سكب الربيعُ على الزمان جمالا وسرى الجمال على التلال تلالا لا لستُ أنكر أنَّ سحرك رائع وبديع حسنك قد حباك جمالا سر وانطلق ها لون زهرك ناضر وعبير وردك كم يفوح زلالا هكذا قال الشاعر مصطفى بطران في الربيع ، والذي تغنى به شعراء الفصحى قديماً وحديثاً ويطلق أيضا عليه اسم "النيروز" وفيه قال البحتري : أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً *** مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما وَقَد نَبَّهَ النَوروزُ في غَلَسِ الدُجى *** أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما يُفَتِّقُها بَردُ النَدى فَكَأَنَّهُ *** يَبُثُّ حَديثاً كانَ أَمسِ مُكَتَّما أيتها السنون المرحة..أيتها الأيام السعيدة ما أشبه جريانك بجريان مياه الربيع..هكذا يشبه الأديب الروسي الكبير تورجنيف مرور الأيام السعيدة بتدفق المياه في الربيع والتي تنساب وتجري سريعا تسبغ الجمال على الكائنات من الزهور مع روعة الطبيعة التي تتألق بشتى الألوان. وقديما وضع الفلاسفة وصفا لكل من الفصول الأربعة: فالربيع عذراء و الصيف أم و الخريف أرملة و الشتاء زوجة. وشهر مارس الذي يستهل به فصل الربيع، اشتق من المريخ (Mars)، وهو إله الحرب عند قدماء الرومان، ولعل السبب في ذلك أن شهر مارس تكثر فيه الزوابع الترابية ورياح الخماسين .. أما شهر إبريل، وهو الشهر الثاني من فصل الربيع .. فقد اشتق اسمه من كلمة لاتينيه، معناها "التفتح" إشارة إلى تفتح الزهور .. أما شهر مايو آخر شهور الربيع، فاشتق اسمه من كلمة "مايا" (MAIA) وهي أم عطارد، وعطارد هو إله التجارة والكسب وسيد الفصاحة والبلاغة والبيان، وأقرب الكواكب إلى الشمس، وكان الرومان يقدسونه ويؤلهون أمه الجميلة. الربيع عند الشعوب كتاب الموتى : الربيع يذكر بقدرة الخالق على البعث كان قدماء المصريين أول من اهتموا بالربيع .. فتجد في كتابهم المقدس ومتون كتاب الموتى أن الربيع أول الزمان وبداية خلق العالم، وقد أطلقوا على شم النسيم أو عيد الربيع أكثر من اسم منها "عيد البعث" و"عيد النور" و"عيد صحوة الطبيعة" ، وارتبطت أغانيهم في الحب بالربيع، ويعود تاريخ احتفالهم بالربيع إلى الأسرة الثالثة في عصر الأهرام؛ حيث ورد في "كتاب الموتى" أن الإله حدد مولد الربيع ليذكر البشر بقدرته على البعث؛ حيث تبعث الحياة في البذور، فينمو النبات وتتفتح الزهور وتؤرق الأشجار الجافة وتعود الحياة إلى الأرض الميتة، فتحيا وتكتسي بالخضرة، وتبني الطيور أعشاشها، وتضع البيض فتخرج الحياة من الجماد. يحتل عيد النيروز وهو عيد الربيع مكانة لدى الإيرانيين حيث يقولون "الاستعداد لهذا اليوم يبدأ قبل شهر من حلوله انه يوم تاريخي واستثنائي" وكلمة "نيروز" تعني بالفارسية "اليوم الجديد" وهو يجسد معنى "التجدد" في الحياة حيث يبدأ في أول أيام شهر "فروردين" وهو أول شهور السنة الشمسية الإيرانية وقد اختير لكونه أول أيام الربيع أي في نفس اليوم الذي تتم فيه الأرض دورتها السنوية حول الشمس لتبدأ دورة جديدة. يحرص الإيرانيون في هذه المناسبة على محو الأحقاد والضغينة من خلال زيارة من يحملون نحوهم الضغينة ويعملون على وضع حد للماضي الأليم وفتح صفحة جديدة في تعاملهم مع الآخرين تماماً كما تفعل أشجار الطبيعة التي تنفض عن نفسها غبار الماضي وتبدأ الحياة من جديد ، ووفق مهدي بازكان بجريدة "الرياض" السعودية ، فقبل شهر من حلول النيروز يقوم الإيرانيون بتنظيف منازلهم وجميع مستلزماتهم المنزلية وحتى أزقتهم وشوارعهم ومحلات عملهم ويسعون جاهدين لتبديل أثاثات منازلهم القديمة بجديدة وشراء الملابس الجديدة والحلي . الإيرانيون والربيع سبب اختيار يوم 21 مارس كبداية للربيع – وفقا للمؤرخين - تتمحور حول شخصية أسطورية لملك ظالم كان يحكم بحد السيف وبجبروت على الناس, اسمه "سرجون الملك" وعرف ب "الضحاك" وعند الكرد ب "أزدهاك" ، حتى أصيب الملك ذات مرة بمرض لم يعرف حكماء الشرق حينها دواءً له حيث نبت على كتفيه أفعى ذات قرون فنصحه أحد الحكماء بأن يتداوى بدم شابين كرديين كل صباح إلى حين أن يتعافى, فسمع الضحاك بنصيحة الحكيم إلى أن جاء دور "كاوى" الحداد الذي عرف بشخصيته القوية وكرهه للاستعباد والظلم. هذا البطل انتفض على الضحاك الظالم وقاد ثورة عارمة عليه مع مجموعة من الشبان الثائرين واستطاع ان يقتله ويحرر الشعب من ظلمه وخرج الناس في ذاك اليوم إلى ذرى الجبال والتلال يشعلون النيران ليعلنوا للملأ إن اليوم الجديد قادم لا محال يوم النصر على الطاغية وفي اليوم التالي خرجوا للطبيعة يديرون احتفالاتهم بطقوس مختلفة إيذانا بيوم الحرية الجديد, حدث هذا الإنتصار في 21 "مارس" الذي أصبح منذ ذلك الوقت يوما يخلده أبناء الشعب الآري وأبناء الشعب الكردي على وجه الخصوص. في العراق .. هبوط سفينة نوح يحتل عيد الربيع مكانة كبيرة في العراق ويعود تاريخ الاحتفال بهذا العيد الى الحضارتين البابلية والسومرية حيث ظل العراقيون يحتفلون بهذا العيد قرابة ثلاثة الاف عام، فقد كان الكاهن العراقي الأعظم يصلي للإله (مردوخ) ، وفق معتقداتهم ، اي اله النور ويقوم الكهنة الاخرون بالطقوس الدينية الاخرى لأيام متتالية ويستمر العيد لعشرة أيام تتلى خلاله اسطورة الخليقة وتقدم الصلوات والقرابين ويعلمه بإنجازاته ويرجوه عفو الذنوب ، ويذبح ثورا ابيض ليسقي دمه الأرض، وتنظم مسيرة ضخمة في شارع الموكب حيث يتم احراق دمى ملونة ، وفي اليوم العاشر يتم الاعتراف بشرعية حكم الملك من قبل (مردوخ). كذلك اهتمت الدولة العثمانية - كما ذكرت سها الشيخلي بجريدة "المدى" العراقية - قديما بعيد النيروز حيث كانت تقرأ القصائد للسلطان وتتضمن مواضيع الشجر وتفتح الزهور... وكانوا يعتقدون أن سيدنا نوح عليه السلام أنزل سفينته على اليابسة في اليوم الموافق 21 اذار"مارس" وهو يوم الاعتدال الربيعي، ومن العادات في هذا اليوم تقديم الحلويات والخضر والفواكه التي يُعتقد انها تحمي الإنسان لمدة سنة . عفريت في الصين حسب التقويم الصيني يصادف الأول من مارس أول يوم من العام الجديد المعروف ايضا لدى الشعب الصيني باسم عيد الربيع ويعود تاريخه الى حوالي الفي عام، وهو من أهم أعياد الصين تماما فحسب الأسطورة الصينية تجد عفريتا يدعى (هام) يأتي في بداية السنة القمرية الجديدة الصينية ويجلب سوء الحظ للعالم ، وخلال هذا الوقت يشعل الناس النيران ويمارسون الألعاب النارية لتخويف العفريت ليذهب بعيدا ، وقد انتقلت هذه العادة من جيل الى جيل ، لتأخذ الاحتفالات أشكالا متنوعة بهذا العيد. وانتقلت تقاليد الاحتفال بهذا العيد الى بلاد الشام حيث تحتفل به سوريا من خلال عادات وتقاليد خاصة فالناس يهنئون بعضهم بعضا ويتبادلون الهدايا ويعدون الحلويات والمأكولات الخاصة بالمناسبة حيث تجتمع العائلة وأحيانا مجموعة من العائلات تعبيرا عن الاخلاص الشديد للعيد حتى أصبح عيدا شعبيا سوريا يشارك فيه الجميع نظرا لطابعه الإنساني والمعنوي الذي يحتل مكانة خاصة في النفوس. يأخذ الاحتفال بهذا اليوم شكلا آخر في بعض دول اسيا ففي أفغانستان وفيما قررت الحكومة إحياء الاحتفال بهذا العيد الذي كانت تمنعه طالبان فان آلاف الأفغان يحتشدون منذ الفجر في الواحد والعشرين من "مارس" في الساحة الرئيسية لأكبر المساجد في مدينة مزار شريف التي تعد مركز الاحتفال بهذا العيد. ربيع العثمانيين مد باقر المجلسي ان يوم النيروز هو اليوم الذي أخذ الله فيه مواثيق العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأن يؤمنوا برسله وحججه وأنه أول يوم طلعت فيه الشمس وهبت به الرياح وخلقت فيه زهرة الأرض وهو اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح عليه السلام على جبل الجودي وهو اليوم الذي نزل فيه جبرائيل على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الاحتفالات جميعا لها أصل واحد يرتبط بالطبيعة والشمس ويعود الى الانقلاب الربيعي مع انتهاء الشتاء واطلالة الربيع وازدهار الحياة . أشعار في الربيع أجمل مميزات فصل الربيع هو ظاهرة تفتح الأزهار النضرة ذات الألوان الزاهية، ويقول الفلاسفة ..الطبيعة لا تنجب الزهور ولولا صبرها على برد الشتاء وحر الصيف لما كان الربيع، وفصل الربيع شكّل إلهاما لعديد من الشعراء فنظموا أجمل الأشعار وأروع الكلمات قال الشاعر صفي الدين الحلي: خلعَ الربيع على غصون البان حللا فواضلها على الكثبان ونمت فروع الدوح حتى صافحت كفَلََ الكثيب ذوائبُ الأغصان وتتوَّجت هام الغصون وضرجت خدَّ الرياض شقائقُ النعمان يقول عبد الله البردوني: ولد الربيع معطّر الأنوار غرّد الهوى و مجنّح الأشعار و مضت مواكبه على الدنيا كما تمضي يد الشادي على الأوتار جذلان أحلى من محاورة المنى و أحبّ من نجوى الخيال السّاري و ألذّ من سحر الصبا و أرقّ من صمت الدموع ورعشة القيثار هبط الربيع على الحياة كأنه بعث يعيد طفولة الأعمار وتغنى بدر شاكر السياب قائلا: يا ضياء الحقول ياغنوة الفلاح في الساجيات من أسحاره أقبلي فالربيع ما زال في الوادي فبلي صداك قبل احتضاره لا تصيب العيون إلا بقاياه و غير الشرود من آثاره فالربيع هو روضة للعابدين يرون الجمال في الخلق فيسبحون الخالق، وفي هذا يتساءل الشاعر مصطفى بطران: منْ يا ترى أعطاك أكبر قوة عجبا وحقا هل أروم سؤالا من ذا الذي سواك تبعث بهجة في العالمين وتسعد الأحوال ثم يجيب على لسان كل موحد ليكشف سر جمال الربيع : أنا يا ربيع أراك نفحة خالق وهب الحياة محبة وجلالا إنَّ الذي سواك ربّ مبدع يهب الجمال لمن يشاء جمالا