مبتسم رغم كل الصعوبات والتحديات.. مبتسم رغم الآلم والغصات.. مبتسم رغم النظرات الجارحة والتعليقات السخيفة من الناس القريبة والبعيدة.. مبتسم رغم العقول التي تدعي الفهم وتوزع النصائح والفتاوى دون بخل.. مبتسم رغم النفوس الشحيحة في تقديم العطاء والمساعدة، وتعطي بسخاء التوصيات التي تحرمه من معظم حقوقه في الحياة.. مبتسم رغم جفاء معاملة بعض الأطباء ويأسهم من معالجة حالته زاعمين أن أيامه في الحياة معدودة.. حكموا عليه بالموت منذ أيام طفولته المبكرة، زرعوا اليأس في قلب أمه وأبيه مما حدى بهما إلى التقصير في رعايته وعدم الاهتمام بأي شأن من نواحي تربيته وتعليمه أو حتى تلقى بعض التأهيل للتغلب على بعض مشاكله في الحركة والمشي والتواصل مع الآخرين بشكل شبه طبيعي.. مبتسم رغم أنه محروم من كثير من النعم التى يرى الآخرين يستمتعون بها، وبالرغم من ذلك ينكرون عليه حقه في الحصول على الرعاية الخاصة التي تلزمه لدعمه وتطويرة ذاتياً ومعنوياً وجسدياً ليصبح مواطن لديه القدرة والأمكانيات لبناء حاضرة ومستقبله بأسلوب كريم لا يهين إنسانيته، كل حالة حسب ظروفها الصحية وقدراتها العقلية وإمكانيتها الإبداعية التي اختصها الله عز وجل بها. اتحدث هنا عن حالات الإصابة بالشلل الدماغي، وما يواجه الطفل المصاب به وأهله من صعوبات وتحديات جمة خلال خوضهم لمثل هذه التجربة الحياتية.. فمثل هذه الإصابة تنتج بسبب أصابة الآم ببعض المشاكل الصحية خلال فترة الحمل، أو بسبب نقص الأوكسجين في المخ، سواء أثناء الولادة أو بسبب حادث معين كالغرق مثلاً، أو الإصابة بالتهابات فيروسية تصيب الدماغ.. ومهما اختلفت الأسباب وتعددت الأراء الطبية، فالنتيجة تكون واحدة، تتجسد في طفل (أطفال) مصاب بالشلل الدماغي، وهو ما ينتج عنه اضطراب دائم في حركة الأطراف الأربعة، أو بعض منها، يرافقها اضطرابات حسية وانفعالية ومعرفية.. وعلى هذا الطفل التعايش مع الإصابة طوال حياته، ولذا من الضروري تعليمه من خلال التأهيل العلاجي المناسب كيفية التحكم فى هذا الاضطراب وتأدية الوظائف الحركية والاعتماد على النفس قدر المستطاع.. وقد يجهل الكثيرون ماهية هذا المرض، ولذا يتعاملون مع صاحبة أحياناً كشخص متخلف عقلياً أو فاقد للأهلية في القيام بأي شيء، وربما يرون أنه حتى لا يصلح لتعلم أبسط الأساليب الحياتية والقيم الاجتماعية، ولذا يتجه البعض لتجنبه اجتماعياً.. ولكن يعتبر والدي الطفل المصاب بهذا المرض من أكثر الناس معرفة بقدراته وإمكانياته التطورية من الناحية العقلية والحركية.. ولكن مهمة تربية طفل مصاب بهذه الحالة تعتبر بالتأكيد مهمة شاقة وصعبة، وبخاصة إذا ما كان والدي الطفل يفتقران إلى الوعي الكافي لتربية طفل بهذه الحالة.. هذا علاوة على ما يواجهانه من مشقة وتخبط خلال رحلة علاج هذا الطفل.. إذ ينصحهم بعض الأطباء بإهمال مثل هذه الحالات وعدم جدوى تقديم أي رعاية طبية أو تأهيلية تساعدهم على التكيف مع صعوباتهم الحركية والحد من تدهورها.. وتختلف كل حالة حسب درجة الإصابة الدماغية ومدى درجة تلف الخلايا في المخيخ. ومن بين التخبط والمتاهات التي تدخل فيها أسرة الطفل المصاب خلال رحلة علاجه، بخلاف ما تواجهه من الفريق الذي يرى عدم جدوى تقديم أساليب علاجية له، هو دخول الأسرة في فخ أساليب العلاج التجارية.. فللأسف هناك فئة من الأطباء والمختصين المعالجين يهتمون فقط بجني الربح المادي، وليس بتقديم الأسلوب العلاجي السليم الذي يحتاجه المريض.. والنتيجة أن المريض يكون ضحية لأسلوب العلاج الخاطئ الذي يمكن أن يؤدي إلى سوء حالته ومضاعفة مشاكله.. هذا علاوة على المعاناة التي يتكبدها الأهل في تدبير المصاريف العلاجية، باذلين قصارى جهدهم في جمع المبالغ المطلوبة في سبيل شفاء ابنهم/ ابنتهم من علته المرضية.. يفعلون ذلك وهم لا يدركون المقاصد الربحية التي يسعى الطبيب المعالج لتحقيقها، الطبيب الذي ربما يكون ليس لديه خبرة ودراية كافية بمثل هذه الحالات وأساليب علاجها. ولكن، ليس فقط بعض أطباء العظام والمخ والأعصاب وبعض مختصي العلاج الطبيعي هم من يقومون برسم طريق مسدود أمام أهل الطفل المصاب بشلل دماغي، بل يقوم بذلك أيضاً بعض التربويين والعاملين في مجال التعليم، وكذلك بعض الأهل والأقارب.. حيث يستمرون في بث عباراتهم السامة والجارحة في أذني والدي الطفل المصاب، وذلك إلى درجة تصل إلى حد القناعة بأن هذا الطفل لا قيمة له، ولا فائدة من تأهيله وعلاجه، فهو ليس إلا طفل جالب للعار والخجل للأسرة.. لم يختر هذا الطفل أن يكون مريض ومبتلى بهذا المرض.. كان من الممكن أن يكونوا هم في نفس الوضع، وساعتها سيعرفون حجم الوجع، ساعتها سيسعون مثل أي أب وأم يخافون على أبنائهم ويرعون مصالحهم.. ولكن يبدوا أن المشكلة تكمن في ثقافة المجتمع؛ في الأفكار المتوارثة الجامدة عن قيمة الإنسان وحقه في الحياة الكريمة والعلاج والتعليم مهما كان هيئته أو شكله؛ وفي التقاليد الاجتماعية التي تميز بين الولد والبنت، فالولد مهما بلغت علته وعيوبة فهو عادة يكون أكثر حظاً وقبولاً من البنت في نظر المجتمع.. وأيضاً في الأفكار السلبية القديمة لدى البعض بعدم الإيمان بفاعلية وجدوى العلاج الطبيعي والتأهيلي. والحقيقة أن مرضى الشلل الدماغي يحتاجون إلى نوعاً من الرعاية الخاصة، ونوعاً خاصاً من التأهيل العلاجي الذي قد يستمر لفترات طويلة نسبياً.. ويعتبر الطفل محظوظاً إذا ما تلقى ما يسمى "بالبرنامج العلاجي المكثف" في مرحلة الطفولة المبكرة، وهو ما يعتبر أحد الأساليب العلاجية الحديثة لعلاج مرضى الشلل الدماغي.. والعلاج المكثف هنا لا يعنى زيادة ساعات العلاج، بل يعني تكرار الحركة – التمرينات التي يؤديها الطفل – مما يساعد تكرار الأوامر التي تخرج من الخلايا العصبية (السليمة بالمخ) إلى العضلات المراد العمل على تقويتها، وبالتالي يمكن الوصول إلى اقصى حد ممكن لتحسن الحالة.. ومع الاستمرار في البرنامج المحدد من قبل المختص يمكن تدريب الطفل على عدد من الوظائف الحركية والمهارات التي تمكنه من الاعتماد على ذاته، ويتوقف ذلك على درجة تلف الخلايا بالمج ومدى الإصابة لدى كل حالة. ولذا فأنه من الضروري أن يكون هناك فريق مكون من أطباء العظام والمخ والأعصاب وأخصائي العلاج الطبيعي والتأهيلي وأخصائي تخاطب وعلاج سلوكي لتقييم حالة الطفل المصاب بالشلل الدماغي مبدئياً، ثم تحديد مدى احتياجاته العلاجية تحت رعاية الطبيب المناسب أو إخصائي علاج طبيعي متخصص في مثل هذه الحالات.. ومع اتباع أسلوب العلاج المناسب يمكن العمل على الحد من المشاكل التى يمكن أن تزيد وتتفاقم فيما بعد، أي عندما يكبر الطفل، حيث تزيد درجة تيبس العضلات والمفاصل، كما تتزايد المشاكل الخاصة بزيادة الوزن وقصور الدورة الدموية نتيجة عدم الحركة مما يؤدي إلى حدوث مشاكل بالقلب والرئة (التنفس).. هذا يعني أن شفقتنا الزائدة على أصحاب مرض الشلل الدماغي (وغيرهم من ذوي الاحتياجات الخاصة بصفة عامة) ونصيحة البعض لهم بالراحة وعدم الحركة وعدم بذل الجهد للقيام بأي فعل، هو أسلوب يضربصحة هذه الحالات، صغاراً كانوا أم كباراً، وذلك نظراً لتزايد المخاطر الصحية التي تنتج عن عدم الحركة، كالإصابة بمرض القلب وغيرها من الأمراض التي قد تؤدي إلى تدهور الحالة والوفاة.. ويدل هذا إلى أن مرض الشلل الدماغي لا يؤدي للوفاة، بل أن إهمال الحالة وعدم تقديم الرعاية المناسبة لها هو الذي قد يؤدي بها للوفاة.. ولكن بالتأكيد هناك حالات من الشلل الدماغي تكون صعبة وشديدة الإعاقة حسب درجة تلف الخلايا بالمخ، ومع ذلك فإن هذه الحالات تتلقى نمط معين من الاهتمام والرعاية في الدول المتقدمة.. وهذا قد يؤدي بنا إلى الدخول في موضوع آخر، وهو الفارق الساشع بين ما تقدمه الدول المتقدمة والدول النامية من اهتمام ورعاية لذوي الاحتياجات الخاصة.. وبخلاف الإضرار الصحية التي قد تصيبهم بسبب شفقتنا الزائدة على أصحاب الشلل الدماغي (وعلى أصحاب العلل المزمنة بصفة عامة)، فإن هذه الشفقة قد تؤدي أيضاً إلى تربية صفة الكسل والتواكل في الطفل المصاب بعلة مزمنة، وتكبر معه عندما يكبر مع مرور الزمن.. وربما يرجع ذلك إلى وجود خلل في نظام التربية لدينا، فقد يعطي الأب والأم اهتمام وخوف زائد عن الحد على الطفل حتى ولو كان طبيعي ولا يعاني من علة، حيث يحاول الوالدين أداء كل شيء بالنيابة عن أبنائهم معتقدين بذلك أن هذا لصالحهم.. وهذا النمط من الوصاية الزائدة قد يتسبب في خلق طفل متواكل غير معتمد على ذاته، كما أنه لا يخلق في الطفل الرغبة في بذل الجهد والرغبة في المثابرة وتكرار المحاولة، مثلاً إذا سقط عليه تكرار المحاولة مرات ومرات.. هذا المثال لاينطبق على السقوط خلال الوقوف أو المشي فقط بالنسبة للطفل، بل ينطق أيضا على سلوكه في الحياة وأيامه المقبلة بصفة عامة، بحيث يكتسب سمة المقاتلة والمحاربة خلال تجاربة الحياتية، وبذلك نخلق شخص غير يائس محب لتكرار المحالة مهما قابلة من عقبات. ولكن مع الحرص على تربية هذه السمة في الطفل المصاب (أو الطبيعي أيضاً)، يجب أن يكون هناك نوعاً من الرعاية المجتمعية التي تهتم بتوفير الأساليب والوسائل التى تسهل عليهم الحياة في كافة النواحي، والتي تهتم بتقديم بعض خدمات الرعاية الطبية والخدمية والإنسانية.. حيث أن مريض الشلل الدماغي إنما هو إنسان كأي إنسان عادى، له أحلامه وآماله وطموحاته في الحياة سواء خلال فترة الطفولة أو المراهقة أو الشباب.. إنسان من حقه أن يعيش ويتعلم ويذهب إلى المدرسة ويلتحق بالجامعة، ويتعين في وظيفة.. من حقه أن يشارك في المجتمع ويتواصل مع أعضائه بشكل شبه طبيعي قدر المستطاع.. وعلى الأب والأم وبعض الجهات المعنية أن يهتموا بالتخطيط للحياة المستقبلية لهؤلاء الأطفال المصابين بالشلل الدماغي، كلً حسب حالته التشخيصية، عليهم أن يضعوا في عين الاعتبار وضع هذا الطفل عندما يكبر؛ من سيكون مسئول عنه إذا ما وقع أي مكروه للأب والأم لا قدر الله.. لذا، فمن الضروري أن يكون هناك قوانين تضعها الدولة فيما يختص بحالات الشلل الدماغي، وذلك نظرا لاعتبارها حالات تختلف عن حالات "الإعاقة" الأخرى؛ حيث إن هذه الحالات يكون لديها مشاكل صحية متعددة ومعقدة، وأحياناً تكون شديدة التعقيد لدى بعض الحالات.. ولذا على الدولة والمؤسسات المجتمعية والأجهزة الإعلامية منح مزيد من الاهتمام والرعاية لمثل هذه الحالات، فربما تمتع بعضً منها ببعض المواهب والملكات الخاصة قد لا يتمتع بها الأشخاص الطبيعيون.. وهناك نماذج واقعية لبعض مصابي الشلل الدماغي صارعت وجاهدت حتى تمكنت من إثبات ذاتها في الحياة والدراسة والعمل. ** دكتوراة في الآداب - علم الاجتماع