الاحتفال العالمي بأول مايو.. والضمير الأمريكي! د. أحمد يوسف القرعي يشارك عمال مصر عمال العالم في الاحتفال بعيد أول مايو منذ عام1962 وسرعان ما اتخذ الاحتفال صورة رسمية وشعبية ابتداء من عام1965, حيث تقرر اعتبار هذا اليوم إجازة بأجر واصبح عيدا تشارك فيه القيادات السياسية والشعبية مع جماهير العمال ويتقدمهم رئيس الجمهورية لإلقاء خطاب سياسي شامل يتناول فيه كل المستجدات علي الساحتين الداخلية والخارجية وتكريم قدامي النقابيين وتأكيد الحقوق والمكتسبات العمالية. يعني هذا ان مصر تحتفل بهذا العيد علي مدي46 عاما, بينما وقائع وملابسات هذا اليوم تعود إلي122 عاما وتحديدا عام1886 عندما خرج عمال احدي شركات الآلات الزراعية في شيكاغو بمظاهرة للمطالبة بحقوقهم المادية والاجتماعية واشترك في المظاهرة نحو340 ألف عامل ورفعوا شعار(8 ساعات للعمل,8 ساعات للراحة والنوم,8 ساعات للتعليم). وكان اختيار يوم أول مايو1886 للتظاهر السلمي من قبيل المصادفة, إذ انه لم يكن يعني شيئا ولكن سيناريو الأحداث التي تتالت بعد المظاهرة هو السبب في تخليد هذا اليوم عبر سنوات التاريخ, إذ تدخل البوليس الامريكي لفض التظاهر وانتهي التدخل بمقتل أحد العمال المضربين. وكان يمكن ايضا أن ينتهي المشهد عند هذا الحد لولا تتابع أحداث السيناريو بعمق وشمول, فقد عقد اجتماع عمالي آخر يوم4 مايو تضامنا مع العامل الذي سقط برصاص البوليس فقتلت قنبلة أحد أفراد البوليس فورا وهنا فتح البوليس نيرانه علي العمال وقدر عدد القتلي والجرحي بالمئات, وغرقت مدينة شيكاغو في ليل حزين, تعرض المواطنون خلاله للعمليات التفتيشية والمطاردة والارهاب من جانب البوليس وأسفرت العملية عن القاء القبض علي ثمانية من قادة الجماعة التي نظمت الاجتماع وجرت محاكمتهم بصورة عاجلة وفي جو من الارهاب الذي عرقل سير العدالة في المحكمة. وفي نوفمبر1887 نفذ حكم الاعدام في اربعة منهم وأودع الآخرون في السجن انتظارا لإعدامهم وانتحر أحدهم. ومرت6 سنوات علي حادث شيكاغو, ثم جاء المشهد المثير ومدير البوليس الذي قاد الهجوم علي العمال علي فراش الموت واعترافه بأن الذي وضع القنبلة كان البوليس نفسه لتبرير الهجوم وفتح النيران علي الاجتماع العمالي, كما اعترف مدير البوليس وهو( ولتر دانيل) بأن العمال الذين اعدموا كانوا أبرياء. عندئذ تحرك الضمير الأمريكي في سابقة لم تتكرر كثيرا حتي الآن وطالبت الصحف بإعادة المحاكمة مرة أخري وأعيدت المحاكمة فعلا وبرئت مساحة العمال الذين اعدموا وأفرج عن المسجونين ورد المجتمع اعتبارهم اليهم. والمشهد الأخير في هذا السيناريو هو الذي جعل من الأول من مايو عيدا للتضحية وعيدا للعمال في فرنسا وفي ديسمبر من العام نفسه قرر العمال الامريكيون اعتبار اليوم نفسه عيدا لهم واتخذ العمال الإنجليز القرار نفسه ثم اصبح هذا اليوم عيدا عماليا دوليا بقرار من المؤتمر الثاني للاحزاب اليسارية الأوروبية والنقابات بباريس عام1889. وجاء بالقرار أنه, ابتداء من عام1890 يجب أن ينتظم العمال في مظاهرات كبيرة في جميع دول العالم وينظموا المواكب والاحتفالات في اول مايو من كل عام وفي هذا اليوم يحدد العمال مطالبهم العادلة للعام المقبل. تلك هي حكاية الاحتفال بالعيد العالمي اثر الحادث المأساوي للعمال الامريكيين.. وغياب الضمير الامريكي آنذاك لمدة6 سنوات في التعامل مع الحقوق المشروعة للعمال لولا تأنيب ضمير رجل واحد من البوليس وهو علي فراش الموت واضطراره للاعتراف. ويبدو واضحا من السرد السابق أنه ليس لنا ناقة ولا جمل في حادث شيكاغو حتي يتقرر عام1962 احتفال مصر بمثل هذا اليوم بينما في اجندة تاريخنا العمالي والنقابي أيام مجيدة تستحق أن تكون بديلا لهذا اليوم الامريكي المشئوم والمصحوب بغياب الضمير الامريكي آنذاك. ومع اعترافنا بأن عيد العمال العالمي( أول مايو) له ملابساته الانسانية لإقرار حقوق الانسان, فإنه ليس شرطا التقيد به, لاسيما أن الولاياتالمتحدةالامريكية نفسها التي وقع حادث أول مايو1886 علي ارضها قد ارتضي عمالها اختيار يوم آخر( أول سبتمبر) للاحتفال وهذا من حقهم رغم ان العيد اكتسب الصفة الدولية حتي في معظم دول اوروبا. وازاء هذا فمن حقنا ايضا ان نختار يوما آخر للاحتفال به كيوم سنوي للعمال المصريين من واقع تاريخهم العمالي والنقابي القديم, فالحركة النقابية العمالية المصرية من أولي المحركات النقابية في الوطن العربي وفي القارة الافريقية بل في بعض دول شرق أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية, إذ كان بدء الحركة النقابية المصرية منذ أواخر عام1898 مع انشاء النقابة المختلطة لعمال الدخان والسجائر أي منذ110 أعوام. ونظرا لأصالة الحركة النقابية المصرية فقد لعب النقابيون المصريون دورا قياديا علي المستويات العربية والافريقية والدولية. لقد قاد النقابي المصري الراحل فتحي كامل(1910-1990) الحركة النقابية المصرية في فترة حاسمة في الاربعينيات والخمسينيات اسفرت عن تأسيس أول اتحاد نقابي عمالي عربي عام1956 واختيرت القاهرة أول مقر له حتي انتقاله الي دمشق عام1980/1979, كما قاد النقابي المصري الراحل احمد فهيم الحركة النقابية المصرية بعد ذلك واستطاع أن يسهم في تأسيس أول اتحاد نقابي افريقي في مايو1961( اتحاد نقابات جميع عمال افريقيا) وأصبح هذا الاتحاد منذ الثمانينيات من القرن الماضي منظمة للوحدة النقابية الافريقية ومقرها اكرا( عاصمة غانا). واكثر من هذا فإن الحركة النقابية المصرية كانت من طليعة الحركات النقابية التي استحدثت فكرة عدم الانحياز داخل الحركة النقابية الدولية ككل... وأخيرا.. آن الآوان لاتحاد عمال مصر لاختيار عيد سنوي محدد.. ولا ضرر ولا ضرار من المشاركة في الاحتفال بأول مايو.. لعل الضمير الأمريكي يصحو من غفوته مرة أخري في مثل تلك الذكري. عن صحيفة الاهرام المصرية 1/5/2008