هند المخزومية، أم المؤمنين التي ضربت أسمى مثال في الوفاء والإخلاص، منذ أن كانت زوجة لأبي سلمة وأسلمت أم سلمه مع زوجها فكانت من السابقات إلى الإسلام، حتى زواجها من المصطفى – صلى الله عليه وسلم-. وفائها لأبي سلمة وما إن شاع نبأ إسلام أم سلمة وزوجها حتى هاجت قريش وماجت، وجعلت تصب عليهما من نكالها، فلم يضعفا ولم يهنا ولم يترددا. ولما اشتد عليهما الأذى وأذن الرسول -صلوات الله عليه وسلامه- لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، كانا في طليعة المهاجرين. مضت أم سلمة وزوجها إلى ديار الغربة وخلفت ورائها في مكة بيتها الباذخ، وعزها الشامخ، ونسبها العريق، محتسبة ذلك كله عند الله، وكانا في حماية النجاشي ، ولم تتركهم الرغبة الجامحة والشوق المكبوت إلى مكة مهبط الوحي، والحنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفري كبدها وكبد زوجها فريا. عودتهما لمكة تتابعت الأخبار على المهاجرين إلى أرض الحبشة بأن المسلمين في مكة قد كثر عددهم، فكانت أم سلمة وزوجها في طليعة العائدين إلى مكة عندما علم المسلمين المهاجرين بان إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب قد شد من أزرهم في مكة، لكن سرعان ما اكتشف العائدون أن ما نمي إليهم من أخبار كان مبالغا فيه، وأن الوثبة التي وثبها المسلمون بعد إسلام حمزة وعمر، قد قوبلت من قريش بهجمة أكبر، فافتن المشركون في تعذيب المسلمين وترويعهم، وأذاقوهم من بأسهم ما لا عهد لهم به من قبل. عند ذلك، أذن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، فعزمت أم سلمة وزوجها على أن يكونا أول المهاجرين فرارا بدينيهما وتخلصا من أذى قريش. محنة وابتلاء قالت أم سلمة: لما عزم أبوسلمة على الخروج إلى المدينة أعد لي بعيرا، ثم حملني عليه، وجعل طفلنا سلمة في حجري، ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي على شيء، وقبل أن نفصل عن مكة رآنا رجال من بني قومي بني مخزوم فتصدوا لنا، وقالوا لأبي سلمة: إن كنت قد غلبتنا على نفسك، فما بال امرأتك هذه؟! وهي بنتن، فعلام نتركك تأخذها منا وتسير بها في البلاد؟! ثم وثبوا عليه وانتزعوني منه انتزاعا. وتابعت: وما إن رآهم قوم زوجي بنو عبد الأسد يأخذونني أنا وطفلي، حتى غضبوا أشد الغضب، وقالوا: لا والله لا نترك الولد عند صاحبتكم بعد أن انتزعتموها من صاحبنا انتزاعا... فهو ابننا ونحن أولى به، ثم طفقوا يتجاذبون طفلي سلمة بينهم على مشهد مني حتى خلعوا يده وأخذوه. استكملت: وفي لحظات وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدة فريدة فزوجي اتجه إلى المدينة فرارا بينه ونفسه، وولدي اختطفه بنو عبد الأسد من بين يدي محطما مهيضا، أما أنا فقد استولى علي قومي بني مخزوم وجعلوني عندهم، ومنذ ذلك اليوم جعلت أخرج كل غداة إلى الأبطح، فأجلس في المكان الذي شهد مأساتي، وأستعيد صورة اللحظات التي حيل فيها بيني وبين ولدي وزوجي، وأظل أبكي حتى يخيم علي الليل، وبقيت على ذلك سنة أو قريب من سنة. قالت أم سلمة: إلى أن مر بي رجل من بني عمي فرق لحالي ورحمني وما زال ببني قومي يستلين قلوبهم ويستدر عطفهم حتى قالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت، ولكن كيف لي أن ألحق بزوجي في المدينة وأترك ولدي في مكة عند بني الأسد لا أعرف عنه شيئا؟!. ورأى بعض الناس ما أعاني وكلموا بني عبد الأسد في شأني واستعطفوهم علي فردوا لي ولدي سلمة، لم أشأ أن أتريث في مكة حتى أجد من أسافر معه؛ فقد كنت أخشى أن يحدث ما ليس بالحسبان فيعوقني عن اللحاق بزوجي عائق، لذلك بادرت فأعدت بعيري، ووضعت ولدي في حجري، وخرجت متوجهة نحو المدينة أريد زوجي، وما معي أحد من خلق الله، وما إن بلغت "التنعيم" حتى لقيت عثمان بن طلحة فقال: إلى أين يا بنت زاد الراكب؟! فقلت: أريد زوجي في المدينة، قال: أوما ما معك أحد؟! قلت: لا والله إلا الله ثم بني هذا، قال: والله لا أتركك أبدا حتى تبلغي المدينة. ثم أخذ بخطام بعيري وانطلق يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أكرم منه ولا أشرف، كان إذا بلغ منزلا من المنازل ينيخ بعيري، ثم يستأخر عني، حتى إذا نزلت عن ظهره واستويت على الأرض دنا منه وحط عنه رحله، واقتاده إلى شجرة وقيده فيها، ثم يتنحى عني إلى شجرة أخرى فيضطجع في ظلها، فإذا حان الرواح قام إلى بعيري فأعده، وقدمه إلي، ثم يستأخر عني ويقول: اركبي، فإذا ركبت واستويت على البعير، أتى فأخذ بخطامه وقاده، وما زال يصنع بي مثل ذلك كل يوم حتى بلغنا المدينة. تابعت: فلما نظر إلى قرية بقباء لبني عمرو بن عوف قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة، اجتمع الشمل الشتيت بعد طول افتراق، وقرت عين أم سلمة بزوجها، وسعد أبو سلمة بصاحبته وولده. بطولات وتضحية ثم طفقت الأحداث تمضي سراعا كلمح البصر، فهذه بدر يشهدها أبو سلمة ويعود منها مع المسلمين وقد انتصروا نصرا مؤزرا، وهذه أحد، يخوض غمارها بعد بدر، ويبلي فيها أحسن البلاء، لكنه يخرج منها وقد جرح جرحا بليغا، فما زال يعالجه حتى بدا له أنه قد اندمل، لكن الجرح كان قد رم على فساد فما لبث أن انتكأ وألزم أبا سلمة الفراش. وفيما كان أبو سلمة يعالج من جرحه قال لزوجه: يا أم سلمة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تصيب أحدا مصيبة، فيسترجع عند ذلك ويقول: اللهم عندك احتسب مصيبتي هذه اللهم أخلف لي خيرا منها، إلا أعطاه الله عز وجل. ظل أبو سلمة على فراش مرضه أياما، وفي ذات صباح جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعوده، فلم يكد ينتهي من زيارته، حتى فارق أبو سلمة الحياة، فأغمض النبي صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين عيني صاحبه، ورفع طرفه إلى السماء ودعا له بالمغفرة والرحمة، أما أم سلمة فتذكرت ما رواه لها أبو سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت اللهم عندك أحتسب مصيبتي هذه....لكنها لم تطب أن تقول: اللهم أخلفني فيها خيرا منها؛ لأنها كانت تتساءل، ومن عساه أن يكون خيرا من أبي سلمة؟!. زواجها من النبي ما لبثت أن أتمت الدعاء، وما كادت أن تنتهي أم سلمة من الحداد على زوجها أبي سلمة حتى تقدم أبو بكر الصديق يخطبها لنفسه فأبت أن تستجيب لطلبه، ثم تقدم منها عمر بن الخطاب فردته كما ردت صاحبه، ثم تقدم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إن في خلالا ثلاثا: فأنا امرأة شديدة الغيرة فأخاف أن ترى مني شيئا يغضبك فيعذبني به الله، وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا امرأة ذات عيال. قال عليه الصلاة والسلام لها: أما ما ذكرت من غيرتك فأسأل الله عز وجل أن يذهبها عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل ما أصابك، وأما ما ذكرت من العيال، فإنما عيالك عيالي.. ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة فاستجاب الله دعاءها، وأخلفها خيرا من أبي سلمة، ومنذ ذلك اليوم لم تبق هند المخزومية أما لسلمة وحده، وإنما غدت أما لجميع المؤمنين. نضر الله وجه أم سلمة في الجنة ورضي الله عنها وأرضاها.