حول دعوة بري الأخيرة إلى الحوار وجيه قانصو تأتي دعوة الرئيس نبيه بري الأخيرة الى الحوار، في وقت انسدت فيه آفاق الحل، وأُحبطت جميع المبادرات الداخلية والخارجية، واستنفدت القوى المتصارعة كل إمكاناتها وتحركاتها المُحتملة في انتزاع زمام المبادرة كلٌ من الآخر، وفشل كلٌ من الطرفين في تحقيق أرجحية سياسية لصالحه، مكتفياً بتسجيل نقاط جزئية هنا وهناك، في محاولة لتسويغ الوضع المقفل أمام الأتباع والمناصرين، معتبرين ومُصوِّرين، أن مجرد الصلابة في الموقف والقدرة على تعبئة الشارع، حتى من دون توقع أو إحراز نتائج، هو الإنجازُ بعينه. فدرجة النجاح عند هذه القوى، قد تدنت لتقتصر على الصمود في وجه الآخر ومنعه من تنفيذ مآربه. التوتر السياسي، الذي لم يوفر لاعبوه وسيلة أو لغة تحريض وتجييش شعبيين، خلق أجواء انقسام اجتماعي حاد، استطاعت معه العصبية المذهبية والطائفية أن تتفلت من رقابة وتقييدات الوعي الوطني العام، وأن تستعيد سيادتها ومرجعيتها الحصرية في تشكل التضامنات السياسية، خالقة بذلك مناخا ضاغطا على جميع أبناء المذاهب بالتطابق بين الانتماء لمذهب والموقف السياسي السائد فيه، ومُصعِّدة من درجة الحساسية المذهبية، مهيِّئة بذلك مزاجا نفسيا وثقافيا في قبول الصراع المذهبي واندراجه في دائرة إثبات الذات وحماية وجودها. وإذا كان الانقسام الاجتماعي إحدى نتائج الأزمة السياسية، مع ارتفاع خطر الصراع المذهبي والطائفي، فإن ثقة المواطنين ببلدهم وما يمكن أن توفر لهم من فرص حياة كريمة، قد تضاءلت إلى حد بعيد. فالقلق على المستقبل عام، والرغبة في الهجرة في تزايد مخيف، حيث ضربت رقما قياسيا في شهر آذار الماضي، بوصول عدد جوازات السفر الممنوحة إلى أربعين ألفاً. كل هذا، لم يُولَدْ من فراغ، بل سببه المباشر، أداء السياسيين، الذي زاد من مخاطر التدهور الاجتماعي، وعدم الورع في الإيحاء بمعاني الحرب والصراع والقتال، المترافق مع استعراض مُقلِق للقوة الفعلية والرمزية من حين لآخر. أما خطر الأزمة الأكبر، فهو تداعي الدولة ومؤسساتها، فبدلا من بقاء الصراع السياسي تحت مظلة الدولة الراعية، أصبحت الدولة نفسها موضوع الصراع وساحته. فالحكومة مُختلف على شرعيتها وميثاقيتها، والرئاسة الأولى شاغرة، والمجلس النيابي مقفل، ومؤسسة الجيش تتلقى سهام التشكيك بدورها ووظيفتها من حين لآخر. الخوف، مع استمرار هذا التصلب والتصعيد، الذي لم يعد باستطاعة أحد فهم أو تفهم مبرراته، أن تكون الدولة هي الضحية الأكبر، التي يعني تفككها وتداعيها نهاية للوطن نفسه. فالوطن ليس مساحة جغرافية، أو مشتركاً ثقافياً ودينياً بين مجموعة أفراد، بل هو المجتمع في حالة تنظيمه لنفسه فوق رقعة المكان ومدى الزمان، وهو الدولة التي يتحقق بها وتتحقق به. أمام كل ذلك، لم يعد المطلوب في مقاربة الأزمة الحالية، الاقتصار على تقريب وجهات النظر بين الأفرقاء، أو مسألة سلة متكاملة، أو تشكيلة متوازنة من الوزراء، فجميع هذه العناوين، لا تحمل مسوغاً كافياً لِلَّعِب بمصير الوطن واللعب على تخوم الانفجار الداخلي. ما نحن فيه، يكشف عيوباً وثغرات بنيوية، يؤدي عدم تداركها بجرأة وشفافية، إلى التفريط بأصل الكيان الجامع، الآخذ بالتآكل مع تداعي مؤسسات الدولة ومع ضيق مساحة الانتماءات المستقلة عن تأثير الانتماءات الطائفية. لم تعد الحلول المطلوبة للأزمة، تقتصر على تليين المواقف المتصلبة، وابتكار نقطة الاشتراك الجامعة بين القوى، بل تتطلب تقييما ونقدا شاملين للمشهد السياسي، ومراجعة جدية لجدوى التحالفات السياسية الحالية، والوقوف عند المنزلقات ونقاط الفراغ في التكوين السياسي اللبناني، سواء في بنية القوى السياسية أو في الضوابط والقواعد المرسومة لحراكه، التي تُمكن خلافا سياسياً اعتيادياً، من جر البلاد إلى حافة السقوط والتفكك. أمام أزمة، لم يعد المواطن معنياً بمطالب أطرافها، بقدر ما بات يعيش الخوف من نتائجها والقلق من تبعاتها، يبرز تفعيل دور رئاسة المجلس النيابي الذي تبدأ به دورة الحياة السياسية وتنتهي به، لأنه المؤسسة التمثيلية الأولى والمباشرة. ولا تنتقص مهام رئاسة المجلس ووظائفه، بالجمع بينها وبين رئاسة حركة أمل، فكلاهما يغذي الآخر ويتغذى به. خاصة أن حركة أمل تنحدر من الأفق السياسي العريض الذي أسسه الإمام موسى الصدر، الذي عمل على تحويل الشعور بالحرمان وأحاسيس الاغتراب والسلب والاستلاب عند الشيعة، أيام الستينيات من القرن الماضي، إلى وضعية إيجابية منتجة، تبني بدلا من أن تدمر، وتحرز تقدما في المواقع العامة بدلا من التوغل في الغربة والانفصال عن الدولة. بل يمكن القول، إن ميزة الإمام الصدر الفريدة، هي أنه صنع من الاحتقان والغضب الشعبيين، طاقة إنتاج سياسي تساهم في بناء دولة تتوزع مواردها واهتماماتها ورعايتها على جميع اللبنانيين بالتساوي، فأنشأ لهذه الغاية وعياً لدى المواطن بالمطالبة والاحتجاج، أي الوعي بمصالحه وبحقوقه وبطرق التعبير المشروعة، وأنشأ بالمقابل شعورا عند الفرد المغترب والمستلب بقداسة الانتماء السياسي والثقافي لكيان جامع اسمه الوطن، وبمبادئ علاقات والتزامات متبادلة اسمها الدولة. فالخصوصيات إنما تتأكد خصوصيتها، بالتموضع داخل كيانية جامعة لخصوصيات متعددة، ويكون نزوع أية خصوصية في إيجاد حيز تحقُّقٍ خارج مجال الكيانية العامة، سياسياً كان أم ثقافياً، تعبيراً عن رفض هذه الخصوصية للعالم وعجزها عن التكيف معه. لذلك، وبحكم رؤية الإمام الصدر في الشارطية المتبادلة بين الخصوصية الشيعية وجامعية الدولة، تحول نضال الإمام الصدر، مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، من السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن في توزيع الموارد، إلى نضال لحفظ الجامعية السياسية، ومن المواجهة مع الدولة إلى حمايتها والدعوة إلى مرجعيتها، قاطعاً بذلك الطريق على شتى دعوات الإدارة المحلية وطموح الإيديولوجيات العابرة للحدود. أمام كل ذلك، ومن منطلق وضع اليد على الجرح، وتحويل الحوار إلى ورشة وطنية، لا ينحصر المشاركون فيه بالأقطاب السياسية المتصارعة، بل يشمل العقلاء من ذوي الخبرة السياسية العريقة والرموز المعنوية والفكرية ومؤسسات المجتمع المدني. كما لا يقتصر طموح الحوار على تحقيق تسوية بين الأمزجة السياسية، بل يتعداها إلى البحث في الشروط والقواعد، مع النظر في الرافع الفكري والعقلي والإجرائي لهما، ما يضمن إنتاجية الدورة السياسية، ويضبط تناقضاتها وينظم تعارضاتها بطريقة مبتكرة، مع حفظ استقلالية نسبية ودرجة تأثير منضبطة بين القوى السياسية والتكوينات المجتمعية وبنية الإنتاج الاقتصادي والمؤسسات الدينية. وهو ما يعبر عنه بالمجال السياسي، الذي يتفاعل، تأثيراً وتأثراً، مع باقي المجالات من دون أن يصادر دورها ووظيفتها. ولعل المشكلة الأكبر في لبنان، هي أن القوى السياسية استطاعت أن تختزل أبعاد المجتمع الأخرى، ونجحت في استتباع سائر مؤسساته لها، معطلة بذلك قدرتها في تضييق هامش الصراع الدائر والحد من شموليته. بحث الشروط والقواعد، ليس ترفاً فكريا، بل هو السعي الجدي للوصول إلى أصل المشكلة ومسبباتها، بحيث تمنع معالجتها تكرار الأزمات السياسية. فبدلا من البحث في حلول على قياس المتصارعين، لتكن الحلول على قياس الوطن، وبدلاً من تثبيت مرجعية القوى للدولة، فليعمل على ترسيخ جامعية الدولة ومرجعية دستورها لكل القوى والتحالفات، وبدلاً من التمحور حول تحالفات سياسية هشة، تقوم فقط على تقاطع مصالح آنية، فليعمل على بناء تضامنات تقوم على الرؤية الوطنية الشاملة والبرنامج الإنمائي والإصلاحي، تحرر المزاج الشعبي من ضغط العصبيات الطائفية، وتنقله إلى مستوى الوعي بمصالحه والمشاركة في صنع حاضره. ولعل أهم محاور البحث، التي تترجم التطلعات المذكورة، وتنقلها من أفكار إلى مؤسسات دستورية ومدنية، هي التالية: 1 ضرورة البحث العاجل في مبدأ إلغاء الطائفية السياسية، مع ما يستتبع ذلك من بحث في مقتضياتها الثقافية والتربوية والتضامنية. مع وضع الآليات والإجراءات القانونية والتنفيذية لتفعيلها.
2 تفعيل فكرة مجلس الشيوخ، لأنه يساعد على إيجاد حيز لاطائفي في التمثيل السياسي، ويوسع من أطر التضامنات المستقلة عن هيمنة وسلطة الطائفة. 3 حسم قانون الانتخاب، الذي يضمن انبثاق مدى سياسي عام وتمثيل سياسي جامع بين اللبنانيين، مع مراعاة مخاوف الأقليات وعدم المس بتكوين الخصوصيات. 4 دراسة قانون الأحزاب، الذي يعمم الأطر السياسية المختلطة، ويخلق ولاءات سياسية متحررة من أسر الطائفية والانتماء المذهبي، ويشدد على الفصل التام بين الانتماء المذهبي والولاء السياسي. 5 استعادة الدولة كامل سيادتها، وتثبيت مرجعيتها الحصرية لجميع أوجه النشاط العام، بما فيه النشاط العسكري والأمني. مع البحث الجدي، وانطلاقاً من السيادة والمرجعية الكاملة للدولة ككائن معنوي جامع بين جميع اللبنانيين، في بلورة استراتيجيات دفاعية مرنة، بما فيها دعم أشكال مقاومة شعبية، تحت رعاية الدولة ورقابتها كرديف للجيش اللبناني، تحقق الحد الأدنى المطلوب من الحماية ضد العدو الإسرائيلي. 6 تثبيت مبدأ حسن الجوار والثقة المتبادلة، بين لبنان وسوريا، والتأكيد على التزام لبنان بالقضايا العربية، والانحياز إلى نظام المصالح العربية العامة، خاصة في حال تزاحمها مع نظم مصالح أخرى. ما نحتاج إليه، هو قراءة نقدية للمشهد السياسي في السنتين الماضيتين، سواء على مستوى شكل التحالفات السياسية وطبيعتها، أو على مستوى أداء القوى، في محاولة لمعرفة السبب الذي أوجد هذا التشابك وهذه التبعية بين التأزم السياسي والانقسام الاجتماعي، بين الخطاب السياسي والمضمون الديني، بين الحل الداخلي وارتهانه للتسويات الإقليمية والدولية، بين الخلاف السياسي وتعرض الدولة للتفكك والانهيار، بين تصاعد العصبية الطائفية وتقلص الشعور الوطني العام. لم يعد هناك جدوى من تحالفات سياسية، نجحت في خلق أزمة داخلية وتفاخر بقدرتها على الاستمرار فيها إلى ما لا نهاية، مع اعترافها الصريح والضمني بالعجز عن الخروج منها. ولا معنى لجعل المحاور الدولية والإقليمية، أساساً للفرز المحلي والاصطفافات الداخلية والولاءات السياسية الداخلية، فهذا شكل من أشكال أدلجة الصراع، واختزال لأبعاد المجتمع الداخلية. ولا قيمة لمطالب عكست تقاطع المصالح الجزئية والآنية بين القوى، مع غياب شبه كامل لرؤية وطنية شاملة ومتناغمة، قادرة على تقديم تصورات مُقنِعة وبرامج ذات جدوى، تُحصِّنُ الوطن من تكرار الأزمات وتضمن له نموه. ولا مسوغ لممارسات التعبئة والتحريض الشعبيين، في القرى والأحياء والمدن والعاصمة، التي تُمعِنُ في تسطيح الوعي العام وفي رفع وتيرة العدوانية تجاه الآخر، التي حوَّلت أو كادت، الخلاف السياسي حول بنود جزئية إلى صراع وجود وبقاء بين المذاهب. ولا معنى لخطاب سياسي يُكرر نفسه منذ سنتين، مع يقين أصحابه بأنه وصل إلى الطريق المسدود. بل لا قيمة لخطاب، يُثبِتُ فضيلة صاحبه بتهمة الطرف الآخر وإسقاطه، مع تدني مستوى التخاطب الأخلاقي إلى مستويات غير مسبوقة ومعهودة. وأخيرا، لم يعد هنالك ما يسوغ استمرار مشهد الصراع السياسي الحالي، لأنه بدأ يضع مؤسسات الدولة، وبالتالي الوطن بأسره، على محك التداعي والسقوط. ليكن الثابت في أي حوار أو مشروع حل، هو بقاء لبنان وطناً قائما على الشراكة بين أبنائه، والنهوض بالدولة الجامعة لتكون الغاية النهائية لأي طموح أو مسعى سياسيين، والمرجع الوحيد لأي شأن عام. ولتكن قيمة أي طرحٍ أو مشروعٍ أو مُتَّحدٍ أو تحالفٍ، مرتبطة بدرجة اقترابه أو بعده عن هذا الثابت. عندها، يكون لدى الرئيس بري الكثير ليقوله والكثير ليفعله وينجزه. عن صحيفة السفير اللبنانية 21/4/2008