إجراءات صارمة بعد فيديو السخرية من مدرسة الإسكندرية    اليوم، ضعف المياه عن 10 قرى بالأقصر بسبب انقطاع الكهرباء عن محطات العديسات    أوتاوا ترفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب    بث مباشر.. ليفربول يواجه ليدز يونايتد في معركة مصيرية للبريميرليج الليلة    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى مدينة 6 أكتوبر دون إصابات    كشفتها الأجهزة الأمنيةl أساليب جديدة لغسيل الأموال عبر المنصات الرقمية    عائلة أم كلثوم يشاهدون العرض الخاص لفيلم "الست" مع صناعه وأبطاله، شاهد ماذا قالوا (فيديو)    ملامح خريطة دراما رمضان 2026    في ذكرى رحيله.. «واحد من الناس» يحتفي بعمار الشريعي ويكشف أسرارًا لأول مرة    منتخب مصر في كأس العالم 2026: مواعيد وأماكن المباريات    «آخرساعة» تكشف المفاجأة.. أم كلثوم تعلمت الإنجليزية قبل وفاتها ب22 عامًا!    آمال ماهر تتألق بأغانى من السنة للسنة ولو كان بخاطرى فى مهرجان الفسطاط.. صور    الداخلية تكشف حقيقة تغيب فتاة الشرقية وتحدد مكانها خلال ساعات    إعلام فلسطيني: طيران الاحتلال الإسرائيلي يستهدف شرق مدينة غزة    مصر والإمارات على موعد مع الإثارة في كأس العرب 2025    رغم العزوف والرفض السلبي .. "وطنية الانتخابات" تخلي مسؤوليتها وعصابة الانقلاب تحملها للشعب    عاجل.. صدام قوي بين الجزائر والبحرين اليوم في كأس العرب 2025 وتفاصيل الموعد والقنوات الناقلة    بوتين: نسعى لعالم متعدد الأقطاب للحفاظ على هوية الدول واحترام سيادتها    «تصدير البيض» يفتح باب الأمل لمربي الدواجن    حفل توقيع كتاب «حوارات.. 13 سنة في رحلة مع البابا تواضروس» بالمقر البابوي    عمرو مصطفى وظاظا يحتلان المرتبة الأولى في تريند يوتيوب أسبوعًا كاملًا    بدائل طبيعية للمكمّلات.. أطعمة تمنحك كل الفائدة    قائمة أطعمة تعزز صحتك بأوميجا 3    قائمة بيراميدز - عودة الشناوي أمام بتروجت في الدوري    منافس مصر - مدافع نيوزيلندا: مراقبة صلاح تحد رائع لي ومتحمس لمواجهته    خبير اقتصادي: الغاز الإسرائيلي أرخص من القطري بضعفين.. وزيادة الكهرباء قادمة لا محالة    شاهد لحظة نقل الطفل المتوفى بمرسى المعديات فى بورسعيد.. فيديو    أيمن يونس: منتخب مصر أمام فرصة ذهبية في كأس العالم    اليوم.. محاكمة عصام صاصا و15آخرين في مشاجرة ملهى ليلي بالمعادي    منافس مصر – لاعب بلجيكا السابق: موسم صلاح أقل نجاحا.. ومجموعتنا من الأسهل    النائب عادل زيدان: التسهيلات الضريبية تدعم الزراعة وتزيد قدرة المنتج المصري على المنافسة    كندا ترفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب    الأردن يرحب بتمديد ولاية وكالة الأونروا حتى عام 2029    رويترز: تبادل إطلاق نار كثيف بين باكستان وأفغانستان في منطقة حدودية    محمد موسى يكشف كواليس جديدة عن فاجعة مدرسة «سيدز»    «بيصور الزباين».. غرفة تغيير ملابس السيدات تكشف حقية ترزي حريمي بالمنصورة    نتنياهو بعد غزة: محاولات السيطرة على استخبارات إسرائيل وسط أزمة سياسية وأمنية    وفاة عمة الفنان أمير المصري    عالم مصريات ل«العاشرة»: اكتشاف أختام مصرية قديمة فى دبى يؤكد وجود علاقات تجارية    تفاصيل مثيرة في قضية "سيدز"| محامي الضحايا يكشف ما أخفته التسجيلات المحذوفة    "بيطري الشرقية" يكشف تفاصيل جديدة عن "تماسيح الزوامل" وسبب ظهورها المفاجئ    أزمة أم مجرد ضجة!، مسئول بيطري يكشف خطورة ظهور تماسيح بمصرف الزوامل في الشرقية    مسئول أمريكى: قوة الاستقرار الدولية فى غزة قد تُصبح واقعًا أوائل عام 2026    تباين الأسهم الأوروبية في ختام التعاملات وسط ترقب لاجتماع الفيدرالي الأسبوع المقبل    رسالة بأن الدولة جادة فى تطوير السياسة الضريبية وتخفيض تكلفة ممارسة الأعمال    الصحة تفحص أكثر من 7 ملايين طالب ضمن مبادرة الرئيس للكشف المبكر عن الأنيميا والسمنة والتقزم بالمدارس    دعاء الرزق وأثره في تفريج الهم وتوسيع الأبواب المغلقة وزيادة البركة في الحياة    بيل جيتس يحذر: ملايين الأطفال معرضون للموت بنهاية 2025 لهذا السبب    وزارة الداخلية تحتفل باليوم العالمي لذوى الإعاقة وتوزع كراسى متحركة (فيديو وصور)    القاصد يهنئ محافظ المنوفية بانضمام شبين الكوم لشبكة اليونسكو لمدن التعلم 2025    عضو الجمعية المصرية للحساسية والمناعة يوضح أسباب تفشّي العدوى في الشتاء    كيف أتجاوز شعور الخنق والكوابيس؟.. أمين الفتوى يجيب بقناة الناس    «الطفولة والأمومة» يضيء مبناه باللون البرتقالي ضمن حملة «16يوما» لمناهضة العنف ضد المرأة والفتاة    لتعزيز التعاون الكنسي.. البابا تواضروس يجتمع بأساقفة الإيبارشيات ورؤساء الأديرة    خشوع وسكينه....أبرز اذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    استشاري حساسية: المضادات الحيوية لا تعالج الفيروسات وتضر المناعة    كيف تُحسب الزكاة على الشهادات المُودَعة بالبنك؟    ننشر آداب وسنن يفضل الالتزام بها يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد مرور زمن على ثورة يوليو المصرية (1) / سيد الرحبي
نشر في محيط يوم 09 - 09 - 2009

إنه زمن الثورة والمشاريع والأحلام. زمن الحشود والجماعات التي لا يجد الفرد موطئ قَدَم إلاّ تحت رايتها واسمها وإطارها. زمن الإلتحام بين الشارع والنظام محمولين على بهاء الحلم السعيد نفسه. الزمن المنعطف الذي تغلي كل عناصره وحيواته في مرجل الثورة الكبير، على امتداد الساحة العربيّة لتعيد وحدة الهويّة الممزّقة، وعلى مستوى العالَم بأكمله، حيث الأمم المضطهدة يُوَحدُها حلم العدالة والتحرر ضدّ عدو بالغ الوضوح ومطلق الشرّ؛ تغلّفها نفس الرموز والطقوس والأناشيد المحتشدة في الحناجر والساحات العامّة والأزقّة المظلمة في الأماكن السريّة، أوكار الحالمين التي يُطْبَخ في عَتَمَتها أمل المستقبل القادم الذي لا يطاله الشك في الجوهر والتفاصيل..
الزمن الذي كانت فيه صور الزعماء الثوريين والشهداء ورموز التحرير من جمال عبد الناصر ولينين حتى لومومبا وهوشي منه وكاسترو وغسان كنفاني وجيفارا غزّة ذي العين المفقوءة في مصانع التعذيب. وجيفارا اللاتيني بسيجاره المتدلّي دائما كعلامة على القلق والتفكير، والذي كنّا نقلّده بشفط علب الكليوباترا، لأننا بالطبع لا نملك مثل ذلك السيجار الأنيق، الذي سيكون حَكْرَ البورجوازيّة الطفيليّة القادمة، والتي كانت تحبل بها الثورات والانقلابات على النمط القديم وأسوأ منه... كانت صور الزعماء والرموز الكُثْر تحتلّ مسرح النجوميّة بالكامل بحيث يتراجع إلى مؤخّرة المسرح نجومُ السينما والفنّ الذين لم يكونوا إلاّ قلّة تحظى بتقدير العوام ومن لم ينعم بقيم الثورة، إلاّ من أتى منهم دوراً وطنيّاً مشرّفا يرفع عنه وصمة الفنّ الهابط في ذلك الزمان الذي لم يشهدْ بعد هذا الانفجار الهائل لتكنولوجيا الإعلام فيفرّخ ويكرّس هذا الكمّ المخيف من التفاهة والإنحطاط.
كان أهل الفنّ مغلوبا على أمرهم أمام تلك العلامات والطواطم الشامخة، وسط هتاف الجماهير الواقعيّة والمتخيّلة عبر الصراط المستقيم للخطاب الثوريّ الصاخب نحو إنجاز الوعد المستقبليّ. كان الركب برمته يهتف من حنجرة واحدة بذلك الاسم الغيبيّ الملغز والغامض في حقيقته البعيدة، لكنه الأكيد الواضح أيمّا وضوح، في ذلك الخطاب وفي مخيّلات النّاس وأحلامهم.
هل كانت تلك الفترة نوعا من هدنة مريحة منحها التاريخ لأبنائه البائسين في واقعهم، نوعا من منام في الخطاب واللغة، ليستيقظوا بعده على كابوس مرهق هو الحقيقة الداخلية التي تمور بها أحشاء الوقائع والتاريخ؟
عام جنازة الزعيم: أو البدايات
أراني في هذا المنحى أبدأ من مشارف النهاية وتخومها وكأنني أمام شريط سينمائي من ذلك النوع الذي تظهر فيه كلمة (النهاية) على الشاشة في بداية سرده الفاجع. النهاية أو النهايات التي ربّما تشرّع نحو الولادات والإنبعاث أو نحو الفناء والإمّحاء. إنه ليس شريط ثورة يوليو وأحداثها الإنقلابيّة الجسيمة فحسب، فلربما هو شريط التاريخ البشريّ وسيرته في السياق العام وسيرة الطبيعة وسنّتها. لكن الأحداث وولاداتها وتفجّراتها الأولى لابد أن تختلف من مكان وزمان ومن حدث إلى آخر. ومن هنا يأخذ تاريخ الجماعات والأفراد والآداب، تلك التمايزات والإختلافات التي تمنح الواقعة التاريخية والأدبيّة منطقها الخاصّ وذلك الألق في التفاصيل والخصائص، قِوَام كل أدب وكل تاريخ.
فما أريد قوله ليس مقالا فكريا وسياسيّاً حول ثورة يوليو وجمال عبد الناصر، وإنما هواجس لا تتعدّى الرؤية الشخصيّة البسيطة التي تتوسّل خيط رواية متاخمة على نحو طفوليّ (من الطفولة)، وطُلابيّ لذلك الحدث الجسيم في تاريخ الأمة.. أنا القادم من الطرف الأقصى للذاكرة العربية بطفولة وأحلام بدئيّة غائمة تجاه الأدب والثورة وجمال عبد الناصر على وجه الخصوص.
كانت أول صورة شاهدتها لزعيم سياسيّ هي صورة جمال عبد الناصر المعلّقة على جدار غرفة شبه معتمة ببيت جارنا في القرية، فلم يكن الوالد يسمح باقتناء وتعليق الصور البشريّة وغيرها من ذوات الأرواح لأسباب عقائدية ومذهبيّة. كانت صورة الزعيم كما أراها في ذلك العمر الموغل في الزمن ملونة على نحو كثيف، مما جنح بخيالي في أن تكون صورته الواقعية هكذا بالتمام والكمال من غير التلوين الفني الطارئ على الأصل ذي البشرة السمراء الفاتحة التي قُدت هيئتها من سلالة فرسان غابرين.
كانت الصورة المعلّقة بجوار صورة البراق المجنحة، تمارس سحرها وجاذبيّتها من غير حدود على الصغار والكبار. وبغياب التلفزيون الذي يحدّد أبعاد الصورة ويقزّم دور الخيال، يمكن للصورة الفوتوغرافية المشتبكة مع دويّ الخطاب الإذاعي لِ(صوت العرب) أن تبسط هيمنتها وبطشها على الوجدان والمخيّلة وتجعل هذه تشطّ في فضاء أسطوريّ من البطولات وتنتقم لحاضرها المكسور.
وكانت أول ذكرى لكلام في السياسة ولاسمٍ سياسي، خارج الحروب والبطولات في تاريخ بلدي (عُمان) هو التصاق نثار كلام لا قِوام له، لكنه بالغ الإشراق في ذاكرتي، هو إصغائي لأحاديث القوم إثر هزيمة حزيران 76 وسطوع اسم جمال عبد الناصر في وعيي المبكّر. كان أهل تلك القرية الثاوية بين جبال تشبه جبال القمر وطبيعته الموحشة يتحدّثون كَمَنْ لا يتحدّث عن هزيمة أو انكسار. كانت المسألة بالنسبة لهم معركة مؤقتة ارتكبت فيها بعض الأطراف خيانات مباغتة في حقّ الزعيم عبد الناصر الذي سيردّ الهزيمة بهزائم ساحقة للعدوّ وسينظّف الأرض العربية منهم. كانوا يتحدّثون كمن يتأهب للقتال في اليوم التالي في جيش لا أوّل له ولا آخِر، وكان جَيَشَانُ العاطفة الصادقة والبحث عن المثال البطوليّ المُفْتَقَد، يذهب بهم إلى اعتبار عبد الناصر ومصر الأقوى في العالَم الراهن، لكنها القوة الخفيّة التي لا تظهر دفعة واحدة، والمعركة مازالت في بدايتها.
كانت تلك الأجواء الحماسيّة التي تخلط الواقع بالخرافة، حتى لا يبقى من الأول إلاّ ظلّه البعيد. ولا أخال القرى والدساكر العربيّة وحتى المُدن، إذ يَضِيقُ الفرقُ بينها عربيّاً على صعيد الوعي هي الأخرى إلا على هذا المنوال وعلى شاكلته..
بعد ثلاثة أعوام على هذا المشهد المحتدم بالظلام والمتناقضات، قدمتُ إلى القاهرة التي غذّت أسطورتها في خيالي، أحلام يقظة ومنام لم يهدأ أَوَارُهَا إلاّ بهذا المجيء المبكر بالنسبة لي، لهدف واضح هو الدراسة، وهاجس خبيء هو الفضول والمعرفة. ولا أتصوّر أنّ هناك لَبْساً في التعارض بين المدرسة العربيّة والمعرفة.
كان العام الذي رحل فيه الزّعيم عن عالمنا، ليبقى ظل أسطورته يحتلّ الأفئدة من مكانه الآخر ويمارس سطوته. كانت القاهرة التي قدمتُ إليها ما زالت مفْعَمة بحضور غيابه الكبير وصورته.
كانت الجنازة التي حملتها الحشود على القلوب والأكتاف تطبع مصر والأرض العربيّة بطابع هذا الرحيل المفاجئ، الذي خلق الحيرة والشكّ في استمرار نهجه ومراميه. فثمة في الأفق القاتم لهذا الرحيل ما ينبئ بعكس ذلك. ثمة علامات شؤم تتناقلها الألسن والصحف والمنتديات.
كنتُ، وأنا أعبر ميدان التحرير، دائما أستعيد مشهد الجنازة الأسطوري. وأسطوريّة هذا المشهد الجنائزيّ ليس من باب الترميز والاستعارة بقدر ما هو تسجيليّ في واقعيّته. فالجماهير العربيّة من المحيط إلى الخليج، كانت تحمل النعش بقلوب مكلومة ودموع حرّى، وكأنما تحمل الأمل الأخير الذي احتضنته بعواطفها بعد طول شقاء وغياب. وطريق التحرير- منشيّة البكري حيث ينام الزعيم ليست إلاّ تلخيصاً مكثّفاً لما تموج وتحتدم به أرض العرب بأرجائها الفسيحة الثكلى بهذا الإختفاء الصاعق. كما كان جمال عبد الناصر، الرمز المكثف الذي انطوى في شخصيته الكاريزميّة، العالَم الأكبر، بالنسبة لها، الثورة والكبرياء، ونهضة العرب الحديثة على نمط الأبطال التراجيديين الذين شكّلوا مفاصل التاريخ الجديد لشعوبهم والعالم. لكن عبد الناصر كان بطلاً مأساويّاً أكثر مرارة وغصّة من أبطال المآسي الإغريقيّة وغيرها. فلم يَعُد المقاتل إلى داره بعد سلسلة المآسي والإقتلاعات، ولم يتحقّق شيءٌ على الأرض إلاّ قليله الذي تَلاشَى بسرعة أو كاد في خضمّ العواصف التي حطّمت السفن والأحلام قبل أن تبحر نحو البعيد.
وعي الجماهير
إذا كان وعيُ الجماهير العربية المندفعة والفطريّة على ذلك النحو البريء الذي ظلّ وراء الزعيم والأحلام حتى في الهزائم والنكبات، من غير مساءلة ولا حتى مجرّد الشك في طبيعة المسيرة التاريخية ونتائجها، التي يَتَنَكبُها خطاب الزعيم بمظاهره المختلفة. أي ظلّ ذلك الوعي بمستواه الخرافي من غير أن تعكّر صفوَهُ شائبة، فإن وعي النخبة السياسيّة والثقافيّة والطلاّبيّة، أصابَه الكثيرُ من الشوائب والتصدّعات، باستثناء ما دُعِي بالخطّ الناصري، وحتى هذا الخطّ لم يقتفِ حرفية الخطاب السابق. صار منفتحاً على آفاق ومتغيّرات أخرى، وهو الانفتاح الذي بدأه عبد الناصر بالكثير من الحنكة والحسّ السياسيّ الرفيع. الهزيمة الحزيرانيّة كانت الصدمة التي مزّقت تماسك ذلك النصّ القومي وفككت أوصاله باتجاه تبنّي مسارات سياسيّة وفكريّة أخرى، في طليعتها الماركسيّة على غير النهج التقليدي للأحزاب الشيوعية، وكذلك تيار الإخوان المسلمين. هذان التياران اللذان حَاوَلاَ تقاسم ميراث العواطف الناصريّة واستقطابها بشكل متوازٍ ومتقاطع يصل حدّ الصدام والتصفية أحياناً وهو الأمر الذي استثمره الرئيس أنور السادات لِصالح استمرار تفرّد نهجه السياسيّ في السلطة.
كان مطلع السبعينيات، ومنذ عام جنازة الزعيم يموج بالتنظيمات والرؤى ذات المنحى الماركسيّ اللينينيّ في الحركات الطلابيّة العربيّة، ولا نغفل طبعاً، التروتسكيّين والماويّين، وهو النهج الذي تبنّتْهُ قيادة اليَمَن الجنوبية وامتداداتها السياسيّة آنذاك قبل أن تنتقل إلى ثكنات اليسار الكبرى في الإتحاد السوفييتي. التيار الماويّ، وكتب (ماو تسي تونغ) ذات الأغلفة الحمراء والموجهَة أصلاً إلى الفلاّحين والشغيلة في الصين، كانت هي الغالبة، خاصّة للطلبة المبتدئين من الخليج والجزيرة العربية قبل الإنتقال إلى كتب ذات طابع سجاليّ فلسفيّ بالمعنى التبسيطيّ الذي سوّقه قادَةُ الأحزاب الشيوعيّة، للفلسفة الماديّة التي ستقود البروليتاريا إلى انتصارها الحتمي مثل كتاب (الماديّة الجدليّة والماديّة التاريخيّة) و(الأدب والمجتمع الطبقي).
كانت تلك الكتيبات ذات الطابع التوجيهيّ في التلقين والحفظ، هي التي تهيمن على الحلقات والجلسات. ومن هديها يستمدّ الطلبة ضوء النظَر والسلوك في تحليل أوضاع بلدانهم الاجتماعية والثقافيّة. رغم أنها كُتِبَت حول أوضاع تفصلنا عنها فوارق فلكيّة في التركيبات الإجتماعية والإقتصادية. حتى لتبدو المسألة المطروحة في ضوئها محض دعابة لامرجعيّة تحليل جديّ ورغبة تغيير، مثلها مثل تطور اليمن الجنوبي وكوبا وتقدمهما على سويسرا وفرنسا وفق معايير التمرحل الماركسي للتاريخ. لكنه الإيمان الطفوليّ لليسار الباحث عن مُثُل وشخصيّاتٍ وأفكار تحتذى وتقلّد أطرف تقليد وأقصاه... في تلك الأجواء المصحوبة بمراهقة جنسيّة صحراويّة كاسرة، لكنها مكبوتة تحت سقف السياسة وهوامّها. (الزّميلات)، مثلاً، يجب عدم إقامة أيّ اتصال جسديّ معهنّ، أو حتى غزل يخرج عن المبادئ الفكرية الثائرة، على جاري طهرانيّة ثوريّة تعويضيّة في حركات اليسار الجديد. طهرانيّة لم تختبر الحياة والأفكار بعد.
رغم هيمنة المناخ الماركسيّ ذي المنشأ القومي، لا أذكر، أن هناك من يجرؤ على التعرّض بسوء إلى الزّعيم الراحل، أو التشكيك في نزاهته. كان النقد يتناول دائما مجمل عناصر ثورة يوليو وبنياتها العسكريّة التي لا تؤهلها للقيام بأهداف الثورة الجذريّة، التي لابدّ أن تتحقّق في أفق الوعي الماركسيّ وأحضان رؤياه الشاملة والكليّة للمجتمع والتاريخ والأدب وطريقة الأكل والحلاقة.
(هناك حكاية تُرْوَى، كيف يُرتب "لينين" ذقنه وشاربيه في الصباح)
هذه الرؤية النقدية ذات النّزوع الماركسيّ الهلاميّ بمختلف تفرّعاته، هي بداهة سليلة الرؤى والمواقف السوفييتيّة منذ بداية حركة الضباط الأحرار وانعكاساتها على الحركة الشيوعيّة العربيّة والمصريّة منها. رغم أن حركة (حدتو) التي كانت تملك وجوداً في المجتمع العسكريّ والمدنيّ والتي تعاونت بشكل عميق مع حركة الضباط وجمال عبد الناصر، تعرّضت لانتقادات من قبل السوفييت وتجلياتهم الماركسيّة في العالَم العربيّ.
في هذا السياق يستتبّ سؤال الخيار الأيديولوجي والفكريّ الذي تبنّته حركة يوليو كنهج عملٍ ضمن الاتجاهات المتلاطمة في تلك المرحلة. هناك آخرون، دولا وحركات، حسموا هذا الخيار باتجاه الإشتراكية العلمية، ومثيلتها القومية والرأسمالية وما يشبهها.. إلخ. لكن إشكاليات التخلّف والتقهقر الحضاريّ ظلت عميقة في بنيات الحياة والمجتمع!!
جمال عبد الناصر وبعض زملائه خبروا في مطلع شبابهم وأحلامهم أكثر من خيار واتجاه، من حركة الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنّا، والدخول في إطارها التنظيميّ لفترة قصيرة دفعت بعبد الناصر إلى التوجّس والريبة حتى القطع النهائيّ، حين اكتشف بحدسه العميق أن هذه الحركة تعمل على تحويلهم إلى أدوات لأهدافها في الاستيلاء على السلطة. حتى الحركة الشيوعيّة (حدتو) كما سبق، حركة التحرير الإشتراكيّة التي أعجب بها عبدالناصر وخالد محيي الدين وآخرون، كاتجاه فكري تحرّري، وأعجب بسكرتيرها العام (الرفيق بدر) تلك الشخصيّة الغامضة والمدهشة، حسب وصف محيي الدين لها. لكن هذا الإعجاب لم يبرح أن يتحوّل إلى نوع من الاحتقار حين عرف عبد الناصر، أنه عامل ميكانيكي (لم يكن يدرك أن المستقبل للميكانيكيين). لكن إعجابه بفؤاد كامل بقي وبقيت أواصره مع الحركة أواصر جذر ومصير حتى انتصار الثورة والانقضاض على رفاق الأمس والتنكيل بهم في السجون التي ورثتها الثورة من العهد السابق.
وهي عادة أصبحت نمطيّة من فرط تكرارها في تاريخ ثورات العالَم بأكمله. حيث تندفع رغبة الجناح الواحد أو الفرد الواحد في الاستحواذ على السلطة الكليّة، ليس باتجاه افتراس حلفاء الأمس واستئصال شأفتهم، وإنما تجاه أبناء الحركة أو الثورة نفسها باسم الاتجاه الصحيح وتصويب الانحراف في المعسكر الذي أصبح خصماً، لا عدالة من غير فضحه وتدميره تدميراً لا هوادة فيه، مثله مثل العدوّ والعميل. وفي تاريخ هذه الحركات والإنقلابات يتفوّق تمزيق الرفاق لبعضهم، تدمير العدوّ الذي من أجل دحره قامت الثورة والحركة.
هذه الإشارات إلى وقائع حول الخيارات الأيديولوجية والفكرية وتماسّها العميق مع حركة الضبّاط الأحرار والثورة والنظام الذي قذف بتهمة العسكرتاريا ولم يأتِ من الشارع والزقاق والقاعدة العريضة للجماهير، تحاول طرح السؤال الذي كان مطروحاً كاتهام من قبل أوساط يساريّة ويمينيّة، إن صحّت هذه الثنائيّة في الحالة العربيّة، كون هذه الثورة أهملت هويّة الفكر الواحدة وتبنّتْ خليط أفكار من الشرق والغرب وأهملت الحسم النهائيّ الذي يكمن فيه الحلّ السحريّ الناجع لوجهة الطريق والمسيرة! وفق ما هو متداول في تلك الفترة.
لكن سؤال الشكّ نفسه حول جدوى مثل هذه الهويّة شبه اللاهوتيّة، وهل ستكون كفيلة بانجاز "المشروع" الحضاري الشامل، أم أنّ هذا المشروع المحلوم به يقع في مكان آخر عصيّاً وبالِغ التعقيد، عبر قراءة وتتبّع خطى الأحداث والوقائع والثورات في التاريخ البشريّ، ماضيه وحاضره. هذا الحاضر الذي بيّن بقسوة ما آلَت إليه تلك الخيارات المُتَبَناة بمختلف مَشَارِبِها ومصادرها وأهوائها، من قبل دول بعينها، في مَا دُعِيَ بالعالَم الثالث من حروب أهليّة وفقر وقمع لا حدود لسقفها المتطاول والساحق لحياة البشر والطبيعة.
في سياق الطبيعة العسكريّة لثورة يوليو والنظام الناصريّ يمكن التساؤل حول طرح هذه الطبيعة أو الصفة على إطلاقها مثل حركات وانقلابات عربية وعالَم ثالثية كانت تجتاح تلك المرحلة، حيث لا يتصِف أصحابها بأي تكوين وامتداد مدنيّ في المجتمع. ولا شأن لهم إلاّ بالجنديّة والرتب والقيم العسكرية التي تربّت وشبّت عليها تلك الجيوش التي من مهام وجودها قمعُ المجتمع المدنيّ وبوادر نشوء تشكيلاته؟، فقادة يوليو الأساسيون خارطة وعيهم تشكّلت، في حضن المجتمع المدنيّ والعسكريّ على السواء، معظمهم انضمّ إلى أحزاب وهيئات مدنيّة لمدة تطول وتقصر وتلقّى تكويناً مدنيّاً مرموقاً.
إنها ليست عسكريّة بالمعنى النموذجيّ. وحصر عسكريّتها على هذا النحو ربما كان متعجّلاً وأدّى إلى تصوّرات ساهمت في تأجيج الخلاف والصدام مع الفئات المشاركة الأخرى.
هل كان الخلل في مكان آخَر غير الطبيعة العسكريّة المزعومة التي لا يمكن أن تُواكِب وتنجز "مشروع" التحوّلات الكبرى في التاريخ الذي يُمارِس مكرَه ومراوغته أحياناً بعيداً عن إرادات البشر وأحلامهم؟
الثورات الشعبية التي لم تأتِ من ثكنات العسكر لم تَلْقَ مصيراً أفضل، والسنوات الأخيرة من القرن الفائت قدمت الدليل الدامغ بعد الآخَر في جهات وجغرافيات مختلفة، على الإجهاض والفشل الذريع والارتطام بالأفق المسدود!
(يتبع حلقة ثانية)
** منشور بصحيفة "المستقبل" اللبنانية 9 سبتمبر 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.