لا يزال اللبنانيون يحافظون على "إرث اجتماعي مألوف" يتمثل بزيارة مقامات الأولياء والقديسين المنتشرة في البلاد، إلا أن الحروب الدموية التي طبعت حياتهم منذ اندلاع الحرب الاهلية في العام 1975 وحالة عدم الاستقرار المستمرة منذ ذلك الحين، بالاضافة الى الازمات السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية زادت من لجوئهم الى هذه الاماكن للتقرب من الله. واللافت في لبنان أن زيارة المقامات المسيحية غير مقتصرة على المسيحيين وكذلك بالنسبة لمقامات المسلمين، فكلاهم يتبادلون زيارتها. الواسطة الأقرب الى الله ونقلت وكالة "الأناضول" الإخبارية عن الأستاذ في علم الاجتماع عماد شمعون قوله: "إن التفاعل والانصهار الحاصل بين المسلمين والمسيحيين في لبنان موجود في الكثير من نواحي الحياة وخاصة تبادل زيارة الأولياء والقديسين فيما بينهم". وعزا شمعون في مقابلة مع وكالة "الاناضول" سبب هذا "التبادل الاجتماعي الطبيعي" الى أن "المواطن اللبناني منذ ولادته يجد في قريته أو مدينته مسجدا وكنيسة وتفاعلا إيجابيا بين أسرته وجيرانه، ما يجعله أكثر بعدا عن فكرة رفض الآخر". وأضاف أن حرص كثير من اللبنانيين على زيارة مقامات وقبور الأولياء والقديسين، الذين يعتبرون من وجهة نظر علمَي الاجتماع والنفس "الواسطة الأقرب الى الله"، هو "توارث اجتماعي مألوف في لبنان"، ناتج عن "جهل إيجابي" عند المسلمين والمسيحيين. وتابع أن ما يزيد من التقرب الى الأولياء والقديسين "اليأس الذي يشعر به الإنسان والمشاكل الحياتية المختلفة، خاصة في بلد كلبنان" يعاني من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية منذ فترات طويلة. وأوضح أن "الجهل" المتبادل بين كثير من المسلمين والمسيحيين بحقيقة دين الآخر "جعلهم أكثر تقاربا وتفاعلا وألفة". المسلمين والمسيحيين ورفض شمعون القول ب"تميّز" لبنان عن محيطه العربي في ما يتعلق بهذا التفاعل والانصهار "لأن عدد المسلمين والمسيحيين في لبنان يكاد يكون متوازيا وبالتالي هم مجبرون على هذا العيش المشترك، فلا أحد يستطيع إلغاء الآخر". وأضاف أن الواقع في الدول العربية الأخرى مغاير عمّا هو في لبنان حيث أن نسبة المسلمين طاغية بقوة "وبالتالي لا يمكن الحديث عن انصهار أو تفاعل بين المسلمين والمسيحيين في هذه الدول". ويعد مقام الامام الاوزاعي على مدخل بيروت الجنوبي ودير القديس مار شربل في بلدة عنايا في في جبل لبنان، اوضح مثال على هذا التفاعل، فكلاهما يستقطبان مسيحيين ومسلمين على حد سواء للدعاء وطلب الشفاعة. ويوضح هشام خليفة، مدير عام الأوقاف الإسلامية في لبنان وإمام مسجد ومقام الإمام الأوزاعي، أن أولياء الله الصالحين هم قوم اختصهم الله لصفاء قلوبهم ونقاء سرائرهم وحسن أخلاقهم فالولاية هي صفة "لمن والى الله ووالاه الله". وقال خليفة في مقابلة مع "الاناضول" إن من أهم شروط الولي أن "يكون صاحب عقيدة صحيحة بتوحيد الله، متزنة بحب الناس وخدمة البشر، إضافة لمنهج تعبدي متكامل". ولفت الى أن الإمام الأوزاعي هو من كبار التابعين الذين اجتمعوا مع صحابة النبي محمد، وأحد المجتهدين والمراجع الفقهية الكبرى في الإسلام، مشيرا الى أن مذهبه ظل قائما لأكثر من 200 سنة في بلاد الشام والأندلس. وروى خليفة كيف اختار الإمام الأوزاعي بيروت كمقر لرباطه وتفرغه للعلم والجهاد بعد قصته المشهورة مع إحدى السيدات التي التقى بها أثناء مروره بمقبرة بيروت، قرب وسط بيروت التجاري حاليا، فسألها : أين العمارة ؟ فقالت: "إن أردت العمارة فهذه هي "مشيرة الى القبور" وإن أردت الخراب فأمامك "مشيرة الى البلدة". واضاف أن هذه الحادثة جعلت الإمام الأوزاعي يوقن أن أهل هذه البلدة قوم صالحون مؤمنون. وقال خليفة: "إن زوار مقام الإمام الأوزاعي ليسوا محصورين باللبنانيين بل يأتون اليه من كل أنحاء العالم ومن مختلف المذاهب"، لافتا الى أن الكثير من المسيحيين يحرصون دائما على زيارته. وأوضح أن تمسك المسلمين عامة واللبنانيين خاصة بالأولياء وزيارة مقاماتهم يعود إلى أن بيروت لا تضم إلا "العدد القليل من مقامات الرعيل الأول من السلف الصالح على خلاف الحال في فلسطين ودمشق التي تضم العشرات بل المئات من مقامات الصحابة والتابعين والأولياء والصالحين". الإمام الأوزاعي وأضاف أن زيارة الإمام الأوزاعي هي من باب التقدير لهذا الرجل ولعلمه وقربه من الرسول، مستطردا أن الزوار اليوم يرون به "الخط المعتدل" وسعة الأفق الجميلة وحقيقة الإسلام بعيدا عن التطرف والتعصب الذي نعيشه اليوم. وذكر خليفة أن الإمام الأوزاعي ومقامه في بيروت يحظى بأهمية وعناية كبرى من اللبنانيين، فالرئيس الراحل شارل حلو الذي حكم لبنان بين العام 1964 والعام 1970، كان يرسل الهدايا، من أموال وزيت ومساعدات، الى المقام ك"تقدير له"، حيث كان حلو يردد "نحن نقدر كثيرا هذا الإمام ولا ننسى فضله علينا". وأوضح خليفة أن مسيحيي لبنان يقدرون الإمام الأوزاعي لموقفه المهم يوم أصدر الوالي العباسي صالح بن عبدالله بن عباس قرار بقتل وإخراج من تسبب بإخلال الأمن في جبل لبنان من المسيحيين، مشيرا الى أنهم في حينه لجأوا الى الامام الأوزاعي الذي كان السبب بتراجع الوالي العباسي عن طردهم وبقائهم في هذه المنطقة. والإمام الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي وحمل لقب "عالِم أهل الشام"، ولد في مدينة بعلبك شرق لبنان في عام 707 وتعود أصوله إلى منطقة همدان في اليمن. ليلى مراد، التي التقتها "الاناضول" وهي تزور مقام الإمام الأوزاعي، قالت إن هذه عادة ورثتها عن أهلها وتواظب عليها منذ الصغر، مضيفة "نحن نأتي الى هنا لنصلي في هذا المكان الذي قد يكون أقرب الى الله تعالى". مزار مارشربل وكما مراد، فان ايلين سولاقة، وهي امرأة عراقية لاجئة في لبنان، تتردد كثيرا على مزار مار شربل للصلاة و تلمس شفاعته التي أنعم الله بها على الكثيرين بالشفاء وبالنعم الرّوحية. وقالت سولاقة للاناضول انها تأتي لزيارة مزار مارشربل من أجل أن "أتعرف على المعجزات التي حصلت مع الكثيرين ببركته". وأضافت: "نحن محتاجون اليوم لمن يصلي لنا عند الله بسبب تعب الحياة.. عسى أن نستفيد من حياته (مار شربل) ولو بجزء بسيط". ولفت الأب لويس مطر، قيّم دير مار مارون حيث مثوى مار شربل، الى أن ما يميز اللبنانيين مسلمين ومسيحيين هو تبادل الزيارات للأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية. وقال مطر إن مار شربل، الذي ولد عام 1828 ، كان "رجل صمت وصلاة كرّس حياته كلها لربه على عكس الذين يعبدون الزعماء اليوم"، واصفا إياه بأنه "أعجوبة على الأرض". وأوضح أنه منذ إعلان مار شربل قديسا وطوبويا من قبل الكنيسة الكاثوليكية عام 1977 تم تسجيل أكثر من 26 ألف أعجوبة، مشيرا الى أن هناك حوالي 10 % منها حصلت مع "غير معمّدين"، اي من غير المسيحيين، كان آخرها مع شخص يهودي فرنسي شفي من مرض السرطان. وقال: "إن المسلمين وغير المسلمين يزورون مار شربل "الذي يحل المشاكل ويشفي الأمراض"، مشيرا الى أن العشرات ممن أصيبوا بأمراض مستعصية "شفاهم مارشربل من هذه الأمراض". وتكن وداد زيدان، من الطائفة الدرزية، الكثير من المحبة والمشاعر للقديس شربل الذي تؤكد أنّها تؤمن به كثيرا، "فكل ما أطلبه منه يُستجاب". وتقول زيدان أنّها تجد الطمأنينة في دير القديس شربل "فهو مكان مقدس حيث الكثير من الخشوع ما يترك بداخلي نوع من الراحة النفسية، وكأن كل ضغط المدينة يزول فجأة". وتواظب السيدة الخمسينية على زيارة القديس شربل منذ أكثر من 10 سنوات، وقد اعتادت على ذلك بعد ما سمعته من شقيقها رامي الذي يعيش في الامارات العربية ويزور دير مار شربل منذ أكثر من 20 عاما، "فهو يشعر انّه يحميه ويعتبره شفيعه وهو يضع له تمثالا في منزله، وأول ما يقوم به فور وصوله الى لبنان زيارة ديره". ومن أبرز العجائب التي قام به القديس شربل وسجلتها الكنيسة، شفاء السيدة الخمسينية نهاد الشامي والتي كانت مصابة ب"سكتة دماغية" أكّد الأطباء أن لا امكانية لعلاجه. ومعظم الذين نالوا الشفاء، طلبوا ذلك من خلال الصلاة أو بدهن الزيت المبارك، أو بتناول حبة بخور، أو بارتداء ثوب مقدس يشبه الثوب الذي كان يرتديه القديس.