكي تذبح بالطريقة التي تحلو لها، وإنما أن تتم من خلال متخصصين وبوسائل متخصصة ودون اختلاط للإنسان بالدم وما يخرج عن الحيوان ساعة الذبح. وباختصار طورت البشرية كلها، وخصوصا المجتمعات الإسلامية طريقة الفداء لكي تجعلها عملية حضارية في جميع جوانبها. ولكن يبدو أن لاعبينا المصريين قد تأثروا كثيرا بالتقاليد التي باتت ذائعة في المجتمع المصري فيما يتعلق بعمليات الفداء. فقد باتت العملية شائعة جدا إلى الدرجة التي نجد فيها عربات وبيوتا ملطخة تماما بالدماء وعلى شكل كفوف ملوثة. وهكذا عادت عملية نبيلة في مقصدها لكي تتحول إلى عملية بدائية للذبح تشبه تلك التي كانت تحدث في المجتمعات البدائية حيث كان الفداء نوعا من «القرابين» التي تقدم لآلهة تظهر كما لو كانت متعطشة للدماء حتى ولو كان المقصود منها الإحسان للفقراء في النهاية. وفي الحقيقة فإن الفكر الإنساني طور فكرة الإحسان كما طور كل الأفكار الأخرى عندما حول العملية كلها إلى مؤسسات متخصصة ومعقدة تأخذ بيد الفقراء وتعطيهم القدرة على العمل والإنتاج والمساهمة في الحضارة الإنسانية. وعندما يخصص بيل غيتس مئات الملايين من الدولارات من أجل القضاء على مرض الملاريا فإنه يقدم خدمة بالغة لفقراء افريقيا؛ وعندما يقدم مئات غيرها للبحوث العلمية التي تحاول التوصل إلى علاج لمرض الإيدز فإنه يقدم خدمات جمة للفقراء الذين يموتون بهذا المرض اللعين. وبهذه الطريقة حدث تغير هائل في فكر الإحسان والصدقة للفقراء حيث لم يعد الغرض سد الحاجات الآنية للفقراء والمحتاجين وإنما مساعدتهم للخروج من حالة الفقر التي يعيشون فيها. وربما يسأل سائل وهل كان عجل واحد أو ثمنه في كوماسي بغانا يستطيع أن يحقق هذه المأسسة التي نتحدث عنها؟ والإجابة بالطبع هي لا، ولكن الأسلوب يظل واحدا سواء كان المذبوح بقرة واحدة أو عجلا واحدا حيث كان بوسع لاعبينا تقديم المال مباشرة لواحدة من دور الأيتام أو مؤسسة من مؤسسات الهلال أو الصليب الأحمر أو أي من المؤسسات الأهلية التي تساعد الفقراء. مثل هذا السلوك كان سيوفر علينا الكثير ممن يعتقدون أن طقوسنا الإسلامية فيها بعض من وحشية ودموية. وفي ظروف أخرى كان ممكنا لمثل هذه الواقعة أن تمر، ولكن في ظروف عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر فإن عملية الذبح التي جرت على أرض ملعب في كوماسي لم تكن تعبر عن حضارتنا ومدنيتنا بل لم تكن معبرة عن الشوط الذي قطعناه في البطولة والذي كان يعبر عن حالة مثالية من السلوك الحضاري. هل تجاوزت إلى موضوع كثير الحساسية ولا يجوز الحديث عنه؟ والإجابة أرجو ألا أكون قد فعلت ذلك فما قصدت إلا الخير وسمعتنا وسمعة حضارتنا في عالم بات الذبح العلني والتبرك بالدماء من علامات البربرية. فتعالوا نترك العجول لحالها أما العقول فدعونا نطلقها بلا حدود! عن صحيفة الوطن القطرية 7/2/2008