ترجمة: د. علي محمد سليمان لقد اجتاحت حمى هاري بوتر العالم، بشكل جعل هذا الكتاب ومؤلفته ج ك رولينغ ظاهرتين غير مسبوقتين في عالم الأدب والكتب. لم يعد مفاجئاً أو حتى مهماً الإشارة إلى عدد النسخ التي طبعت من هذا الكتاب في أجزائه المتتابعة كموجات تكتسح السوق وبيوت ومكتبات الأطفال والبالغين على السواء، فقد تجاوز عدد النسخ الحد الذي يمكن رصده وقراءة دلالاته بشكل واضح. عشرات الملايين من النسخ بطبعات وبلغات مختلفة ولكن الجديد على صعيد الأرقام، أن الكاتبة وهي تتهيأ لإصدار الجزء السابع من هذا الكتاب، قد أحرزت رقماً قياسياً فيما حققته من مردود مادي من كتابها. لقد تجاوز ريع مبيع كتابها المليار دولار، وهي بهذا أول من يصبح مليارديراً اعتماداً على الكتابة فقط. لقد احتل كتاب هاري بوتر حياتي على مدى ثلاث سنوات، حيث كانت قراءته إحدى الواجبات الأبوية تجاه ابنتي ذات العشر أعوام، كنت أقرأ لها هذا الكتاب في تتابع صدور أجزائه، وكم منحتني راحة وشعور بالخلاص، عندما قاطعت قراءتي فجأة وسألتني: هل نحن مضطرون حقاً لقراءة هذا الكتاب؟ ومنذ ذلك السؤال توقفت عن واجب قراءة هاري بوتر وأنا سعيد لهذا. لكني ما زلت أرى حولي حمى هاري بوتر تتفشى ليس بين الأطفال فقط، بل بين البالغين أيضاً، لقد أصبح الكثير من البالغين الناضجين فكرياً ينكبون بنهم على قراءة كتاب ج. ك رولينغ. وتتوقع إدارة ووتر ستون أحد أكبر مسوقي الكتب في بريطانيا، أن الجزء السابع من هاري بوتر المتوقع صدوره قريباً سيكون مقروءاً من قبل البالغين أكثر من الأطفال، وتأكيداً لهذه التوقعات فقد أصدر الناشر البريطاني لكتاب رولينغ طبعة خاصة بالبالغين. ما الذي فعله هاري بوتر بثقافتنا؟ هل حقاً أن حمى هذا الكتاب التي اجتاحت العالم هي مؤشر على عودة رومانسية إلى عالم الطفولة، أم أنها عارض خطير من أعراض المراهقة الثقافية، يبدو الأمر مثيراً للقلق أكثر من كونه نزعة رومانسية، إنه بلا ريب مراهقة ثقافية وصلت إلى حد مرضي، إن الناس في الولاياتالمتحدة الآن لا يقرؤون وكل ما يفعلونه هو التلصص على كتب أطفالهم. وتشير إحصائيات المركز القومي للفنون إلى أن نصف البالغين لن يقرئوا أية رواية هذا العام، لا أحد سيقرأ ولقد تضاعف هذا التراجع ثلاث مرات خلال العقد الأخير ورغم أن إحصائيات واستطلاعات من هذا النوع أصبحت مألوفة في الفترة الأخيرة، إلا أن الأرقام تبقى مثيرة للصدمة،إنه موت القراءة في ثقافتنا، وليست حمى هاري بوتر إلا من أعراضه ومقدماته. فكيف إذاً يحقق كتاب واحد مثل هاري بوتر ذلك الإنتشار غير المسبوق؟ وكيف يصل عدد قرائه إلى مئات الملايين في عصر تتراجع فيه ثقافة القراءة؟ ربما إغراق العالم بموجة عارمة من الهستيريا التسويقية، لا يساعد في إنجاز أي فعل تأملي مستقل وفردي من النوع الذي تتطلبه العلاقة الجدية بالكتاب وتؤدي إليه. لقد أصبحت ثقافة القراءة محكومة بتلك الهستيريا الجمعية. فمع صدور كل جزء من كتاب هاري بوتر، يندفع القراء ليس فقط في حركة صاخبة من الحماس والترقب، بل أيضاً في حركة جمعية تتلاشى فيها الفوارق الفردية بين القراء، فيصبحون كائنات متشابهة. وبفضل تقنيات النشر الحديثة ووسائل الإعلان والتسويق، يمكن لعدة ملايين من البشر شراء جزء من هاري بوتر في يوم واحد، هناك شيء مخيف حول هذا النمط من التزامن والوحدة الجمعية. إنه شيء لا يمت بصلة إلى تلك المتعة الفريدة في تجربة قراءة رواية أو إلى تلك الفرصة النادرة التي تمنحها القراءة للخروج من علاقة التشابه مع العالم في تجربة حميمية، متفردة وخاصة. إنه شيء لا يمت بصلة أيضاً إلى تلك العلاقة التي تنشأ بين فردية القارئ وبين صوت الكاتب على مدى ساعات والتي تبحث عن فضاء خاص دون صور أو رموز إعلامية متداولة ودون قصد من رولينغ، أصبحت قراءة هاري بوتر تجربة تشابه في كثير من النواحي العلاقة مع وسائل الإعلام السائدة. إن تجربة القراءة هذه تتوقع من القارئ أن يتقبل دوره كمستهلك لمادة ثقافية تبث بكثافة، من دون أي تدخل للخصوصية الفردية في اختيارها أو تذوقها، وفي غياب أي معيار أو حساسية تحدد أين وكيف نبحث عن ما نقرأه. ليس من المفاجئ أن يتجه معظم الناس الذين يريدون قراءة الأدب إلى العناوين القليلة المثبتة في قوائم الكتب الأكثر مبيعاً والتي ينكب الجميع على قراءتها والحديث عنها. وفي سياق الحديث عن تأثير آليات السوق في عادات وثقافة القراءة، يشير الناقد كريس أندرسون إلى أن آليات التسويق والتوزيع الجديدة ستؤدي إلى كسر الاحتكارات الكبرى في عالم الكتاب، ربما كانت هذه رؤية متفائلة، لكن في الواقع ما زالت الرؤوس الكبرى هي التي تحكم عالم النشر والتوزيع. ومثل الكائن الخرافي الذي يخيف الطلاب في الجزء الثاني من كتاب رولينغ، يستولي هاري بوتر وعدد قليل من الكتب الأخرى على كامل انتباه وطاقة القراء، حيث يتركهم مستنفذين غير قادرين على قراءة شيء آخر. وفي سياق تأثير آليات السوق والتوزيع على ثقافة القراءة، نشير إلى دراسة هامة أجراها آلان سورنسون في جامعة ستانفورد. تشير هذه الدراسة إلى أن نسبة 70% من مبيعات الكتب الأدبية عام 1994، تعود إلى خمسة مؤلفين فقط، وفي الحقيقة ليس هناك ما يدعو إلى القول إن المشهد قد تغير. وكما يقول ألبرت غريكو الباحث في معهد أبحاث النشر: «الناس الذين يقرؤون أدباً يتجهون دائماً إلى الأعمال المشهورة والتي تحتل غالباً قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، والتي تعود إلى مجموعة ثابتة ومتكررة من المؤلفين، وهكذا فإننا نعيش المعادل الأدبي لظاهرة فقدان التعددية الحيوية». إن مشهد أولئك الناس الذين يتجولون، حاملين رواية من 800 صفحة، يوحي أن ثقافة القراءة بخير في الولاياتالمتحدة. لكن المشهد يبدو في جوهره شبيهاً بغابة كثيفة لا تحتوي إلا نوعاً واحداً من الشجر، منذ أن اقتحم هاري بوتر حياتنا منذ عقد مضى، انخفضت عدد الصفحات الخاصة بنقد ومراجعة الكتب في الصحف الكبرى إلى النصف، ما أدى إلى تهميش أصوات نقدية هامة، كانت تساهم في لفت النظر إلى الكثير من الأدباء والأعمال الأدبية الجديدة الهامة. إن معظم القراء البالغين، الذين أخبروني أنهم يحبون هاري بوتر، لم يحدث أن جربوا قراءة أعمال تضاهيه في الجمالية والحساسية مثل "جوناثان الغريب" لسوزانا كلارك أو "مواده السوداء" لفيليب بولمان. وماذا عن العديد من الكتب الخيالية الأخرى التي تتمتع بقيمة أدبية تتفوق على كتاب رولينغ والتي تعد القارئ بعوالم لا يحلم هاري بوتر بها؟ ولماذا هاري بوتر وحده يجتاح عالمنا ليجعل من ثقافة القراءة تجربة هستيرية من الاستهلاك الجماعي التي تذوب فيها كل الخصائص الفردية والحميمية لتجربة القراءة الحقيقية المنزهة عن آليات السوق؟ إن ظاهرة هاري بوتر أزالت الفارق الضروري بين القراءة والاستهلاك الإعلامي. فما الذي يتبقى من تجربة القراءة إذا فقدت فرديتها ومغايرتها للسائد، وتحولت إلى سلوك جمعي تحرضه آليات الدعاية والسوق والإعلام؟ وهل يوحي هذا المشهد بنبوءة قاتمة، هي موت القراءة في ثقافتنا؟ ربما أصبحت قوانين وآليات الاستهلاك الثقافي في عصرنا من التعقيد، بحيث لم يعد بالإمكان التحكم بها بواسطة أدوات الإبداع الفردي التقليدية. لم تعد تلك الآليات معزولة عن حركة السوق، بل يبدو أنها قد أصبحت جزءاً منه، لا يبدو في كل هذا ما يدعو إلى التفاؤل، لكن من المؤكد أن الأدب الجيد يحمل قيمته في داخله، وليس في أي مكان آخر، إنها أخيراً مسؤولية القارئ في الاختيار وفي ممارسة الحرية في القراءة. نشرت هذه المقالة في صحيفة واشنطن بوست الأمريكية 31 - 7 -2007