انتفض كل ما في أعماقي من غيظ وغيرة وحنق، وأنا أقرأ تحذيرات ماريانو غاغو، وزير العلوم والتكنولوحيا البرتغالي. أواسط الشهر الماضي من خطورة استمرار ركود البحث العلمي الأوروبي منذ بداية الألفية الثالثة وتأكيده على ضرورة ان تستقطب معاهد ومراكز البحوث العلمية الأوروبية نحو نصف مليون باحث جديد، حتى تتمكن من تلبية طموحاتها في مجالات النمو المتعددة وبلوغ ما تصبو اليه من زيادة في معدلات التنمية التنافسية ضمن اقتصاداتها. وشدد الوزير البرتغالي على أهمية أن يبلغ معدل الاستثمار في البحث العلمي 2،6% من الناتج المحلي لكل دولة في الاتحاد مطلع العام 2010. وتساءلت يائساً: كم يبلغ عدد هؤلاء الباحثين في الوقت الحالي حتى قضت الضرورات دعمهم بنصف مليون وافد جديد؟ وهل يتوفر مثل هذا العدد المزمع إضافته الى ما هو موجود في مجمل الأقطار العربية؟ وكم تمثل نسبة الاستثمار في البحث العلمي من مجمل الناتج المحلي الأوروبي المقدر بتريليونات الدولارات؟ وبحسابات بسيطة تبين أن ما تنفقه دول المجموعة الأوروبية على البحث العلمي يفوق الناتج القومي للدول العربية مجتمعة. تقول احصائيات منظمة اليونسكو لعام 2004 أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي في مجمل الأقطار العربية ما زال في حالة يرثى لها مقارنة مع البلدان المتقدمة. إذ إنها تشكل نسبة 05،0% في أحسن أحوالها وتتدنى في بعض البلدان كسورية ولبنان وتونس الى 01،0%. في مقابل نسبة 3% وأكثر في جميع البلدان المتقدمة. وإذا علمنا ان مجموع ما تنفقه البلدان العربية لم يتعد 7،1 مليار دولار على البحث العلمي حسب الاحصائية الدولية المذكورة في مقابل 2،29 مليار دولار هو حجم إنفاق جامعة هارفادر السنوي وحدها لتبين لنا حجم الهوة الشاسع الذي يفصلنا علميا عن الغرب المتقدم. نقرأ أيضاً ان عدد أعضاء الهيئة التدريسية في مجمل جامعات الاقطار العربية لا يتجاوز 55 ألف مدرس ينتجون نحو خمسة عشر ألف بحث علمي في السنة أي أن معدل انتاجيتهم لا يتجاوز 03،0%. وهي بحوث نظرية في معظمها أو علمية لكنها غير مرتبطة بمتطلبات أسواق المال والأعمال وحاجات التنمية في البلدان العربية وأنها أجريت لأغراض تتعلق بترقية إدارية أو علمية لصاحبها في معظم الحالات. هل يفتقر العالم العربي الى مثل هذه الكفاءات حتى لا تبرز فيه أبحاث علمية جادة تلبي حاجاته التنموية والمجتمعية؟ يكفي أن نعلم بأن نحواً من عشرة آلاف عالم عربي من ذوي الكفاءات العلمية العالية يعملون في مختلف جامعات ومراكز البحوث العلمية في الولاياتالمتحدة الأميركية منذ عدة عقود من بين هؤلاء ثلاثون عالم ذرة عربياً يخدمون حالياً في مراكز الأبحاث النووية ويشرف البعض منهم على تصنيع وتقنيات الأسلحة الأميركية الموضوعة تحت الاختبار مثل الطائرة ستيلث 117 والمقاتلة ب2، وتي 22. كما يعمل نحو 350 باحثاً مصرياً في الوكالة الأميركية للفضاء «ناسا» وجميعهم تحت قيادة المصري الدكتور فاروق الباز الذي يرأس مركز الاستشعار عن بعد في الولاياتالمتحدة. أين تكمن المشكلة؟ في المجتمع العربي الذي ما زال يعاني من معدلات عالية في نسب الأميّة؟ أم في خطط التنمية العربية التي تعتبر البحث العلمي ترفاً وليس حاجة؟ أم في السياسات الاقتصادية التي تغفل مسألة الاستثمار في الانسان العربي وتركه فريسة سهلة للجهل والتخلف الفكري والثقافي والشعوذة والارتدادات السلفية الأصولية كي يبقى في حالة انفصال تام عن حركة الواقع والتاريخ؟ في حوار على مائدة الغداء في مطعم وسط العاصمة السويسرية بيرن سألت محامية كانت حاضرة أعمال إحدى الندوات العلمية معنا، صيف العام الماضي عن سر ثراء سويسرا رغم أن مساحتها لا تتجاوز 40 ألف كم مربع أي ما يعادل مساحة محافظة حمص تقريبا وعدد سكانها بحدود خمسة ملايين نسمة ومواردها الاقتصادية الانتاجية تكاد تكون محدودة لكن حجم ناتجها القومي يعادل مجمل انتاج العديد من الدول العربية النفطية. سألتها عن سر ذلك. فأجابت: سويسرا فضلاً عن العائدات الضخمة التي تحققها من نشاطها المصرفي المميز إلا أنها تستثمر في الانسان. أي في التعليم المتخصص بكل مستوياته وتفتخر بحيازتها على أعلى معدل من الخبرات في شتى مجالات العلوم والتكنولوجيا على مستوى القارة ** منشور بجريدة "تشرين" السورية بتاريخ 20 اغسطس 2007