«حرب باردة جديدة» هو عنوان تصدر أغلب الصحف العالمية خلال الأيام الماضية والمقصود به بالطبع الصراع الدائر بين الولاياتالمتحدةوروسيا فى العديد من المواقع آخرها ما تشهده أوكرانيا والذى استدعى التدخل العسكرى لموسكو فى أحد أقاليمها ( شبه جزيرة القرم والتى تقع على الحدود الأوكرانية الروسية ) وتحريك قوات الناتو فى المقابل ردا على هذا التدخل بصورة قد تنذر بمواجهات مفتوحة . كانت الحرب الباردة مرحلة استثنائية طويلة فى تاريخ العلاقات الدولية تجسد الصراع بين قوتين عالميتين تحمل كل منهما أيديولوجية تتنا قض مع بعضها البعض، و تسعى من خلالها للسيطرة على العالم ، الذى تم تقسيمه من خلال تحالفات واسعة إقليمية و دولية، وكانت كل قوة منهما تحتمى وراء ترسانتها النووية بما يحقق الردع المتبادل. وكانت هذه الحرب تدور فى إطار ما يعرف ب «اللعبة الصفرية» بمعنى أن كل مكسب يحرزه أحدهما لابد أن يشكل خسارة للآخر، وانتهت الحرب لمصلحة الولاياتالمتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وتفككه وانضمام جمهورياته المستقلة إلى معسكرها، وانكفأت روسيا على ذاتها لبعض الوقت إلى أن تولى زعيمها القوى الحالى فلاديمير بوتين السلطة محاولا استعادة بعض مما فقدته روسيا السوفيتية لتعود لاعبا يحسب له حساب على الساحة الدولية. ولأن العالم بطبيعته لا يعرف المساواة بين الدول، فقد تم تصنيفه إلى مجموعات أهمها ما يعرف بنادى الكبار، أى الدول المستقرة سياسيا والمزدهرة اقتصاديا والتى تمتلك قوة عسكرية هائلة و تلحق بها الكيانات العملاقة والتجمعات الإقليمية الكبيرة (مثل النافتا، ومجموعة الآسيان، وتجمع أمريكا اللاتينية) إما باقى المجموعات فتصنف إما كدول نامية تمتلك أحد مفاتيح القوة الرئيسية وتسعى إلى مزيد من النفوذ والقوة على الساحة الدولية (مثل الصين، إيران، كوريا الشمالية) أو دول مازالت تمر بمراحل عدم استقرار وتستنزف فى صراعات داخلية تعانى من أزمات اقتصادية حادة. ولاشك أن الفئة الأخيرة هى الأكثر إغراء للتدخلات الدولية ولأن تصبح ساحة للصراع على النفوذ بين القوى الكبرى على أراضيها، وهذه الدول تمتد إلى أكثر من منطقة من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية الى الشرق الأوسط . إن هذه الفئة بالضبط هى ما ترسم ملامح الحرب الباردة الجديدة، و أبرز نماذجها أوكرانيا (التى تعتبرها موسكو جزءا من أمنها القومى فى الوقت الذى تتزايد فيه السيطرة الأمريكية والأوروبية عليها) وفنزويلا (التى تعدها واشنطن جزءا من فنائها الخارجى، بينما تتبع السلطة فيها روسيا ) وأخيرا سوريا التى لا تختلف كثيرا عن الحالات السابقة من دعم روسى للنظام مقابل دعم أمريكى للمعارضة . ولأن الأمر بدا و كأنه اقترب من لحظة الحسم فى حالة أوكرانيا بعد عزل وهروب رئيسها، استدعى الأمر تدخلا روسيا مباشرا وفوريا إلى حد دعم فكرة انفصال إقليم القرم وضمه إلى روسيا الاتحادية حال الاستفتاء على ذلك فى المستقبل، وهو أمر لم يحدث منذ تدخلها فى جورجيا فى 2008، إلا أن التدخل هذه المرة يعد الأخطر بحكم الأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا ووجودها فى قلب أوروبا مقارنة بالحالة السابقة، وهو ما عكسته حرب التصريحات الأمريكية الروسية العنيفة الدائرة الآن والتهديد بفرض عقوبات بما ينذر بمواجهة أشمل إذا ما تجاوز الأمر الحدود المسموح بها فى صراعات «ما بعد الحرب الباردة». ان روسيا بعدما حققت نوعا من التوازن الاقتصادى الدولى (من خلال وجودها فى التجمعات الاقتصادية الكبرى مثل «البريكس»، «شنغهاى»، «التحالف الأوراسى») باتت تسعى بقوة إلى تحقيق التوازن العسكرى و«الجيوستراتيجي» ايضا، أى ما يتعلق بالجغرافية السياسية. إذن روسيا تحاول استعادة مناطق النفوذ التى فقدتها فى كثير من مناطق العالم لمصلحة قوى دولية أخرى. فهل نحن ازاء حرب باردة جديدة بمفهومها القديم؟ بالطبع إن المرحلة الراهنة تحمل بعضا من ملامح هذه الحرب، ولكنها ليست مثلها تماما. أى أننا قد نكون إزاء نموذج دولى يقوم على التداخل بين قواعد لعبة قديمة (صراع حاد) لعبة حديثة (تبادل مصالح و مقايضات) معا. ومن هنا فالمتوقع ألا تكون الصورة واضحة مثلما كانت فى ظل «الثنائية القطبية». صحيح أن كثيرا من الدول ستمتلك قدرة أكبر نسبيا على المناورة أو تحقيق نوع من التوازن فى علاقاتها الدولية، ولكن تحقيق هذه الاستراتيجية لن يكون سهلا لسببين رئيسيين: الأول، أن الدول الإقليمية التى ترغب فى بناء علاقات تحالف فيما بينها تكون مضطرة لأن تتوجه نحو شريك دولى واحد، وبالتالى لن تكون هناك فرصة من الناحية الواقعية لاختيار مختلف، فعلى سبيل المثال ستظل دول الخليج وفى مقدمتها السعودية على تحالفها الوثيق مع واشنطن، و بالتالى فإن أى دولة تدخل فى علاقات تحالف معها يجب أن تكون ملتزمة بهذا التوجه. والسبب الثانى، أنه فى لعبة الحرب الباردة الجديدة، فإن المكسب يكون ب «النقاط»، وهو ما يعنى رهن الصراعات فى مناطق العالم المختلفة ببعضها البعض وإخضاعها لعملية مساومات و صفقات، ظاهرة أو كامنة، بحيث يكون وضع كل صراع مؤثرا على غيره مثلما هو الحال بالنسبة لحالتى أوكرانياوسوريا. هذا يعنى أن استراتيجية كل من القوتين الدوليتين (أمريكاوروسيا) ستصبح متغيرة، وقد تفاجيء شركاءهما وحلفاءهما التقليديين، فالحسابات ستختلف من حالة إلى أخرى، بل ومن وقت إلى آخر إزاء الحالة الواحدة. ولاشك أن ذلك سيشكل قلقا وعبئا على الشركاء أو الحلفاء الإقليميين وسيجعل من الصعب التنبؤ بمسار الصراعات المختلفة وسلوك القوى الكبرى ازاءها . نقلا عن صحيفة " الاهرام" المصرية