الإسلام واليسار: صراع الإيديولوجيا والخيال فؤاد مرعي ليس صدفة ان يملأ الإسلام السياسي الفراغ الذي تركه اليسار بعد سقوط النظام الاشتراكي. وليس سراً ان بعض الاسلام «الرسمي والشعبي» قد لعب دورا في تعجيل ذاك السقوط. من جهتها وفرّت الايديولوجيا الشيوعية المعادية للأديان المبررات المطلوبة لكل من يرغب في محاربة اليسار. حتى أنها أحرجت حلفاء النظام الاشتراكي في حركات التحرر الوطنية كنظام الرئيس جمال عبد الناصر الذي اختار طريق عدم الانحياز. تضافر هذا العامل مع أسباب داخلية أدت الى زج الشيوعيين و«الاخوان المسلمين» معا في السجون المصرية. ولم يُفرج عن «الاخوان» إلا في عهد السادات الذي حاول وضعهم في مواجهة التيارات اليسارية والقومية. إلا أن زيارة القدس وتوقيع اتفاقيات كمب ديفيد وضعا حداً دراماتيكيا لهذه المحاولة. فكانت النتيجة اغتيالاً سياسياً لم يُفض الى تغيير وجهة النظام المتحالف مع أميركا. حدث ذلك في حقبة زمنية شهدت تطورين بارزين: سقوط نظام الشاه في إيران واحتلال افغانستان من قبل الجيش السوفياتي. وفي غمرة انشغال إيران بالحرب مع العراق والصراع مع أميركا، وجه قائد الثورة الاسلامية آية الله الخميني رسالة الى الزعيم السوفياتي غورباتشوف يبلغه فيها «ان الشيوعية تحتضر وانها ذاهبة الى مزبلة التاريخ». إلا ان من ساهم في تحقيق نبوءة الخميني على الأراضي الافغانية كان «الأفغان العرب»، الذين تحولوا في ما بعد الى جنود مسرّحين من الخدمة. بعدها تم جرف التيارات القومية عن الساحة العربية من قبل التيارات الاسلامية، فيما كان اليسار العربي يذوق طعم هزيمة النظام الاشتراكي على الصعيد العالمي. فما هو المشترك وما هو المختلف بين الاسلاميين واليساريين ما أدى الى هذا الصراع الذي أفاد طرف ثالث على حساب الاثنين؟ أولا على الصعيد الايديولوجي: يختلف المحمول العقائدي لدى الطرفين الى درجة التصادم في عدد من المواقف الجوهرية، لكن القانون العام الذي يحكم سلوكهما يدفع دائما نحو تغليب الايديولوجي على السياسي في فترات المد، والى فعل العكس في فترات الجزر. لذا فان جرعة الايديولوجيا لدى الاسلاميين اليوم هي أقوى بكثير من صنوها لدى اليساريين. فهؤلاء باتوا مشغولين بالبحث عن موطئ قدم لنشاطهم فوق أرض مليئة بالرمال المتحركة. لهذا السبب، تراجعت اهتماماتهم الايديولوجية إفساحا في المجال أمام تصورات اكثر واقعية وعقلانية. لقد انقذتهم محنتهم (مؤقتا؟) من فخ التطرف النظري الذي غرقوا فيه في مرحلة المد اليساري. وتبرز المقارنة المباشرة بين ايديولوجيا اليسار والاسلام السياسي فوارق لا إمكان لتخطيها سوى عن طريق التسليم بالتعايش. على ان الفريقين قد تأثرا الى هذا الحد او ذاك، بالقيم الديموقراطية التي أرساها الغرب الرأسمالي. هذا التقدير «النسبي» لا يسري على الحركات الاسلامية العدمية او اليسار المتطرف. ثانيا على الصعيد السياسي الاقتصادي: ينطلق اليسار من فكرة المساواة والعدالة الاجتماعية ليصوغ برامجه السياسية وفقا لهذا الخيار الثقافي. تترتب على ذلك جملة من المواقف ذات الطابع النضالي من قضايا كثيرة: الاستغلال الاقتصادي، الفوارق الطبقية، نهب الثروات، استباحة موارد الأرض، الاضرار بالبيئة.. الخ. وتنظر الحركات الاسلامية الى هذه القضايا انطلاقا من نظرة الدين إليها. لكن كما توجد لدى اليساريين وجهات نظر مختلفة واحيانا متناقضة حول التفاصيل، فإن لدى الاسلاميين فرقا وشيعا لكل منها نظرته الخاصة الى المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص بين الناس. الا ان قاسما طبقيا وثقافيا مشتركا يضع الحركات الاسلامية واليسارية في مواجهة قوى اليمين العالمي والرأسمالية. لهذا السبب تتداخل القواعد الجماهيرية للطرفين وتحتدم المنافسة بينهما في أوقات الشعور بزوال الخطر عن أحدهما او عن كليهما. وهناك من يرى ان اليسار في المجال السياسي لم يوجد ليحكم بسبب تمثيله لمصالح فئات عاجزة عن الحكم بمفردها لأسباب بنيوية. لذا فإن وظيفته تتلخص في ان يضغط ليحمي مصالحها ويقيم توازنا سياسيا اجتماعيا يجبر الطبقات المسيطرة على تقديم تنازلات. هذا هو أقصى دور يمكن ان يؤديه اليسار وفقا لهذه الرؤية. لذا فهو عندما يحكم يقيم في كل مرة ديكتاتوريته المؤقتة التي من دونها يفشل في حماية نظامه يوما واحدا. ان مفهوم اليسار ينطبق (شكلا ومضمونا) على كل الثورات ذات الطابع الاجتماعي. هكذا قالت التجربة التاريخية، بدءا من ثورات الزنج والعبيد، الى الثورة الفرنسية، الى كومونة باريس، فالنظام الاشتراكي الذي استمر 70 عاما بفضل «الديكتاتورية النظيفة»! ان نزوع التنظيمات اليسارية الى التموضع في خانة «المعارضة» نجد مثيلا له لدى الطائفة الشيعية. فالاثنان (اليسار والشيعة) مؤسسان على فكرة «المظلومية» ما يجعلهما على الدوام في موقع الثورة والاحتجاج. في حين تتنوع الثقافة الاسلامية السنية وفقا لكل بلد او جماعة (باستثناء الحركات السلفية)، ربما لأسباب تاريخية واقتصادية ومدينية. لكن ما حدث في السنوات الاخيرة في بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية قلب هذه المعطيات حين جعل كل المسلمين سنة وشيعة يقفون على صفيح ساخن واحد. هكذا راح الجميع يرقص على قرع طبول الحرب وسط استنفار عاطفي للغرائز والعصبيات. لقد أرخت المحنة بظلالها فوق الجميع. أما اليسار فقد بدا في هذه الفوضى اكثر غربة وأقل ضجيجا. ففيما كان منشغلا بأزمته الداخلية فرضت عليه تحديات كيانية تتعلق بوجود المجتمعات التي يعيش فيها. ثالثا على الصعيد الاجتماعي الثقافي: من المعروف ان الحركات الاسلامية تشيع في مجتمعاتها الخاصة مناخات محافظة. فيما يحرّض اليسار أتباعه على التفلت من القيود الاجتماعية واتباع فلسفة حياة «احتفائية تعويضية» كرد فعل على الدونية الطبقية. هنا تمتد اكبر مساحة للاحتكاك السلبي بين «المجتمعين» اليساري والاسلامي. تندرج في هذا الاطار قضايا كثيرة كاللباس والرقص والغناء والموسيقى والاختلاط بين الجنسين والزواج المدني.. الخ، لتطال مجالات اكثر تعقيدا تتعلق بحرية النقد والتأليف والبحث. هذا لا يعني ان اليسار التقليدي اكثر تسامحا من الاسلام المتشدد فيما يتعلق بالحريات. فالتجربة الشيوعية في هذا المجال ما زالت طرية في الأذهان. لكن ما يعنينا هنا هو رصد إمكانية التعايش بين طرفين «لدودين» على أرض واحدة وفي ظروف محددة. ان وجود عدو مشترك مستبد، او قضايا مطلبية متفق على وجوب تحقيقها يزيد من فرص التفاهم بينهما. والسؤال هو: كيف السبيل الى تحقيق هذا الأمر اذا كان الطرفان حديثي العهد بالتقاليد الديموقراطية؟ فكيف إذا ما كان أحدهما او كلاهما لا يعتبرها ذات أهمية؟ علما أنه قد سجلت حالات انتقال من صفوف اليسار الى صفوف الحركات الاسلامية مع صعود نجم هذه الأخيرة. يمكن تفسير ذلك بتبديل القناعات الايديولوجية على خلفية طبقية واحدة (إذا ما وضعنا جانبا المصالح الشخصية). لكن يصعب تفسير انتقال بعض اليساريين الى صفوف اليمين (العدو الطبقي الثابت لليسار)، حتى وان كان المبرر البحث عن علاقات ديموقراطية وبحبوحة مادية على أرض معادية جذريا للطبقات الفقيرة من وجهة النظر اليسارية الكلاسيكية. اليوم تجتمع في مقابل الحركات الاسلامية واليسارية قوى عالمية واقليمية. فيما يلوذ الطرفان كل على حدة بجمهوره المختلف. طرف لا تكفي قاعدته المتآكلة للوصول الى الحكم، وطرف يعاني من فائض في الشعبية، ما يجعل وصوله الى الحكم مجلبة للمشاكل والضغوط الخارجية. إنهما يبحران في قاربين «كئيبين» الى حيث تنتظر كلا منهما جنة موعودة.. واحدة على الأرض واخرى في السماء. أما عدوهما، فقد انتهى للتو من تقسيم الأرض الى شمال فيه جنة، وجنوب فيه.. جهنم. عن صحيفة السفير اللبنانية 30/4/2008