مع تنامي الحراك الشعبي في السودان مؤخرا، وتحديدا عقب خروج مظاهرات طلابية في جامعة الخرطوم تطورت إلى اشتباكات مع الأمن أسفرت عن مقتل طالب، أغلقت السلطات الجامعة أمام الطلاب، وذلك في خطوة أعادت إلى الأذهان، الذاكرة السياسية للسودانيين مع هذا الصرح العلمي الذي كان مهد الكثير من الثورات. وكانت الجامعة التي لعبت دورا محوريا في التاريخ السياسي الحديث لهذا البلد، قد شهدت في 11 من الشهر الجاري احتجاجات طلابية حول أعمال العنف بإقليم دارفور، غربي البلاد، تطورت لاشتباكات مع الشرطة أسفرت عن مقتل طالب وصدور قرار بإغلاق الجامعة عقب تلك الأحداث مباشرة، قبل أن يصدر قرار أمس الأحد، بإعادة فتح الجامعة الأحد المقبل. وكان المتظاهرون قد رددوا هتافات مناوئة للحكومة، مطالبين بتوفير الحرية والعدالة، وهي الهتافات التي رددها متظاهرون خرجوا في عدة مدن سودانية في سبتمبر/أيلول الماضي، عقب زيادة الحكومة أسعار المواد البترولية، وكانت تلك المظاهرات أسوأ اضطرابات شهدها السودان في مناطق حضرية طوال حكم الرئيس عمر البشير المستمر منذ أربعة وعشرين عاما. ويواجه نظام البشير أزمة اقتصادية طاحنة منذ انفصال جنوب السودان في 2011 وفقدانه لغالبية حقول النفط يفاقمها الكلفة العسكرية الباهظة حيث يحارب الجيش تحالفا يضم 4 حركات متمردة في 8 ولايات من أصل 18 ولاية سودانية. وبحسب عدد من المؤرخين، فإنه على مدار أكثر من 100 عام، كانت جامعة الخرطوم ملهمة للشعب السوداني لبناء دولته الوطنية التي أرهقتها الحروب الأهلية، والانقلابات العسكرية، فالجامعة هى المؤسسة المدنية الأكثر رسوخا بالبلاد والتي انبثقت منها الكثير من المؤسسات المدنية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وأسست الجامعة في العام 1902 بيد الاستعمار الانجليزي بعد نحو 3 أعوام فقط من بسط سلطانه على البلاد، كمدرسة ثانوية حملت اسم الجنرال الانجليزي غردون باشا، تخليدا له من حكومته. وعند تأسيسها كانت الجامعة تعد أرفع مؤسسة تعليمية بالبلاد، وتتقيد بالنظام الأكاديمي الإنجليزي، وفي 1944 حولت إلى كلية جامعية، شهادتها مرتبطة بجامعة لندن، وعند استقلال السودان عن الحكم الانجليزي في 1956، أعلنتها الحكومة جامعة مستقلة باسم جامعة الخرطوم. ومنذ افتتاحها كان خريجو الجامعة هم نخبة المجتمع السوداني الذين لعبوا الدور المحوري في بناء مؤسساته، وفي بناء المؤسسات السياسية التي قادت معركة الاستقلال عن الاستعمار وبناء الدولة الوطنية كما يروي ذلك محمد خير، السياسي السوداني المخضرم والذي شغل منصب وزير الخارجية في حكومة الرئيس إبراهيم عبود (1958– 1964) في كتابه "كفاح جيل" الذي أرخ فيه للحقبة الاستعمارية. وفي العام 1938 أسس خريجي الجامعة بمبادرة من محمد خير مؤتمر الخريجين على غرار مؤتمر الخريجين في الهند الذي أسس لاستقلالها من الانجليز، وحاول أعضاء المؤتمر في البداية إخفاء أي ميول سياسية لتجنب الاحتكاك مع الحكومة الاستعمارية لكن سرعان ما أعلنوا عن هدفهم صراحة وهو استقلال البلاد. نجح المؤتمر في رفع الوعي الشعبي بأهمية إنهاء الاستعمار بوسائل مدنية سلمية، تجلت في اضرابات واحتجاجات قوية منظمة. ومع تزايد النشاط السياسي، بدأت تظهر تكتلات داخل المؤتمر تحمل أطروحات فكرية وسياسية خاصة، ما أسفر عن إعلان هذه التجمعات لأحزاب صغيرة تجمعت لاحقا في حزبين رئيسين هما الحزب الوطني الاتحادي، وحزب الأمة القومي، وينسب للأول الفضل الكبير في استقلال البلاد، وشكل منفردا أول حكومة وطنية قبل الاستقلال، بموجب انتخابات أقرتها اتفاقية حكم ذاتي مهدت للاستقلال رسميا وإجلاء الوجود الإنجليزي في 1956، طبقا لرواية محمد خير. كان خريجو الجامعة هم قادة الحركة السياسية بمختلف أحزابها والتي لم يقدر لها التوافق لحكم البلاد وسرعان ما انقلب الجيش مدعوما من حزب الأمة القومي على حكومة الحزب الوطني الاتحادي المنتخبة. قاد الانقلاب في 1958 الجنرال إبراهيم عبود والذي وجد معارضة شرسة كان مركزها طلاب جامعة الخرطوم وأساتذتها الذين استطاعوا التأسيس لخطاب يعري تدخل الجيش في السياسة وكانت النتيجة الاطاحة بحكومة عبود في أكتوبر/تشرين أول 1964 عبر انتفاضة شعبية كانت الأولى في أفريقيا والمنطقة العربية ضد حكم عسكري. وبحسب رواية الزعيم الإسلامي حسن الترابي الذي كان على رأس الحركة الاحتجاجية ضد عبود والمنشورة في عدد من كتبه ومقالاته منها كتاب "السياسة والحكم" كانت شرارة الانتفاضة، مظاهرة نظمها طلاب وأساتذة الجامعة، احتجاجا على التصعيد العسكري من قبل الجيش ضد المتمردين المسلحين في جنوب السودان والذي راح ضحيته آلاف المدنيين والضغط في اتجاه تسوية سياسية للحرب الأهلية. لكن تصدي الشرطة بعنف للمحتجين واستخدام الرصاص الحي ومقتل ثلاث من طلاب الجامعة غير مسار التظاهرة إلى انتفاضة مهدت لعودة الحكم الديمقراطي. وفي 1969 نفذ مجددا ضباط في الجيش بقيادة جعفر النميري، مدعومين من الحزب الشيوعي انقلابا عسكريا أطاح بالحكومة المنتخبة، غير أن حكومة النميري تمت الإطاحة بها عقب احتجاجات طلابية استمرت على مدار سنين حكمها وطويت في أبريل/نيسان 1985 بانتفاضة شعبية. يقول إبراهيم الشيخ رئيس حزب المؤتمر السوداني المعارض والذي كان رئيسا للمجلس الأربعيني لاتحاد طلاب الجامعة في ذلك الوقت "الاحتجاجات القوية التي سيرها الطلاب استطاعت أن تجذب عشرات الآلاف من المواطنين الذين يكنون احتراما بالغا لطلاب الجامعة بسبب التزامهم الدائم بقضايا شعبهم". ويضيف الشيخ في حديثه لمراسل وكالة الأناضول: "في تقديري سبب نجاح الانتفاضة هو ثقة الشارع في طلاب الجامعة وانحياز الأساتذة لهم بتنفيذ اضراب عن العمل كان حافزا لبقية النقابات المهنية للإضراب ما شل الحياة العامة وأجبر ضباط الجيش على الانحياز للشعب". ومنذ أن جاء الرئيس عمر البشير للحكم في 1989، مدعوما من الإسلاميين كانت جامعة الخرطوم مركزا لعدد من الحركات الاحتجاجية التي واجهها. وفي كل هذه المرات كانت السلطات تجبر إدارة الجامعة على إغلاقها للحيلولة دون اتساع رقعة الاحتجاجات في الشارع حسب ما يقوله أنور سليمان وهو محامي تخرج من الجامعة في العام 1999. ورأى سليمان الناشط في الدفاع عن الحريات والحقوق أنه "رغم منح الجامعة إجازة في سبتمبر/أيلول الماضي (الاحتجاجات على رفع أسعار المواد البترولية) إلا أن طلابها وخريجيها كانوا نواة التشكيلات الشبابية التي نظمت الاحتجاجات في الأحياء الشعبية". وخلفت هذه الاحتجاجات 86 قتيلا، حسب إحصائيات رسمية و200 قتيل حسب احصائيات منظمة العفو الدولية. والأربعاء قبل الماضي خرجت المظاهرات بجامعة الخرطوم ضد تصاعد أعمال العنف في إقليم دارفور، وكادت تلك المظاهرات أن تعيد تاريخها وبالتحديد نسخ الانتفاضة التي أطاحت بنظام عبود في 1964. ومنذ عام 2003، تقاتل 3 حركات متمردة في دارفور الحكومة السودانية، هي: "العدل والمساواة" بزعامة جبريل ابراهيم، و"جيش تحرير السودان" بزعامة مني مناوي، و"تحرير السودان" التي يقودها عبد الواحد نور. ووفقًا لتقرير صدر عن الأممالمتحدة عام 2008 (لم يصدر تقرير أحدث منه)، فإن نزاع دارفور تسبب في نزوح حوالى 2.5 مليون شخص، ومقتل حوالى 300 ألف شخص، بينما تردد الحكومة السودانية أن عدد القتلى لا يتخطى العشرة آلاف. وبسبب هذا النزاع، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية عام 2009 مذكرة اعتقال بحق الرئيس عمر البشير؛ بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، قبل أن تضيف إليها عام 2011 تهمة الإبادة الجماعية، وهو ما ينفيه البشير. بالمقابل فإن الدور السياسي للجامعة لا يقتصر فقط على الاحتجاجات المناهضة للحكومات، بل كان لها باع طويل في مبادرات الوفاق الوطني بين الأحزاب وحركات التمرد المنقسمة على الدوام، وكان آخرها مبادرة الجامعة للحوار الوطني التي أعلنتها رسميا الشهر الماضي. وتزامنت مبادرة الجامعة مع دعوة للحوار وجهها الرئيس البشير للقوى السياسية ضمن خطة إصلاحية يتبناها من 4 محاور هي "وقف الحرب، المجتمع السياسي الحر، مكافحة الفقر، وانعاش الهوية الوطنية". وتسببت الدعوة في انقسام تحالف المعارضة الذي يضم نحو 20 حزبا، فبينما قبلها أكبر حزبين هما حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي والمؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي، رفضتها بقية الأحزاب واشترطت لقبولها تنفيذ 4 شروط أبرزها إلغاء القوانين المقيدة للحريات وتشكيل حكومة انتقالية تضم الجميع وتشرف على صياغة دستور دائم وإجراء انتخابات حرة ونزيهة. ودشن أساتذة الجامعة مبادرتهم بلقاء مع المهدي الأسبوع قبل الماضي، وقال الأخير إن وفد الجامعة قبل تبني ورشة كان يرتب لها حزبه ودعا لها نحو 20 حزبا وفئات نقابية وقبلية ودينية ووجدت تجاوبا واسعا بغرض تحديد المطالب الشعبية لمناقشتها في الحوار الذي دعا له البشير. وأبدى المهدي أمله في أن "لا يؤثر إغلاق الجامعة على هذه المهمة الوطنية التي تليق بتاريخ جامعة الخرطوم العريقة". وقال مدير جامعة الخرطوم صديق حياتي في تصريح مقتضب عبر الهاتف لمراسل الأناضول إن وفدا من الجامعة "سيلتقي خلال أسبوعين بقية القوى السياسية التي وافقت جميعها على مبادرة الجامعة بما فيها الحزب الحاكم ". وأبدى حياتي ثقته "في نجاح مبادرة الجامعة بما لها من استقلالية وقبول لدى كل الأطراف".