القضية أكبر من موضوع الدعم!! مكرم محمد أحمد ما هو حجم المشترك في رؤية اثني عشر كاتبا ومفكرا مصريا تتنوع انتماءاتهم الفكرية والسياسية لتشمل كل ألوان الطيف السياسي, ما بين الأصولية الدينية والاشتراكية العلمية, مرورا بالليبراليين وأنصار الفكر القومي, التقي بهم رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف لحوار حر دون قيود حول قضية الرعاية الاجتماعية للطبقات الأقل قدرة بكل تفريعاتها المتعلقة بالدعم العيني أو الدعم النقدي؟!. وما هو طبيعة القاسم المشترك الذي يمكن أن يجمع عليه هؤلاء المفكرون رغما عن خلافاتهم ليدخل في نطاق الأولويات الوطنية, التي تفرض نفسها علي قضية الإصلاح السياسي والاقتصادي في مصر. لقد جلس رئيس مجلس الوزراء الي هؤلاء المفكرين الإثني عشر ما يقرب من أربع ساعات, استمع خلالها الي آرائهم فردا فردا ودون بخط يده ملاحظاتهم التي ملأت دفترا صغيرا قبل أن يختتم اجتماعه بتعليقات ركزت علي الخطوط الرئيسية والعريضة التي مثلت محاور مشتركة بين الجميع, وصف عائدها الدكتور أحمد نظيف بأنها من أكثر الجلسات عمقا واتساعا التي ناقشت قضية الدعم في إطارها الأوسع المتعلق بمسيرة الاصلاح السياسي والاقتصادي.. ولأنه كان لي شرف الإسهام في هذا الحوار المهم, فقد سمحت لنفسي أن أعيد ترتيب قضايا الحوار وفق ما أتصور أنه أولويات صحيحة يحسن أن تكون في دائرة اهتمام الجميع, المخططون وصناع القرار والمنفذون والمشتغلون بالرأي العام والأحزاب السياسية كانت في موقع الموالاة والمعارضة. وأولي القضايا, وأكثرها إلحاحا من وجهة نظري, هي اجماع الفرقاء علي ضرورة معالجة مشاعر الإحباط وغياب الأمل التي تظلل حياة المجتمع, لأن غياب الأمل يؤدي الي فقدان الهمة, ويعمق العزوف عن المشاركة, ويسقط دوافع الانتماء الوطني, ويزيد من فردية السلوك في المجتمع... وسواء كان للإحباط, أسبابه الموضوعية الصحيحة أم أن جزءا من هذه الأسباب يعود الي تركيز المعارضة وبعض أجهزة الإعلام علي نصف الكوب الفارغ بدلا من نصف الكوب الممتلئ, فثمة ما يشير الي أن تباطؤ المسيرة الديمقراطية, وتعذر الانتخابات النزيهة, وغياب القدوة والمثال, وشيوع نماذج الفساد, وضآلة حجم المساءلة. وسيطرة الاحتكار علي السوق الاقتصادية ومنابر الحياة السياسية, كلها عوامل خطيرة تضعف الأمل داخل فئات عديدة في المجتمع خصوصا بين الشباب, وأن علي القائمين علي الأمر أن يدركوا أن صناعة الأمل هي جزء من صناعة الحكم, لكن صناعة الأمل تكون أوفر عائدا لو أن المجتمع أعاد الاعتبار لعدد من القيم في مقدمتها, تقدير التفوق واحترام تكافؤ الفرص, والحرص علي الشفافية, وتطبيق القانون علي الجميع والالتزام بانتخابات نزيهة. ويأتي في مرتبة لا تقل أهمية قضية التفاوت الشديد في دخول المصريين التي تهدد بعودة مجتمع النصف في المائة, بعد أن أكدت تقارير التنمية البشرية أخيرا أن2 في المائة من المجتمع فقط يستحوذون علي43 في المائة من عائد التنمية, لأن العائد الأكبر من ثمار التنمية الذي وصل معدله الي7 في المائة يذهب الي فئات محددة لا يتساقط منه سوي الفتات الي باقي فئات المجتمع. صحيح أن تواصل معدلات التنمية علي هذا النحو المرتفع لعدة سنوات يمكن أن يعالج بعض أوجه الخلل الاقتصادي في دخول فئات المجتمع, كما يحدث الآن في الصين, التي يتواصل فيها زيادة معدل التنمية بنسبة11 في المائة علي امتداد يزيد علي عشرة أعوام, لكن ثمار التنمية لا تتساقط في كل الأحوال علي نحو عفوي لتمطر بعائدها الجميع, ما لم يكن هناك نوع من توازن المصالح يوجه قصدا وعناية عائد التنمية الي كل فئات المجتمع. غير أن المؤكد أيضا, أننا لم نضع في خططنا ضرورة حصار الفقر والقضاء عليه, لأننا ركزنا علي دعم الفئات المهمشة والفقيرة من خلال مظلة الأمن الاجتماعي, التي تصل الآن الي مليون أسرة يحصل منها علي دعم نقدي قيمته مائة جنيه, إضافة الي40 جنيها لكل طفل في المدارس بحد أقصي خمسة أفراد, بأكثر من تركيزنا علي ضرورة تغيير أنماط حياة الفقراء ومعاونتهم علي زيادة دخولهم بالعمل علي تطوير قدراتهم علي الإنتاج, ولم نشغل أنفسنا بالقدر الكافي بضرورة تحويل مجتمع الفقراء الي مجتمع منتج ينبذ كل يد غير عارقة. برغم أن تحسين انتاجية الفقراء لا تتطلب استثمارات ضخمة, ولكنها تتطلب قدرا من التكافؤ في حقوق الائتمان بين كبار المستثمرين الذين يستحوذون علي القدر الأكبر من ائتمان البنوك وبين أصحاب الصناعات والورش الصغيرة من الحرفيين والصناع الصغار, الذين يشكلون70 في المائة من قوة العمل المصرية, ويسهمون بما لا يقل عن60 في المائة من حجم الناتج المحلي, فضلا عن هيكل للأجور ينظم وظائف الحكومة يعاني التشويه الشديد وكثرة الاستثناءات وثغرات التحايل لا علاقة له بالمرة بمعدلات التضخم وزيادات الأسعار, الأمر الذي أدي الي ايجاد صور عديدة من التمايز وغياب العدالة داخل الجهاز الوظيفي الي حد دفع بعض فئاتهم للاضراب المنظم لأول مرة في مصر. وبرغم إقرار كل من أسهموا في الحوار بما في ذلك رئيس الوزراء, بأن الأمر يستحق إعادة نظر شاملة لتصحيح هذا الخلل الضخم الذي يكاد يفقد مسيرة المجتمع اتزانها وتوازنها, إلا أن التيار الغالب في الحوار كان يركز علي ضرورة اللجوء الي أساليب أخري لتصحيح هياكل الدخول دون المساس بقانون الضرائب الراهن بحجة انحيازه لأصحاب الدخول العالية, لأن القانون علي حداثة عهده نجح في توسيع مجتمع دافعي الضرائب, وزاد من حصيلتها علي نحو مطرد, وأوجد مناخا من الثقة المتبادلة بين الحكومة والمستثمرين يحسن الحفاظ عليه, ويكفي أن نعرف أن العائد الأكبر من الضرائب اليوم يأتي من حصيلة ثلاثة آلاف من كبار الممولين فقط.. كما وضح للجميع الحاجة الماسة الي قانون جديد للتوظيف والأجور يربط بين زيادة الأسعار والتضخم والدخول, ويقضي علي تشوهات الوضع الراهن, لأنه برغم الزيادة المضطردة في أجور العاملين خلال السنوات الخمس الأخيرة, التي رفعت حجم الأجور من35 مليار جنيه الي59 مليارا بمعدل زيادة تصل الي15 في المائة سنويا, إلا أن نسبة كبيرة من هذه الزيادات ذهبت في صورة مكافآت وبدلات وحوافز وعقود عمل للمحظوظين معفاة من كل القواعد المألوفة, الي حد يكاد يلغي الأثر النفسي والاقتصادي لهذه الزيادات التي ابتلعها التضخم وأضعف من قيمتها وأثرها الاستثناءات العديدة التي خلفت صورا من التمايز غير المبرر داخل الجهاز الوظيفي. وفي هذا الإطار, نجح حوار رئيس الوزراء مع الكتاب والمفكرين في وضع قضية الدعم النقدي أو العيني, في إطارها الصحيح ليس فقط باعتبارها جزءا من قضية العدالة الاجتماعية, ولكن لأنها تمثل أيضا نوعا من الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي, يسد ثغرات فساد واسع, تؤدي الي هدر أكثر من30 في المائة من قيمة الدعم, تذهب الي جيوب عصابات لصوص يتربحون من هذا الهدر الضخم في أموال الدعم. الذي يتجسد في انحرافات واسعة النطاق يصعب حصارها والقضاء عليها مهما تم تشديد صور الرقابة, طالما كانت هناك أسعار متعددة للسلعة الواحدة, يصل الفروق بينها الي هذا الحد الباهظ بين سعر طن الدقيق المدعم الذي لا يصل الي مائتي جنيه وسعره في السوق السوداء الذي يتجاوز ألفي جنيه, الأمر الذي يحض علي الفساد, ويدفع الكثيرين الي المقامرة وابتكار صور عديدة من التحايل والخداع, لأن خبطة واحدة يمكن أن تسفر عن تحقيق أرباح مهولة تحدث تغييرا جذريا في حيلة صاحبها وتنقله من حال الي حال. * من يصدق أنه قبل أن يصل رغيف الخبز المدعم الي أيدي الطوابير التي تنتظره خارج المخابز, يذهب أكثر من30 في المائة من حجم القمح والدقيق المستخدم في السوق السوداء, إضافة الي الهدر الكبير في الخبز المصنع الذي تتحول نسبة غير قليلة منه الي علف للماشية والأسماك, بما يجعل حجم المتسرب من دعم الخبز في عام2007 ثلاثة مليارات من تسعة مليارات هي حجم الدعم. * ومن يصدق أنه من بين الحجم الضخم من دعم المواد البترولية الذي وصل الي59 مليارا في موازنة عام2007, تصل نسبة كبيرة منه الي مصانع الأسمنت والسيراميك, ومن بين ثلاثة مليارات جنيه تذهب لدعم البنزين يصل280 مليون جنيه فقط الي دعم هيئة النقل العام, في حين يذهب الباقي الي دعم سيارات الركوب الخاصة, يستوي في ذلك السيارة الصغيرة التي اضطر صاحبها لشرائها لأنه لا يجد مكانا ملائما في أي من وسائل النقل العام أو السيارة الفارهة التي ربما تتجاوز قيمتها مليون جنيه. ومع ذلك كان القاسم المشترك بين جميع الذين حضروا حوار رئيس الوزراء, أن الدعم العيني باق لأجل غير مسمي, وأن تغييره الي الدعم النقدي لابد أن يتم في ظل توافق اجتماعي واسع وبعد نقاش مجتمعي موسع, وأن يتم ذلك علي نحو متدرج في ظل ضمانات تؤكد إمكان الحصر الشامل والدقيق لمن يستحقونه, وأن جوهر القضية هو تصحيح الاستهداف وليس تقليل قيمة الدعم أو حجمه, بحيث يصبح الدعم وقفا علي من يستحقه, أو من يطلبه في اطار مقولة رئيس الوزراء الدعم لمن يطلب, لكن ما ينبغي أن يسبق تغيير الدعم العيني الي الدعم النقدي هو سد ثغرات الفساد الواسع التي تتسرب منها الدعم الي سلسلة من العصابات تتربح سحتا علي حساب قوت الشعب. وبين القضايا الجوهرية التي أثارها حوار الكتاب والمفكرين مع رئيس الوزراء, التي لاتزال تستحق مناقشة أوسع, قضية الأسعار العالمية للمواد الغذائية, التي أصبحت قدرا لا فكاك منه, يواجه المستهلك المصري الذي يعتمد في60 في المائة من غذائه علي الاستيراد من الخارج, خصوصا في سلع أساسية مثل الدقيق والزيت, في ظروف عالمية تؤكد استمرار تصاعد أسعار المواد الغذائية في السوق العالمية نتيجة زيادة أسعار البترول, وتوجه الدول الكبري الي استثمار زراعاتها في انتاج محاصيل زراعية, يمكن استخدامها لتصنيع سوائل جديدة يتم تحويلها الي طاقة, بديلا عن البترول الذي قفز سعره الي مائة دولار, يمكن أن تصل الي130 دولارا قبل نهاية عام2008. واذا كانت زراعة القمح في مصر أصبحت ضرورة حتمية للوفاء بنسبة من احتياجاتنا الغذائية تصل الي حدود60 في المائة, يصبح من الضروري أن يكون لنا سياسة معلنة ثابتة تشجع علي زراعة القمح, تتمثل في تحديد سعر التوريد قبل موسم الزراعة في حدود توقعات الأسعار العالمية, مع ضمان حد أدني يطمئن المزارع علي مصير محصوله حتي لا يتكرر ما حدث في محصول القطن, وأن تعكف الحكومة علي وضع سياسات واضحة, تخلص الزراعة المصرية من حجم المشكلات الضخم التي تواجهها, خصوصا نقص الأسمدة والارتفاع المتزايد في أسعارها, بحيث تصبح صناعة الأسمدة من الصناعات الاستراتيجية المهمة التي ينبغي أن تكون خارج دائرة الخصخصة حفاظا علي التوازن المطلوب بين تكاليف الزراعة المصرية وعائدها. ولا يقل أهمية عن ذلك, أن تفكر الحكومة علي نحو جاد في تمصير وجبة غذاء مصرية, تعتمد علي الإنتاج المحلي في مكوناتها الأصلية, يكون عمادها الأسماك بعد أن نجحت مزارع تربية الأسماك في الهبوط بسعر البلطي الي حدود7 جنيهات للكيلو والدواجن والبيض والألبان التي يسهل تحقيق فائض في انتاجها, إضافة الي استثمار أراضي توشكي في زراعات نخيل الزيت الذي يصل حجم استيراده الي ما يقرب من نصف دخل قناة السويس, لأنه في غيبة وجود عناصر محلية لوجبة غذاء مصرية, يمكن أن يعض الجوع بطون40 في المائة من الشعب المصري, يعيشون علي حافة الفقر ولن تمكنهم دخولهم المحدودة من مجاراة زيادة الأسعار العالمية, في الوقت الذي تنوء فيه الخزانة العامة بأعباء الدعم. عن صحيفة الاهرام المصرية 12/1/2008