الإذاعة بين فهم الرسالة واقتدار الأداء رجائي عطية عمرت الإذاعة المصرية, منذ إرهاصاتها الأولي التي توجت بمولد الإذاعة الرسمية وبث إرسالها الأول في مايو1934 حيث تبدأ بعد شهور احتفالات عيدها الماسي عمرت بنجوم لامعة ملأوا موجاتها وملأوا الحياة الأدبية والفكرية والفنية والإعلامية خصوبة وعطاء, منهم من برع وامتاز في طلاوة الصوت, أو فنون الإلقاء, أو قراءة النشرات الإخبارية أو التعليقات السياسية, أو الربط في الاستوديو أو نقل الإذاعات الخارجية, أو في كتابة الدراما, أو التعليق السياسي, أو المنوعات, أو في الإخراج الإذاعي.... من عباءة الإذاعة المصرية خرج الشاعر الأديب, والروائي اللامع, ورائد الأدب الشعبي, واللغوي المجمعي, والمسرحي القدير, والناقد المتميز, ومنهم من جمع بين أكثر من ملكة أو موهبة من هذه المواهب,ومنهم من كان متكاملا دانت له جميع هذه القدرات, ومنهم من جاوزها إلي ميادين الأدب والشعر والقصص والرواية والمسرح والتراث الشعبي والنقد والدراسة... وعدتك بالمقال السابق أن أحدثك عن إذاعي فذ وأديب مبدع وكاتب رائع من نجوم الإذاعة اللامعين, اكتملت له هذه المواهب والقدرات, وتجلت فيه عبقرية فهم رسالة الإذاعة, والاقتدار في أدائها والقيام بها... متعدد الجوانب موسوعي الثقافة والمعرفة, ضرب بعطائه وإنتاجه الغزير في كل باب, لم يترك الشعر الذي نظمه في سنوات الدراسة, إلا ليرتاد دنيا الأدب والفن والتأليف الدرامي والمسرحي والنقد والترجمة, نويت أن أكتب عنه منذ رحيله عن دنيانا في فبراير1992 بعد رحلة عطاء طويلة تولي فيها رئاسة شبكة صوت العرب, والمستشارية الصحفية للرئيس الراحل أنور السادات, ووكالة هيئة الاستعلامات التي عاد إليها بعد أن تولي مكتبنا الإعلامي في استراليا, وآب منها إلي رحاب الإذاعة كاتبا من الخارج بعد بلوغ سن المعاش, فملأ الدنيا حضورا لافتا, أنعش آمالا عزيزة في أن يتواصل عطاؤه الذي افتقدته الإذاعة في سنوات الغربة, ولكن ملاك الموت اختطفه اختطافا مباغتا فور وصوله عائدا إلي أرض الوطن من رحلة نهض فيها علي تدريب باقة من شباب الإذاعيين بالكويت علي فنون وأساليب العمل الإذاعي. كان لابد أن يمضي وقت طويل علي رحيله عن دنيانا قبل أن أتمكن من الكتابة عن سعد زغلول نصار... لألملم شتات نفسي ومشاعري الحزينة, ولأجمع شتات ما كتبه وهو كثير غزير, ولأتهيأ للكتابة عما خاضه من بحور لا يستطيع المبحر أن يمسك بزمامها كما أمسك هذا المبدع الموهوب في تمكن واقتدار... الإذاعة تخاطب جمهورا غير محدود من المتلقين, متفاوت العلم والثقافة والمعرفة والأذواق والميول والمشارب.... عليها أن تغطي في مادتها المبثوثة كل هذه المطالب, في فهم وقدرة علي الصياغة التي تجمع بين الرصانة والتشويق.... هذه الرسالة تتطلب في الإذاعي فهما ومقدرة علي الإستيعاب والأداء... وكأن سعد زغلول نصار قد خلق للإذاعة التي بثت ارسالها الأول بعد مولده(1930) بأربعة أعوام... كان رحمه الله متعدد المواهب متنوع الاهتمام والإنتاج, لم يدع مجالا إلا خاضه وتميز فيه... لم يكتف بموهبته الصوتية المتميزة, طلاوة وأداء في النشرات والإذاعات الخارجية والتعليقات, وفي فنون الإلقاء, بل وفي الغناء الذي صدح به وهو مذيع في ركن الهواة, وإنما امتدت موهبته وأشواقه إلي استيعاب معين هائل من المعارف والثقافات, واتسعت لإنتاج غزير متنوع متميز... شاعر, وأديب, ومؤلف, وكاتب دراما وسيناريو, وناقد, ومترجم... موسوعي العلم والثقافة, إنساني النزعة, ملأ الإذاعة والتليفزيون والحياة الثقافية والأدبية نشاطا هائلا انعكس في شعره الذي نظمه وهو لايزال طالبا... وفي التأليف, والكتابة الدرامية للإذاعة والتليفزيون, والتأليف للمسرح, والترجمة, والدراسات الأدبية والنقدية والسياسية والإنسانية.. كتب عشرات الأعمال الدرامية للإذاعة والتليفزيون, ضمت التراجيديا والكوميديا, وتفرغت إلي الأعمال الأدبية والثقافية والدينية والتاريخية.... وألف للمسرح, وللتليفزيون, وكتب في أدب الرحلات, وترجم العديد من روائع المسرح والقصص العالمي, وكتب مئات المقالات الأدبية والنقدية والسياسية... وكان معبرا في كل ما قدمه عن الفهم العميق لرسالة الإذاعة التي عشقها, واقتدار الأداء مذيعا أو كاتبا أو مؤلفا ومترجما أو ناقدا... إذاعة صوت العرب, وهو أحد مؤسسيها, وتولي رئاستها خمس سنوات, إذاعة ذات طبيعة خاصة, كان الجانب السياسي والفكري والثقافي والديني من أهم معطياتها, ولكنها لم تتحوصل وإنما امتد عطاؤها إلي كل المجالات... مدركة أن رسالة الإذاعة عريضة بعراضة جمهور المتلقين... تقدم كل شيء.. الكشكول, والحياة والحب والأمل إلي جوار المادة والتعليقات السياسية, وتقدم المجلة الثقافية, وأضواء علي الفكر العربي, وقرأت لك, إلي جوار من هدي القرآن ومن هدي النبوة, وذلك الكتاب لاريب فيه, وفي مدرسة الرسول, وتقدم ابتهالات وأدعيات يا رب ومع الله وبشاير وباسمك اللهم, إلي جانب خريطة المنوعات والغناء والموسيقي والطرب, إلي جوار التواشيح والابتهالات الدينية والقراءات القرآنية. كان سعد زغلول نصار يفهم حقيقة هذا كله بحاسة متوهجة وثقافة عريضة, ويدفع رياح العمل في اقتدار يراعي تميز المادة مثلما يراعي التوازنات بين مختلف الوجبات التي تبثها إذاعة صوت العرب إلي المتلقين. أتيح لي أن أتلامس مع صوت العرب, وأن أكتب إليه ما بين أول الستينيات, ومنتصف الثمانينات كتابة يومية منتظمة, رأيت فيها أديبنا الإذاعي المبدع مديرا لحزمة البرامج العقائدية شاملة الثقافية والدينية في صوت العرب, يجلس في حجرة ومعه فيها أمين بسيوني وإبراهيم مصباح ومحمد مرعي وعبد الوهاب قتاية ومحمد الخولي, خلية نحل لا تهدأ, فلا تصرفه إدارة العمل ومراجعة النصوص وزحام الحجرة والمختلفين إليها عن الكتابة التي عشقها... ورأيته بذات هذه الروح يدير كتيبة صوت العرب التي جمعت ألمع نجوم الإذاعة التي ضمت فضلا عمن ذكرتهم: نادية توفيق وعادل القاضي وصلاح عويس ووجدي الحكيم وأحمد عبد الحميد وسعد غزال وتراجي عباس وأحمد حمزة وحلمي البلك وحمدي الكنيسي وعصمت فوزي ومرفت رجب وحسين أبو المكارم وسوسن النمرسي, ومراد كامل وزكريا شمس الدين وكامل البيطار وعلي سعفان ونادية حلمي ونجوي أبو النجا وسهام صبري ومحمد سناء وعبد الله عمران وعبد الفتاح العدوي ونهي العلمي وتهاني رمضان وسعاد خليل وجابر الشال ومحمود الشال ومحمد غزال وعادل جلال وأحمد شوقي وأماني كامل وعبد الله قاسم وأحمد الجبيلي... ووسطهم آنذاك علي أول الطريق أمينة صبري ثم نبيلة مكاوي اللتان تولتا علي التوالي إدارة صوت العرب في السنوات الأخيرة, من هذه الكتيبة من تولي رئاسة الاتحاد ورئاسة الإذاعة ورئاسة التليفزيون, ورئاسة الشبكات بالإذاعة والتليفزيون, فضلا عن إدارة صوت العرب الذي تميزت مدرسته بعطاء خاص ونكهة خاصة كان سعد زغلول نصار أحد أعمدتها المؤسسين الكبار الذي لم يختلف مسلكه رئيسا عنه مرءوسا.... لأن العطاء للإذاعة والأدب والفن كان مهجته وشاغله... إدارة هذه النجوم اللامعة ليست سهلة, إلا أن يكون ماسك الدفة صاحب اقتدار يدركه الجميع في بساطة غير مصطنعة, تعطي للعمل مقامه الأول, ولا تصادر أو تنتقص مكانة كل من هؤلاء لا في موهبته هو الآخر, ولا في قدرته علي العطاء والإجادة في جو عابق بالمحبة وسط خلية نحل لا تني ولا تهدأ... يختلف إليها يوميا نجوم لامعة في الأدب والفن والغناء... الجميع عاملا ومتعاملا مشغولون بالعطاء ومقتضياته في إحاطة وإتقان يصب في مصلحة الإذاعة وجمهور المتلقين. عن صحيفة الاهرام المصرية 4/10/2007