لماذا الهرولة في بيع بنك القاهرة؟! مكرم محمد أحمد أعتقد أنه قد آن الأوان كي تجد مشكلة بيع بنك القاهرة حلا مختلفا, يحقق الفائدة المرتجاة من البيع إن كانت هناك فائدة يمكن أن تتحقق من البيع دون أن يؤدي البيع إلي خلل في اسواق المصارف والتمويل المصرية, يجعل القرار الوطني في هذه السوق تحت سيطرة الأجانب, كما حدث في سوق الاسمنت التي تستحوذ الشركات الاجنبية علي أكثر من80% من حجمها, وتتحكم في الإنتاج, وفي الاسعار, وتتلاعب بقوانين السوق دون أن يكون في قدرة الحكومة أن تردعها أو تمنعها, لأنها لم تعد تملك حصة كافية من الإنتاج تمكنها من إعادة التوازن إلي السوق وتصويبه. وأظن أن هذا الحل المختلف ينبغي أن يعطي للمصريين أفرادا ومؤسسات فرصة الإكتتاب في حصة محترمة من أسهم البنك, توازن حصة المستثمر الرئيسي, وتحد من سطوته علي قرارات البنك بما يضمن ان يظل البنك مؤسسة مصرية وطنية دون ان يحدث له ما حدث في ستة بنوك مصرية قامت من خلال الاكتتاب العام, لكنها مع الأسف أفلست جميعا, وكان يمكن أن تغلق أبوابها لولا أن ضخت الدولة إلي خزائنها تسعة مليارات جنيه كي تنقذ أموال المساهمين في هذه البنوك.... وأظن أيضا أن أي حل جاد لمشكلة بنك القاهرة ينبغي أن يتم تحت المشورة والإشراف الكامل للبنك المركزي دون أن تستأثر الحكومة وحدها بالقرار, لأن البنك المركزي الذي يثق الجميع في قيادته, والمنوط به مراقبة أعمال البنوك الوطنية والأجنبية العاملة علي ارض مصر يستطيع ان يمنع صفقة البيع إن أدي البيع إلي سيطرة حصة الأجانب علي سوق المصارف والائتمان علي حساب المصلحة الوطنية. وإذا كان وجود المستثمر الرئيسي شريكا في ملكية بنك القاهرة يمثل ضرورة مهمة لضبط إدارة البنك وتحديثه وتطويره وتعزيز تمويله إذ تطلبت ظروف البنك ذلك, فلماذا تصر الحكومة علي ان يكون نصيب هذا المستثمر الرئيسي الذي يمكن أن يكون مصريا أو عربيا أو أجنبيا80% من اسهم البنك, وما الذي يحول دون خفض حصته إلي40 أو50% من اسهم البنك, في إطار ضمانات من البنك المركزي تمنع استحواذه علي اكثر من ذلك مع زيادة حجم الاكتتاب الوطني سواء من الأفراد أو المؤسسات الوطنية إلي حدود تقرب من حصة المستثمر الرئيسي بما يضمن أن يكون البنك في خدمة الاقتصاد الوطني. وأخيرا ما هي دواعي العجلة في البيع, إن لم تكن هناك مشروطية سياسية أو اقتصادية في اطار شروط الاصلاح الاقتصادي التي يضعها صندوق النقد الدولي, كما يؤكد ذلك محافظ البنك المركزي فاروق العقدة, الذي ينفي علي نحو قاطع وجود أية مشروطية سياسية أو اقتصادية لبيع بنك القاهرة, ويجعل عملية البيع جزءا من عملية إصلاح شامل للبنوك في مصر, يضمن تحديثها وتطويرها وجود مستثمر رئيسي يملك خبرة عالمية قوية في هذا المجال عادة ما يكون أحد البنوك الاجنبية, كما تضمن عدم تدخل الحكومة في قرارات الائتمان التي تصدر عن البنك التي ينبغي أن تستند اساسا إلي دراسات جدوي اقتصادية حقيقية للانشطة والمشروعات التي يمولها البنك بعيدا عن اوامر الحكومة ونواهيها, التي افسدت قرارات الائتمان التي صدرت عن بنك القاهرة في فترة سابقة, عندما منح البنك هذا الحجم الضخم من القروض السيئة لعدد من رجال الأعمال المصريين دون ضمانات كافية, الأمر الذي شجعهم علي الهرب بأموال المودعين إلي الخارج! وإذا كان هدف البيع, كما يقول محافظ البنك المركزي فاروق العقدة هو إصلاح البنوك المصرية وتعزيز فرص المنافسة بين البنوك الأجنبية, والبنوك الوطنية لمصلحة تقدم العمل المصرفي, كما هو الحال في كل العالم, خصوصا وأن مصر تملك بنوكا مصرية بالكامل في الولاياتالمتحدة وبريطانيا تخضع لاشراف البنوك المركزية هناك.... فلماذا الهرولة الزائدة عن الحد في عملية البيع التي ادت الي نفور المصريين من قضية الخصخصة حتي أصبحت الفكرة السائدة عن حكومة نظيف أنها علي استعداد لأن تبيع أي شيء, وكل شيء كي تتمكن من سد عجز الموازنة في ظل عجز موارد الخزانة العامة التي لم تتحسن بعد علي نحو كاف نتيجة تطبيق قانوني الضرائب والجمارك الجديدين.... ولماذا لا تتم إعادة تقييم الموضوع بأكمله من جديد من خلال لجنة استشارية تضم خبراء مصريين وأجانب لمخاطبة مخاوف مشروعة للرأي العام المصري, ظهرت علي السطح بقوة قلقا من بيع بنوك مصر إلي الأجانب بعد تجربة احتكارات الأسمنت. وما من شك في أن الحكومة ارتكبت عددا من الأخطاء في قصة بيع بنك القاهرة, أدت إلي إشاعة هذه المخاوف المشروعة, لأنها لم تشرح للرأي العام بشكل كاف ضرورات البيع والفوائد التي يمكن أن يحققها أكثر من حصولها علي15 مليار جنيه ثمنا متوقعا يقل أو يزيد, يذهب بعضه لسداد ديون البنك, ويذهب بعضه الآخر لتمويل عجز الموازنة, ويذهب الجزء الثالث لتمويل مشروعات المياه والصرف الصحي التي تمثل الآن ضرورة قصوي. وفضلا عن ذلك لم يعرض رئيس الوزراء مشروع البيع علي مجلس الوزراء استنادا الي مشورة خاطئة أكدت له أن القانون لا يلزمه بذلك, الأمر الذي أدي الي غضب عدد من الوزراء وإثارة نقاش حاد وساخن داخل المجلس, خصوصا أن الحكومة كانت قد أسقطت في فترة سابقة عمل اللجنة الوزارية للخصخصة, التي كانت تصادق علي قرارات البيع, والتي كانت تضم18 وزيرا مسئولا إلي جوار أربعة مستشارين هم رؤساء سوق المال والبورصة والجهاز المركزي للمحاسبات ورئيس الرقابة الادارية. كانت تعطي لقرارات الخصخصة تغطية سياسية تجعل البيع آمنا وسليما, وكان الخطأ الكبير للحكومة أن قرار بيع بنك القاهرة ظهر للرأي العام وكأنه قرار مفاجيء لا يحظي بشفافية كاملة, لأن الحكومة كانت قد أعلنت قبل ذلك عن دمج بنك القاهرة في بنك مصر, ونقلت إلي بنك مصر بالفعل مخصصات ديون بنك القاهرة شبه المعدومة التي جاوزت12 مليار جنيه, لكن الحكومة اضطرت الي أن تعيد النظر في قرارها تحت وطأة التكلفة الهائلة لعملية الدمج, التي يمكن أن تزيد من مصاعب بنك مصر في ظل حجم الموارد المحدودة للحكومة, وتصاعد المطالبة بإنجاز مشروعات المياه والصرف الصحي, والخوف المشروع من أن يؤدي قرار الدمج إلي إرهاق بنك مصر, اذا ما تأخرت الحكومة في سداد مخصصات ديون بنك القاهرة التي تحملها بنك مصر, ولعل الحكومة تكون قد اساءت توقيت البيع الذي جاء في وقت كان الرأي العام فيه مفعما بالغضب من جراء أزمة المياه والصرف الصحي. غير أنه يغفر للحكومة ضيق خياراتها المتاحة في ظل نقص الموارد, كما أنها تعاونت علي امتداد عامين مع البنك المركزي لإنجاز إصلاح غير مسبوق للبنوك المصرية, أنقذ28 بنكا كانت قد خسرت بالفعل رأسمالها بالكامل, بينها21 بنكا للقطاع الخاص, إضافة الي بنوك القطاع العام الأربعة, حيث بلغ حجم الديون السيئة في القطاعين50 مليار جنيه,28 مليارا منها تمثل ديون القطاع العام و22 مليارا تمثل مخصصات ديون القطاع الخاص, وأظن أنه يحسب لحكومة د. نظيف أنها تمكنت خلال هذين العامين من سداد20 مليار جنيه من ديون القطاع العام لدي البنوك من عائدات الخصخصة, كما تمكنت من سداد نسبة عالية من ديون القطاع الخاص من خلال برنامج مساعدة المتعثرين الذي أعاد جدولة ديون عدد من كبار رجال الأعمال توقفوا عن سداد ديونهم وكانوا علي وشك الافلاس. وإذا كان المطلوب من حكومة د.نظيف, أن تعيد النظر في قضية بيع بنك القاهرة بما يرفع حجم الاكتتاب العام في أسهمه, ويعطي أولوية البيع للمؤسسات المالية الوطنية وللأفراد المصريين, ويقلل الي الحد المستطاع نصيب المستثمر الرئيسي وحصته من أسهم البنك, متي كانت مشاركته في المملكية تمثل احتياطيا ضروريا لتحديث البنك وتطويره, فإن المطلوب من البنك المركزي بالتعاون مع الحكومة, أن يحدد نطاق مساهمة البنوك الأجنبية في التمويل المصرفي بما يضمن عدم سيطرة البنوك الأجنبية علي مناحي الاقتصاد الوطني, والحفاظ علي التوازن المطلوب في سوق الأئتمان والعمل المصرفي, وعدم تكرار ما حدث في سوق الأسمنت. صحيح أن البنك الأهلي وبنك مصر اللذين تمثل حصتهما43% من حجم الودائع والائتمان والأصول البنكية, يمثلان خط أمان للدفاع عن المصالح الوطنية, يضاف إليهما5% تمثل حجم البنوك المتخصصة العقارية والزراعية والصناعية, إضافة الي18% لصالح بنوك القطاع الخاص, بما يرفع نصيب القطاع الوطني من سوق المصارف والائتمان الي حدود72%, يشكل بنك القاهرة6% منها, لكن الصحيح أيضا أنه ما لم يتم تطوير البنوك المصرية, العامة والخاصة, بحيث تصبح قادرة علي منافسة أداء البنوك الأجنبية فثمة مخاطر ضخمة متوقعة إذا ما أخفقت هذه البنوك في المنافسة, وتوسع نطاق عمل البنوك الاجنبية التي لم تعد تجد غضاضة الآن في تمويل المشروعات الاستثمارية الكبري مادامت تستند الي دراسات جدوي اقتصادية موثوقة, أو تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل عصب الاقتصاد الوطني. وإذا كانت مدخرات المصريين16% فقط من الناتج الوطني المحلي, لا تمكن خطط التنمية المصرية من توليد أكثر من200 ألف فرصة عمل في العام, تصبح مساهمة رأس المال الأجنبي في خطط التنمية المصرية ضرورة ملحة لتوفير550 ألف فرصة عمل أخري, تحتاجها مصر كل عام للقضاء علي مشكلة البطالة, وهذا ما حدث في دول مثل الصين وماليزيا ودول الكتلة الشرقية السابقة التي لعبت فيها الاستثمارات الأجنبية دورا مهما في عملية التنمية غير واقع الحال وحقق نتائج مثمرة. لكن تطوير المصارف الوطنية يبقي العاصم الوحيد في ظل المنافسة الشرسة المتوقعة بين البنوك الوطنية والأجنبية خصوصا أن الجميع يعتمد نظرية الفصل الكامل بين الملكية والادارة, والتي تكاد تكون سمة العمل المصرفي الأساسي في كل أنحاء العالم بما يفتح أمام الاصلاح المصرفي في مصر طرقا جديدة غير الخصخصة ونقل الملكية تؤدي الي تحديث الادارة, تتمثل في إمكانية الاستعانة بإدارة أجنبية بدلا من البيع. عن جريدة الاهرام المصرية 8/9/2007