خلال الثلاثين سنة الماضية كان القذافي محدراً في كل مناسبة أن ليبيا فقيرة، وأنها لا أنهار ولا مصادر مياه دائمة لها، وهو ما يفسر قلة عدد السكان في هذه الصحراء الشاسعة، وأن المصدر الوحيد لإرادات الدولة هو النفط ، حتى أنه شجع الليبيين على السفر إلى السودان للعيش على ضفاف النيل. ربما كان صائباً في هذا دون غيره، وهو الذي أهدر فائض الدخل في حروب قذرة، وتمويل الإرهاب العالمي، ومشاريع غير مجدية، مثل إستيراد السلاح، دون إيجاد بنية تحتية جيدة، أو إقتصاد إنتاجي بديل. لم يبدئ الكثير من الليبيين إمتعاضهم أو تدمرهم من مقولة ليبيا فقيرة، ما دامت الجمعيات الإستهلاكية البائسة تقوم بتوفير الأساسي والضروري من مقتضيات الحياة اليومية، وأن مرتباتهم قادرة على شراء سيارت مستعملة. بعد الثورة إستخدمت وسائل الإعلام الجديدة أسلوب المقارنة بين ليبيا ودول الخليج، من أجل إقناع المواطن بأن ليبيا غنية وغنية جداً، وأن الفقر والجهل والتأخر سيقبر مع نظام القذافي إن كتب للثورة النجاح، وأن الفساد المالي لرجالات الدولة كان وراء تدني مستوى المعيشة، وهو الحائل دون الرفاهية. هذه المقارنة الفرضية لها القليل من الصحة والكثير من التهويل، وحقيقتها أنها يمكن الوصول إلى الرفاهية على المدى الطويل وليس بعد بضعة سنوات. بعد التحرير برز أغنياء الحرب ممن إستولوا على ممتلكات الدولة، وممن وضع قوائم وهمية للثوار من أجل الاستحواذ على مرتباتهم، ومن تحصل على الأموال من قطر والإمارات، كما قامت الدولة بمنح الهبات والمهايا والعطايا، ناهيك عن وضع المؤتمر لمرتبات أعضائها على نسق دول متقدمة في دولة من العالم الثالث. بعد إنقضاء فترة الحكومة الإنتقالية الأولى دون تحقيق تغير يذكر على المستوى الإقتصادي للدولة، أو تحسن الخدمات على المستوى الفردي، إنعدمت الثقة بين الشعب والحكومة والمؤتمر، وفي غياب تطبيق القانون وإنتفاء الوازع الديني شجع هذا الوضع الأفراد من صغار الموظفين والمجرمين والخارجين عن القانون على نتف أوصال الوطن، كل حسب موقعه (إلا من رحم)، وأصبح الفساد مشاعاً. أصبحت المطالب الفئوية والجهوية والفردية على أوجها، بفرضية " أن الدولة غنية وأن الفساد في أعلى هرم الدولة ينخر في عظام الميزانية العامة" وبذلك دخل الجميع في سباق مع الزمن من أجل إنتزاع ما يمكن إنتزاعه من الدولة أو من الأفراد، فالسجناء الذين رصد لهم 384 مليون دينار في سنة 2013 من مجموع 700 مليون كتعويض عن فترة سجنهم قد لا يكون من أولويات المرحلة، وأصحاب الأراضي والأملاك المؤممة في عهد القذافي قد قاموا بإعداد قانون لتعويضهم، وأشباه الثوار الذين يتقاضون مرتبات من العديد من الجهات، بل أن طلبة إنخرطوا للدروع والكتائب الخاصة لهم رواتب تفوق من له خبرة ثلاثون سنة في مؤسسات الدولة، وهكذا أصبحوا جميعا في تجاذب مع الدولة لإنتزاع ما يمكن إنتزاعه خلال مدد قصيرة من عهد الثورة. هذا الوضع شجع المجرمين على إرتكاب جرائم السطو، وعلى تهريب الوقود إلى جميع المدن المجاورة وبمئات الملايين، وتهريب المواد الإستهلاكية المدعومة من الدولة، ناهيك عن قطع أسلاك الكهرباء وتهريب المحولات، ومنها جريمة السطو على أموال البنك المركزي الليبي في سرت، والمساعدات الأمنية في بنغازي، وعربات النقل التي تم الإستلاء عليها لتجهيز الكتائب الخارجة عن القانون بل أن المسؤلين عن حماية ممتلكات الدولة هم الذين يقومون ببيعها، مثل الأليات والأسلحة والأجهزة المقدمة إلى المناطق الساخنة بليبيا، حتى ضاقت الدول المجاورة منا درعا. حقيقة الأمر أن الفساد في ليبيا ليس كما هو موجود في الدول الأخرى، وليس كما هو معرف في الهيأة الدولية حيث يتم تعريف الفساد عند المنظمة الدولية للشفافية بأنه (إساءة استعمال السلطة التي أؤتمن عليها الشخص لتحقيق مصالح شخصية)"، وهو نفس التعريف الذي أوردته هيئة الأممالمتحدة بأنه (سوء استعمال السلطة العامة للحصول على مكاسب شخصية مع الإضرار بالمصلحة العامة) " . والفساد المالي في ليبيا لم يكن ذو جذور إدارية م ثل صفقة اليمامة في السعودية، أو الفساد المالي في تركيا أو التهرب الضريبي في إيطاليا أو الإستلاء على أموال الدولة بالقانون في مصر، إنه فساد من نوع آخر، والذي يمكن وصفه تحت الجرائم المالية المباشرة أكثر من الفساد المالي. ويتمثل الفساد المالي والإداري التقليدي في العديد من المجالات منها، إزدياد عدد حرس المنشأة النفطية من 3 ألاف إلى أكثر من عشرين ألف خلال سنتين (رغم أن معظم حقول النفط مقفلة)، وإزدياد نفقات رواتب الموظفين بالدولة من 12 إلى أكثر من 22 مليار دينار خلال سنتين، والفساد المالي في الملف الصحي أيام المجلس الإنتقالي، وما تتناقله الأخبار حول صفقة جواز السفر الليبي، وهو فساد محدود بسبب عدم توقيع عقود تنمية جديدة. ورغم أن الغنى نسبي إلى حد كبير فليبيا ليست غنية بكل المقاييس، فهي ذات دخل وحيد هو النفط، والذي يقدر ب 66 مليار دينار سنويا ؛ 51 مليار دولار (59 مليار دينار سنة 2013) هذه الميزانية تحتوي على مرتبات 20.7 مليار، ودعم محروقات ومواد غذائية 10.6 مليار دينار، و 10.66 مليار مصروفات تسيرية، أي أن ثلتي الميزانية مصروفات غير تنموية. هذه الميزانية لو وزعت على أفراد الشعب الليبي بلا خدمات ولا تنمية سيكون نصيب الفرد 37 دينار يوميا فقط، وهو مبلغ كبير إذا ما قورن بدول فقيرة مثل تشاد ومالي والصومال، ولا قيمة له إذا ما قورن بدول العالم الثاني. إن مقارنة الدخل الوطني الليبي مع دول مناظرة لها في عدد السكان يوضح مدى تهافت نظرية أن ليبيا دولة غنية، فمثلاً سنغافورة (4 مليون نسمة) 220 مليار دولار، الكويت (1 مليون) 148 مليار، الدنيمارك (5.5 مليون نسمة) 310 مليار دولار، والدخل الليبي يمثل ثلث ميزانية هونكنج، و4% من دخل إيطاليا. ويمكن إجمال المختنقات الإقتصادية في ليبيا والتي يجب معالجتها جدياً دون مواربة أو إستغلالها لمكاسب سياسية إلي ما يأتي: 1. تدني مستوى الإنتاج. 2. بطالة مقنعة مخيفة. 3. الدعم الكبير للمحروقات وللسلع الغذائية دون جدوى. 4. التهرب الجماعي من سداد مقابل الخدمات ومن الضرائب. 5. إعتماد كامل على العامل الأجنبي. 6. إنعدام سلطة الدولة على المؤسسات. 7. إنعدام الأمن والأمان، مقابل جرعة زائدة من الحرية. نقلا عن صحيفة " الوطن" الليبية