رؤية جديدة لمشكلة الإسكان في مصر مكرم محمد أحمد ثمة دراسة مهمة وحديثة حول الطلب علي الإسكان في حضر مصر ومدنها, خصوصا القاهرة الكبري, تكاد تغير نتائجها كل المعطيات الأساسية التي نعرفها عن مشكلة الإسكان في مصر, لأن الدراسة تقطع, والعهدة علي أصحابها, بأنه ليس في مصر مشكلة إسكان خطيرة, وأن القضية في جوهرها ليس نقص العرض عن الطلب. لأن هناك توازنا بين العرض والطلب ومن المحتمل أن يكون هناك فائض كبير في عدد من القطاعات السكنية, لكن المشكلة تكمن في أن هناك انفصاما بين العرض والطلب في سوق الإسكان, يؤكد ضرورة إصلاح السياسات السكنية بما يقضي علي هذا الخلل الجسيم الذي يتجسد في فائض ضخم من الإسكان الفاخر لا يجد وفرة الطلب التي تساعد علي تصريف هذا المخزون الراكد من الشقق الفاخرة المعروضة للتمليك أو الإيجار. كما يتجسد في نقص ملحوظ في الوحدات السكنية التي تخص الفئات المتوسطة والصغيرة يكاد يصل الي225 ألف وحدة سكنية, في الوقت الذي يوجد فيه عدد ضخم من الوحدات السكنية المغلقة والشاغرة غير المستخدمة يزيد عددها علي مليونين و650 ألف وحدة سكنية تساوي28 في المائة من عدد الوحدات السكنية المأهولة, تصل قيمتها الي أكثر من130 مليار جنيه, يتم احتجازها عن سوق العرض, لأسباب عديدة. أكثرها شيوعا أن نسبة كبيرة من المستأجرين الذين انتقلوا من الوحدات الخاضعة لقانون الاسكان القديم الذي يحدد قيمة الايجار بسبب تملكهم وحدات سكنية جديدة يحتفظون بوحداتهم السكنية القديمة مغلقة وشاغرة بدلا من اعادتها الي أصحاب العقارات لكي يعيدوا عرضها في السوق, بسبب انخفاض قيمة ايجار هذه الوحدات, كما أن جزءا كبيرا من رصيد الوحدات السكنية المجمدة خارج سوق العرض والطلب يعود الي رغبة الملاك في الاحتفاظ بهذه الوحدات لأولادهم, أو تركها شاغرة لأنهم لم يجدوا بعد المشتري الذي يستطيع شراءها بالسعر الذي يريدونه, وهذه الوحدات يمكن أن تسد الطلب الاضافي علي الاسكان, وتسد الفجوة بين العرض والطلب بنسبة كبيرة اذا ما أعيد طرحها في السوق. وبسبب الانفصام الكبير بين العرض والطلب تعاني سوق الاسكان في القاهرة الكبري من قلة الحراك السكني, وجمود ديناميكيات الانتقال من سكن الي آخر, الي حد أن10 في المائة فقط من سكان الحضر عموما بما في ذلك القاهرة الكبري, هم الذين غيروا مساكنهم خلال السنوات الخمس الماضية, بما يعني أن2 في المائة فقط من سكان القاهرة الكبري هم الذين يغيرون مساكنهم في العام, ليس لأنهم راضون عن مساكنهم. ولكن لأن السياسات والتشريعات التي تحكم سوق الاسكان لا تساعد علي تحقيق حراك سكني نشيط, يقوم علي الاحلال والتجديد, ويعطي الفرصة لقطاعات واسعة من المجتمع للارتقاء بمستويات اسكانها من خلال حراك نشيط يضمن الانتقال الي المستوي الأفضل.. ويعود السبب الرئيسي لجمود الحراك السكني في حضر مصر خصوصا القاهرة الكبري الي التشوهات الضخمة التي لاتزال تحكم القيمة الايجارية, حيث تبلغ متوسطات الايجار للوحدات السكنية طبقا للقانون القديم27 جنيها في المتوسط, وهو مبلغ جد منخفض قياسا علي متوسطات الايجار للوحدات المؤجرة طبقا للقانون الجديد التي تصل في المتوسط الي270 جنيها, بما يعني أن متوسط ايجار الوحدة السكنية في القانون الجديد يعادل خمسة أضعاف الايجار القديم! وترسم الدراسة صورة متكاملة لخصائص الأسر المعيشية في مصر حتي عام2006, تلقي ضوءا كاملا علي سمات الاسكان في مصر, وطبيعة السوق الايجارية, ونمط الاسكان السائد والمطلوب, والتوجه الصحيح الذي ينبغي أن تلتزم به سياسات الاسكان كي نقضي علي هذا الانفصام بين العرض والطلب, ويتم توحيد سوق الاسكان بما يضمن تعادل السوق الإيجارية, وسد الفجوة الكبيرة بين القيمة الايجارية طبقا لقانون الايجار القديم الذي لايزال يحكم نسبة41 في المائة من الرصيد السكني حتي عام2006 والايجار طبقا للقانون الجديد, الذي تزايد التعامل به خلال السنوات الخمس الماضية الي حد يغطي الآن نسبة81 في المائة من الطلب علي الاسكان. وأولي الحقائق التي تحكم قضية الاسكان في مصر, أن هناك أكثر من63 في المائة من أفراد الأسر المصرية هم دون الثلاثين عاما, يشكلون ثلث التعداد السكاني, يمثلون الطلب الأكثر الحاحا علي سوق الاسكان لأنهم في سن الزواج, بينهم18 في المائة من الحاصلين علي درجات علمية جامعية, وواحد في المائة منهم فقط هم الحاصلون علي الدراسات العليا و83 في المائة يقرأون ويكتبون, يتحصل76 في المائة منهم علي عمل دائم, ويعتمد79 في المائة منهم علي المرتبات والأجور, ويصل متوسط دخل الفرد السنوي في هذه الشريحة الي3600 جنيه ومتوسط دخل الأسرة الي حدود11 ألف جنيه ينفقون من دخولهم علي الغذاء ما يقرب من43 في المائة وعلي السكن ما يقرب من10 في المائة ويمتلك95 في المائة منهم التليفزيون الملون و12 في المائة طبق استقبال دش و56 في المائة هواتف محمولة, وتصل أغلب مساحات مساكنهم بين40 مترا و60 مترا مربعا بنسبة30 في المائة, وما بين60 مترا و90 مترا بنسبة29 في المائة, وبرغم أن نسبة كبيرة من هؤلاء هم الأكثر قابلية لفكرة أن يسكنوا في بدايات حياتهم وحدات سكنية صغيرة ثم ينتقلون الي مسكن آخر عندما تتحسن أحوالهم الاقتصادية. إلا أن عدم وجود هذه الأنماط السكنية الصغيرة في أحياء قريبة وغير عشوائية خصوصا بالنسبة للمهنيين, وجمود الحراك السكني يشكلان مخاوف حقيقية تمنعهم من الاقدام علي سكني الوحدات الصغيرة التي غالبا ما تسكنها الفئات الأقل قدرة, بما يزيد ضغوط الطلب علي الوحدات السكنية ما بين60 و90 مترا التي تضم غرفتي نوم علي الأقل, الأمر الذي يفرض ضرورة تغيير أنماط السكن بما يوافق الاحتياجات الحقيقية للسوق, مع مراعاة أنماط الوحدات السكنية الصغيرة التي تصلح لشباب المهنيين ومواقعها بحيث تغريهم علي بدء حياتهم في وحدات صغيرة ملائمة يتحقق فيها نوع من التجانس الاجتماعي بين الساكنين. وتشير الدراسة الي أن مساحة40 في المائة من حجم المساكن في الحضر والقاهرة الكبري في حدود40 مترا, علي حين يصل حجم المساكن في حدود ما بين60 و90 مترا الي30 في المائة, في الوقت الذي يصل فيه حجم المساكن ما بين90 و120 مترا الي حدود15 في المائة وهي نسبة توافق في الأغلب مستويات الدخول المختلفة, ومع الاسف فإن11 في المائة فقط من سكان القاهرة الكبري هم الذين يهتمون بصيانة مساكنهم برغم وجود مشكلات عديدة في دورات المياه وشروخ في الحوائط بنسبة تصل الي4,8 في المائة, الأمر الذي أدي الي تدهور أحوال معظم المباني السكنية واختصار عمرها الافتراضي. ويكاد يكون نمط الايجار هو الذي يسيطر الآن علي معاملات الحصول علي المسكن, وبينما لايزال الايجار القديم يهيمن علي نسبة41 في المائة من الرصيد الاسكاني حتي عام2006 تصل نسبة التمليك الي36 في المائة, ويتزايد الاتجاه الآن نحو نمط الايجار بالقانون الجديد الذي يغطي نسبة81 في المائة من الطلب علي الاسكان, في حين تهاوت نسبة التمليك خلال السنوات الخمس الماضية الي حدود8 في المائة, وتتوزع حالات الايجار بالقانون القديم بالتساوي علي مستويات الدخل المختلفة, بما يؤكد أن نسبة كبيرة من شاغلي هذه المساكن من أصحاب الدخول فوق المتوسطة, الذين يشغلون أكثر من40 في المائة من هذه الوحدات تقع في أرقي أحياء القاهرة. يمكنهم تحمل تكاليف زيادة الايجار التي يمكن أن تنتج عن رفع القيود علي الايجارات, ومع استثناء نسبة38 في المائة من شاغلي الوحدات القديمة في الاحياء الشعبية, يحتاجون الي مظلة أمان تمكنهم من الوفاء بإيجارات مساكنهم اذا تم رفع القيود عن الايجارات القديمة, وتكاد تكون الظروف ناضجة الآن لتعديل قانون الايجارات القديمة بما يضمن زيادة متدرجة في أسعار ايجار المساكن القديمة خلال فترة انتقالية محددة وعودة الوحدات المغلقة التي يتجاوز قدرها مليوني وحدة في القاهرة وحدها الي اصحاب العقارات كي تدخل دورة السوق, وتسد الفجوة الراهنة في سوق الاسكان, وتعيد التوازن بين العرض والطلب. وتساعد علي تهيئة الظروف لتوحيد انماط الايجار في سوق واحدة تقضي علي تشوهات القيمة الايجارية, حيث تبلغ القيمة الايجارية طبقا للقانون الجديد خمسة أضعاف القيمة الايجارية للقانون القديم, خصوصا أن الزيادة المطردة في عدد عقود الايجار المبرمة طبقا لقانون الايجارات الجديد تدل علي قدرة القانون المتزايدة علي تصحيح اتجاهات السوق, بحيث تعود الأمور الي طبيعتها, ويصبح نمط الايجار هو النمط السائد وليس نمط التمليك, وذلك لن يتحقق إلا بتهيئة مناخ الاطمئنان في سوق الاسكان, وإعادة الثقة الي المستثمر المتوسط والصغير وتحفيزه علي الدخول من جديد في مجال الاستثمار العقاري في أماكن مخططة عمرانيا سلفا وتخدمها شبكة مرافق متكاملة. ويتركز حجم الطلب علي الوحدات السكنية التي تتراوح ما بين60 مترا علي الأقل الي حدود140 مترا, بحيث تشتمل هذه الوحدات علي حجرتي نوم علي الأقل, بينما يقل الطلب علي الوحدات الصغيرة دون60 مترا, ويفضل غالبية طالبي الاسكان نمط الايجار بنسبة65 في المائة قياسا الي35 في المائة للتمليك, ويكاد يتركز معظم الطلب علي مساحات تصل الي63 مترا مربعا, بحث لايتجاوز ايجارها مائتي جنيه شهريا مع استعداد30 في المائة من هؤلاء لدفع مقدمات تصل الي12 ألف جنيه. أما الطلب علي الوحدات الأكبر في حدود مائة متر مربع فلا يتجاوز أكثر من10 في المائة بإيجار شهري يتراوح ما بين300 و400 جنيه شهريا, مع استعداد58 في المائة من طالبي هذه الوحدات لدفع مقدمات تصل الي24 ألف جنيه, أما بالنسبة لتمليك الوحدات السكنية, فإن نسبة الراغبين في تملك الاسكان بالدفع الفوري تكاد تقتصر علي أصحاب الدخول العليا من الفئة الأولي. بينما يفضل أصحاب الدخول المتوسطة التملك بالتقسيط اعتمادا علي مدخرات الأسرة بنسبة65 في المائة, أو بيع ممتلكات مثل الأراضي الزراعية بنسبة45 في المائة, في حين يبقي الطلب علي القروض البنكية منخفضا لا يتجاوز4 في المائة بسبب ارتفاع نسبة الفائدة التي تصل الي14 في المائة, وعدم أهلية كثيرين للحصول علي قروض البنوك. والخوف من الاستدانة وعدم القدرة علي سداد الديون, لكن تزايد نسب الفوائد علي القروض لايزال يشكل أهم العوامل التي تمنع المواطنين من الاقبال علي مشروعات التمويل العقاري, وثمة ما يشير الي أن30 في المائة من طالبي الاسكان لديهم الاستعداد للحصول علي قروض ميسرة بسعر فائدة لا يتجاوز7 في المائة وبضمان مرتباتهم. ويكاد يتساوي الآن الطلب علي الاسكان الذي توفره الحكومة مع الطلب علي الاسكان الذي يوفره القطاع الخاص, وقد يكون أهم أسباب تفضيل السكن الحكومي, الحصول علي الدعم ومعقولية الأسعار, لكن مشكلة المساكن الحكومية تتركز في ضيق المساحة الشديد وافتقادها الي أهمية التناغم الاجتماعي في شغل الوحدات, بما يدفع الكثيرين خصوصا المهنيين والفئات المتوسطة الي بيع هذه الوحدات قبل شغلها والاستفادة بأثمانها, في حين تكمن أسباب تفضيل القطاع الخاص في أن تصميم الوحدات أكثر ملاءمة, كما أن البناء أكثر جودة فضلا عن أنها توجد في مواقع أفضل. وخلاصة القول أن مشكلة الإسكان يمكن أن تجد حلولها الصحيحة في ضوء سياسات جديدة تركز علي أهداف محددة. أولها تركيز أنماط البناء علي الوحدات السكنية ذات المساحات التي تتراوح ما بين60 و90 مترا, التي تشكل النموذج المفضل للأسرة المصرية المتوسطة, بحيث تتراوح القيمة الايجارية ما بين200 و400 جنيه, ولا تزيد مقدمات الإيجار علي24 ألف جنيه. وثانيها ابتكار أنماط جديدة من الوحدات السكنية الصغيرة جيدة التشطيب وفي أماكن محترمة أو مواقع ملائمة تصلح لسكني شباب المهنيين, يمكن أن تكون بداية جيدة يمكن أن ينتقلوا منها الي وحدات أكثر اتساعا بعد تحسين أحوالهم شريطة الحرص علي التناغم الاجتماعي لشاغلي هذه الوحدات. وثالثها: رفع القيود عن إيجارات المساكن القديمة في الأحياء الراقية والمواقع المهمة مع توفير مظلة أمان لشاغلي الوحدات القديمة في الأحياء الشعبية, وإعادة النظر في قانون الايجارات القديمة, بما يساعد علي عودة الوحدات السكنية الشاغرة والمغلقة الي دورة سوق الإسكان كي تسد الفجوة بين العرض والطلب, وتهيئ مناخا جديدا يشجع المستثمرين الصغار والمتوسطين علي العودة الي الاستثمار في السوق العقارية. ورابعها, دراسة أوضاع المستأجرين طبقا للقانون الجديد, بما يضع حلا لمشكلة تكاليف الإيجار التي تتزايد باستمرار لمدد طويلة قد تصبح في مرحلة لاحقة عبئا علي دخولهم, يضطرون معه الي ترك سكناهم بحثا عن مساكن ذات إيجار أقل. عن صحيفة الاهرام المصرية 15/12/2007