أميركا والعراق واتفاق أمني لا يؤمن شيئاً د. إبراهيم عرفات تريد الولاياتالمتحدة أن تبرم قبل نهاية يوليو القادم اتفاقية أمنية مع الحكومة العراقية. يحدوها الأمل في إطار جديد يقنن تواجدها في العراق بدلاً من التفويض الذي تمنحه لها الأممالمتحدة كل ستة أشهر، والذي لم يعد من السهل تمديده. وتبدو اللهفة واضحة على واشنطن. إذ تسعى إلى إنجاز الاتفاق قبل انتخابات الرئاسة في نوفمبر القادم. ولهذا فقد أعدت في يناير الماضي مسودة لتلك الاتفاقية كي تكون أساساً للتفاوض مع الحكومة العراقية. وبعد شهرين قامت الحكومتان الأميركية والعراقية بالتوقيع على المسودة كي يبدأ التفاوض بينهما حول بنودها. الإدارة الأميركية متعجلة. تريد أن تنهي الموضوع الشهر القادم. أما الحكومة العراقية فمتأنية. تأبى العجلة. لا تمانع من حيث المبدأ في التوصل إلى اتفاق. تعرف أنه آت مهما تأخر. لكنها تريد التمهل وتعمل على إدخال تعديلات جوهرية عليه. والسبب أن المسودة المعروضة عليها غير منصفة. كما أنها تستثير المعارضة لمشروع تلك الاتفاقية داخل العراق وخارجه، وهي مسألة لا يمكن إغفالها. وكي يتم لأميركا تسويق الاتفاق فقد جرى تعديل مسودته أربع مرات على الأقل. وبالطبع صور الأميركيون ذلك على أنه دليل كبير على المرونة من جانبهم. أما العراقيون فيصورون الأمر بشكل مختلف. معظمهم يرى مشروع الاتفاق مجحفا وخطيرا. حتى الواقعيون منهم وإن فهموا أن ارتباط بلدهم بالولاياتالمتحدة لن ينقطع بسهولة وأن القوات الأميركية لن تخرج بأكملها، إلا أنهم يتخوفون من العلاقة الإطارية الجديدة كما تطرحها واشنطن. يرون في مشروع المسودة اتفاقا أمنيا لكن بالاسم فقط. أما في الجوهر فيخشون أن تفتح تلك الاتفاقية على العراق أبواب جهنم وألا تؤدي به إلا إلى مزيد من القلق. وبالفعل فإن ما كشفته التسريبات الصحفية عن بنود تلك الاتفاقية لا يثير غير القلق، ولا يوحي إلا بخطورة المطروح على العراقيين. كل التفاصيل المتناقلة لا تشي بأنه اتفاق من أجل جلب الأمن للعراق، وإنما مشروع لتهديد أمن العراق. ونظراً لخطورته أعلن بعض أكثر المتعاونين مع الولاياتالمتحدة، مثل زعيم المؤتمر الوطني العراقي أحمد الشلبي، أنهم لن يقبلوا بصيغة تعاهدية مفخخة. ومن بين المفخخات التي احتوتها المسودة الأولى للاتفاق بند يقضي بأن يكون للولايات المتحدة الحق في استخدام 58 قاعدة عسكرية في العراق ولآجال طويلة. وأن تتمتع قواتها ومقاولوها هناك بحصانة. فلا يطولهم القانون العراقي، ولا يُقدموا أو يُحاكموا أمام المؤسسات القضائية العراقية. بند مفخخ آخر قضي بأن تكون السيطرة على الفضاء العراقي تحت ارتفاع 29 ألف قدم مسؤولية أميركية. كما ذهب بند ثالث إلى إعطاء القوات الأميركية حرية إجراء العمليات العسكرية وإلقاء القبض على من تشتبه فيهم في إطار الحرب على الإرهاب. إلى جانب ذلك، لم يتضمن مشروع الاتفاق أي جدول زمني يوضح مدة بقاء القوات الأميركية في العراق. وتلك الشروط مستفزة لأي حس وطني بلا جدال. وقد استفزت بالفعل عراقيين من مختلف الأطياف. كما عارضته قوى روحية لها وزنها. عارضه مثلاً المرجع الشيعي الأعلى السيد على السيستاني، الذي نقلت عنه وكالة أبا للأنباء بأنه لن يسمح بعقد مثل تلك الاتفاقية ما دام حياً. كذلك فقد أصدر مرجع شيعي آخر هو السيد كاظم الحائري فتوى حرمت التوصل إليه أو العمل به لأنه باختصار اتفاق مجحف وجائر. ولم يكن الاعتراض من داخل العراق فقط بل ومن خارجه أيضاً. وكانت إيران بالطبع أبرز المعترضين. حاول معها رئيس الوزراء نوري المالكي. ذهب إليها ليقنع مسؤوليها بأن الاتفاق الجاري التفاوض مع الأميركيين عليه ليس موجها ضد بلدهم. وبالطبع لم يصدقه الإيرانيون. ليس لأنهم يشكون فيه. ولكن لأنهم يشكون في أميركا. هاجموا الاتفاق واعترضوا على فكرته. اعتبره مجلس خبراء القيادة الإيراني وصمة عار للعراق إن تم توقيعه. والواضح من الآن أن إيران مستعدة للعمل على تخريب أي اتفاق عراقي أميركي لا يأخذ مخاوفها بعين الاعتبار. وبإمكانها تأليب العراقيين ضده. وكثير من العراقيين معبأ ضده بالفعل. وبعد أن عاد المالكي إلى العراق وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه. أميركيين يضغطون. وإيرانيين يتربصون. وعراقيين يرفضون. يعرف أنه لا يستطيع أن يرضي الجميع. لكنه فيما يبدو قرر أن يحاول كل ما أمكنه إلى يوليو القادم. يحاول أن يخفف من غلواء الشروط الأميركية. ويسعى من جديد إلى تهدئة المخاوف الإيرانية. ويجتهد للتجاوب مع الآمال العراقية. لكن هل نجاحه مضمون؟ الصورة فيما يبدو ليست مبشرة. نعم استطاع الرجل أن يحصل على تفويض من مجلس الأمن الوطني العراقي الذي أوكل إليه الإشراف المباشر على سير المفاوضات مع الأميركيين. لكن التفويض ليس مفتوحاً. فلم يقدم المجلس للمالكي شيكاً على بياض. وإنما أعلن أعضاؤه أنهم إذ يؤيدون طريقة رئيس الوزراء في التفاوض، فإنهم يشددون وبالإجماع على أن يراعي الاتفاق النهائي السيادة العراقية وألا يمس بالمصالح العليا للشعب العراقي. وليس خافياً أن السيد المالكي يقدر صعوبة المهمة. لذلك فإنه يحاول ما أمكنه شراء الوقت. ربما يأمل في أن ينجح في لعبة الوقت مع الأميركيين كما نجح السوريون والإيرانيون. يعرف أن بوش ذاهب وأن إدارة أميركية جديدة قادمة في الطريق. قد تكون ديمقراطية. وقتها ستكون فرصته أفضل. فقد تعرض عليه الإدارة الجديدة شروطاً أخف. لذلك حاول الرجل ولا يزال أن يشترى مزيداً من الوقت. أعلن مرة أن المفاوضات حول الاتفاقية لا تزال في مراحلها الأولى. يريد بذلك أن يوحي بأن الطريق ما يزال طويلاً. كما حاول كسب الوقت بشكل آخر. أرسل وفوداً تضم خبراء عراقيين إلى كوريا وتركيا وألمانيا واليابان. طلب منها الإطلاع على تجارب تلك البلدان. إذ لكل منها خبرته الخاصة مع الوجود العسكري الأميركي. وإلى أن تعود تلك الوفود وتهضم ما رأته ثم تنقله إلى الحكومة سيكون قد مر بعض الوقت. لكن اللعب على الوقت وحده ليس مضموناً، خاصةً أن شراسة الضغط الأميركي على العراق أشد ألف مرة إذا ما قورنت بحالتي سوريا وإيران. فالأميركيون بالنسبة للسوريين والإيرانيين يقفون على الأبواب. أما بالنسبة للعراقيين فهم داخل الدار. لهذا يتحسب المالكي لو فشلت محاولته لشراء الوقت. يفكر في بدائل أخرى. من بينها أنه قام بتشكيل فريقين للعمل مع الأميركيين. أحدهما يتولى التفاوض على القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والآخر يركز على القضايا الأمنية والعسكرية. وتشكيل فريقين للتفاوض ليس بفكرة سيئة. فهي أيضاً تقتل جزءاً من الوقت. لكنها تقسم الموضوعات وتفصلها عن بعضها. فقد تنجح المفاوضات حول بعض القضايا على نحو يمكن تسويقه للعراقيين. وقد تردد مؤخراً على لسان بعض المنسوبين للحكومة العراقية أن الجانب الأميركي وافق مبدئياً على إدخال تعديلين على الاتفاق. أحدهما سمح بنقل إدارة السجون إلى الحكومة العراقية. والآخر أن يتم تحويل كل من يجري اعتقاله من قبل القوات الأميركية إلى القضاء العراقي. وهما تنازلان أريد بهما إظهار قدر من الاحترام للسيادة العراقية. لكن ذلك لم يحل العقدة. ستبقى الأمور العالقة صعبة ومعقدة. أهمها اثنان: القواعد العسكرية، والحصانة التي يطلبها الأميركيون لقواتهم ومقاوليهم. أما القواعد، فقد يقبل الأميركيون بخفض عددها. بإمكانهم أن يتحايلوا على الأمر. فبدلاً من خمسين قاعدة، بعضها صغير، يمكن أن يجعلوها ثلاثين أو أربعين، البعض منها كبير. هذه ليست المشكلة. فالمشكلة ليست في عدد القواعد وإنما في فكرتها. أما بالنسبة للحصانة الاستثنائية فمعضلة أكبر. فمن الصعب أن يصدق أحد أن أية إدارة أميركية، حالية أو قادمة، سوف تتخلي عن هذا الشرط. فما ارتُكب في العراق من جرائم على مدى الخمس سنوات الماضية كثير. وليس من سبيل لتفادي المحاسبة عليها إلا التمسك بشرط الحصانة هذا. الاتفاق الأمني العراقي الأميركي سيتم الوصول إليه إن عاجلاً أو آجلاً. تريده الإدارة الأميركية عاجلاً. بينما تسعى الحكومة العراقية لأن يتم آجلاً. الإدارة الأميركية تريد أن تظهر الاتفاقية كخاتمة طيبة لفترة صعبة قضتها في العراق. أما الحكومة العراقية فتتمنى أن توقعها مع إدارة جديدة لا تزال صفحتها بيضاء. لكن ما يبدو الآن يشير إلى أن التوقيع لن يتأخر كثيراً. فالضغوط الأميركية عالية. والحديث لا ينقطع عن التهديد بعدم رفع الحظر عن الأموال العراقية المحتجزة لدى البنوك الأميركية. وهي هائلة. حوالي 50 بليون دولار. كما أن التلويح بخسارة العراق 40% من احتياطاته من العملة الصعبة ورقة أخرى يتم الضغط بها. ثم إن الترتيبات الأميركية ماضية لشراء المؤيدين. يتردد بقوة أن واشنطن تعهدت بتقديم مبالغ مالية كبيرة تصل في بعض الأحيان إلى ثلاثة ملايين دولار لكل نائب يوافق على المشروع عند طرحه في البرلمان. ويتشابه هذا الضغط والوعيد والإغواء مع ما فعلته بريطانيا قبل أكثر منذ ثمانين سنة. ضغطت من أجل أن يقر المجلس التأسيسي وقتها المعاهدة العراقية البريطانية لعام 1922. معاهدة كانت بنودها تعطي بريطانيا هيمنة سياسية وعسكرية واقتصادية كاملة على العراق. وقتها استفزت العنجهية البريطانية مشاعر العراقيين. إذ ضغط المندوب السامي البريطاني على الملك فيصل والحكومة والمجلس التأسيسي لإقرار المعاهدة. استمر الضغط واستمرت المقاومة. ثار المتظاهرون لما علموا أن 29 مارس 1924 سيكون موعداً يقر فيه المجلس التأسيسي المعاهدة. أحاط المتظاهرون بمقر المجلس. تدخلت الشرطة ففرقتهم. بعدها تم حشد النواب بالقوة. تم جلب بعضهم ليلاً من فوق سريره. وفي ليلة الحادي عشر من يونيو 1924 أقر المجلس المعاهدة. معاهدة حققت لبريطانيا ما أرادته ولم تحقق للعراق ما تمناه. ثم تكرر الأمر مع معاهدة 1930. قيل انها معاهدة لأمن العراق ولصون استقلاله. لكنها كانت معاهدة لتبعيته وخضوعه. فقد أعادت بعض المطارات التي كانت تستعملها القوات البريطانية إلى العراقيين لكن بثلث الثمن. وسمحت لبريطانيا بإقامة قاعدة الحبانية الجوية دون سداد إيجار عن الأراضي التي أُقيمت عليها. كما منحت البريطانيين حصانات قضائية وامتيازات ضريبية وأشياء أخرى عديدة. وهو ما ضايق العراقيين وفجر الغضب بينهم وقاد بلدهم إلى فترة زمنية طويلة من عدم الاستقرار. والاتفاق الأمني الجديد الذي تريده أميركا من نفس الصنف. اتفاق يجعل مستقبل العراق محفوفا بالقلق والتوتر. ليس صحيحا أنه سيجلب الأمن وإنما سيزعزعه. البديهي أن الاتفاقات الأمنية توقع وتقر حينما يأتي من ورائها فائدة لكل الأطراف وليس لواحد منها فقط. لكن البديهيات لا تعمل في دنيا السياسة بالضرورة ولا الأصول تراعى دائماً لأن موازين القوى تغر ولأن المصالح تُجبر. والفارق في موازين القوى بين العراق والولاياتالمتحدة كبير. لكنه يجب ألا يغر. فقد أثبت العراق بعد خمس سنوات أنه لم يكن صيداً سهلاً. كان حبة حنظل مرة في حلق واشنطن ولم يكن طوق ورود يزين عنقها. ومع هذا ما زالت واشنطن تعرض على العراق مسودة اتفاق أمني لا يؤمن شيئاً. اتفاق يُرجى للعراق أن يتأجل ريثما يحل في واشنطن رجال ذوو بصيرة. ينفتحون على إيران. ويقبلون بانسحاب مجدول من العراق. ويعملون على تطبيع حقيقي. وكل ما عدا ذلك فلن يجلب للعراق إلا مزيداً من عدم الاستقرار. عن صحيفة الوطن القطرية 24/6/2008