موقع غزو العراق من مجمل الإستراتيجيّة الأميركيّة صالح بشير لحظة الأوج وجيزة في تاريخ الإمبراطوريات، يسبقها صعود شاق عسير ويعقبها انكفاء مديد، قد لا يتقيدان بتحقيب معلوم، مهما اجتهد المؤرخون ومن يدعون في التاريخ فلسفةً في استخلاص قوانين لهما مزعومة، لكن لحظة أوج الإمبراطورية الأميركية، قوة تنفرد بالسيادة على العالم، لم تكد تجد من سابقة تستأنس بها غير تلك التي مثلتها الإمبراطورية الرومانية في الأزمنة العتيقة، كانت الأكثر إيجازا، إذ تكاد تتطابق مع ولايتي الرئيس جورج بوش الابن وتنقضي بانصرامهما. صحيح أن الولاياتالمتحدة خرجت من الحرب الباردة منتصرة منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي واستوت القوة الأعظم، «هايبر باور» أو قوة كلّية السطوة، عسكرية واقتصادية وتكنولوجية، ولكنها لم تترجم موقعها ذاك سياسة على الصعيد الكوني، تنفرد وتملي، وتعلن الانفراد والإملاء، إلا في عهد رئيسها الحالي. تحقق ذلك على يدي الرجل غير المناسب بالتأكيد، هو جورج دبليو، القادم من أعماق محلّية تكسانيةٍ (نسبة إلى تكساس) مغرقة في التبسيط فجة بدائية، دخل العالم دخول فيل إلى محل بورسلين، ولكن هذا ما حصل وما لا سبيل إلى تداركه وذلك ما جاد به التاريخ، وهذا كالحياة، لا يُعاش إلا كمسوّدة، على ما كتب مرة ميلان كونديرا، لا تتيح إعادة النظر فيها لإخراجها على النحو الأليق والأحبّ، أو يمكنه أن يكون «تاريخا كونيا للشين»، على ما يقول عنوان مصنّف للكاتب الأكبر، الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، رسم فيه ملامح شخصيات، وُجدت وسعت على هذه الأرض وملأتها شرا، بوسع بوش أن يحتل مكانه في عدادها عن قدر من جدارة لا يُنكر. وقد كان لذلك الخروج الإمبراطوري إلى العالم، على النحو الذي مثلت المغامرة العراقية أمارته الأجلى والأدهى في آن، ذراعُه الإيديولوجية الضاربة، صياغة رثة، أخذت من أفكار الفيلسوف المحافظ، أو الرجعي إن شئنا، ليو شتراوس بطرف، ومن مصادر أخرى بأطراف أشتات، تولتها جماعة «المحافظين الجدد»، تلك التي كانت الموعز بغزو العراق والمنظّر له. إذ توخت الجماعة تلك احتلال بلاد الرافدين إيذانا بذلك الاندفاع الإمبراطوري، في صيغته المستجدّة، وعنصر تأسيسه؟ لماذا احتلال العراق؟ دعنا مما سيق أسبابا لم تعدُ، في حقيقة أمرها، أن كانت ذرائع أو أكاذيب، شأن امتلاك نظام صدام حسين أسلحة الدمار الشامل وتعاونه مع تنظيم «القاعدة»، فتلك لم تكن سوى مفردات إدانة وتجريم وأبلسة، ودعنا أيضا مما لُفِّق أهدافا، بعد وقوع الواقعة وبمفعول رجعي، سرعان ما تم التخلي عنها، شأن نشر الديموقراطية في ربوع «شرق أوسط أكبر»، اتسع حتى امتد من موريتانيا إلى باكستان. فكل ذلك مما لا يُعتدّ، نبذته الولاياتالمتحدة، صراحة أو ضمنا، فطوت طموحها إلى نشر الديموقراطية، وأقرت دوائرها وأجهزتها بأن صدّام كان براء من حيازة أسلحة الفتك الشامل ومن أي وشيجة تربطه بأسامة بن لادن، دون أن يؤدي ذلك التراجع ولا ذلك الإقرار إلى أدنى تحوير في السياسة حيال العراق. ربما عاد ذلك إلى أن تلك «الأسباب» كانت لها وظيفة التبرير الآني، حيال الداخل قبل الخارج، لأن غزو العراق، الذي اصطُفيَ آية إعلان الولاياتالمتحدة إمبراطورية كونية، روما جديدة تنفرد بالسطوة على صعيد المعمورة، يمكنه أن يُعزى إلى ذرائع آنية ومرحلية تواكب، تسويغا، هذا الطور أو ذاك من أطواره، لكنه لا يجب عليه أن يتحجج بسبب صريح أو بدافع جلي يُقدّمان تبريراً. فمثل ذلك التحجج يفترض وجود مرجعية ما، مادية أو معنوية واعتبارية، يجري الاحتكام إليها، أي وجود حد، في حين أن الفعل الإمبراطوري، خصوصا إذا ما أريد منه الاضطلاع بوظيفة التأسيس، لا يجب أن يبرر إلا بذاته وفي ذاته، فعلا سياديا مطلق السيادية، ينبع من إرادة فاعله ويعود إليها، إرادة ذاتية المرجعية، لا حدود لها إلا قوتها وعناصر تلك القوة، ليست مشروطة بشيء، لا باعتراف يُنشد أو يُنال، ولا بموازين قوة تؤخذ في الحسبان، ولا بتشريعات دولية أو بأعراف مرعيّة. فعل قوة في حالة نقائه، بصفته تلك، القصوى. وذلك مما لم يكن للحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة ضد أفغانستان أن تفي في النهوض به وفي التعبير عنه. فالحرب تلك كانت دفاعية، دافعها القصاص من حكم طالبان الذي آوى تنظيم «القاعدة»، مرتكب عدوان الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وهي بذلك كانت رد فعل ولم تكن فعل إرادة محض، ثم أنها حظيت بدعم العالم وبمباركته أو بتفهمه على الأقل، فلم تشذ عن مرجعية ما، «مستقلة» أو خارجية، وعن إطار دولي يحضنها، أي لم تخرج عن «استثناء» يعكس وضع الاستثناء الذي بلغته القوة الأميركية بعد أن ورثت السطوة على العالم إثر انهيار الغريم السوفياتي، ثم استتباعه على ما حصل بالخصوص في عهد بوريس يلتسن. لذلك كان لا بد من حرب العراق، وبالطريقة التي جرت بها... أي وفق تلك «الأحادية» التي كانت واشنطن في تلك السنوات تتخذها سياسية صريحة، صدح بها جورج بوش ونفذها دونالد رمسفيلد، وزير الدفاع السابق، ونظّر لها المحافظون الجدد. سياسة قوامها الحروب الاستباقية، تستخف بالأحلاف، لا ترى لها من ضرورة، تأنس في نفسها القدرة على تأليفها أو فكها حسب الحاجة، لا تميز، وهي في علياء جبروتها، بين حلفائها المحتملين، قوة أو أهمية، حتى فكرت، على ما ورد على لسان رمسفيلد في تصريح شهير، في استبدال «أوروبا القديمة»، الغربية، المترددة اللجوج، بتلك «الجديدة» الخارجة طازجة من الجليد السوفياتي. تلك كانت وظيفة حرب العراق: إعلان الانفراد بمقدرات العالم، وكل ما عدا ذلك كان نافلا. دوافع الغزو؟ لم تكن بالأمر المهمّ. الانتصار؟ كان يُحسب تحصيل حاصل. اعتراض العالم؟ «كم فيلقا؟» كما قال ستالين مرة مستهزئا ببابا الفاتيكان... كل ذلك آل إلى فشل، تأتي الذكرى الخامسة لغزو العراق، تعبيرا عنه، أو تذكيرا به بليغا... فإذا بالقوة الأميركية، التي خرجت إلى العالم على يدي بوش إمبراطورية، ارتدت إلى مصاف «الإمبريالية»، إن نحن أخذنا بذلك الرأي الذي يقول به بعض مفكرين وباحثين، يقيمون فارقا بين الإمبراطورية والإمبريالية، يرون هذه انحطاطا بالأولى إلى درك القوة الصرف والسافرة، يتوسمون في الأولى قدرة على اجتراح مرتبة انتماء متعالية عابرة للخصوصيات غير جاحدة لها، وقدرا من طوعية ومن تماه تبعا لذلك، وفي الثانية مجرد آلة قسر وإخضاع، ما يجعلهم يقرون بالصفة الإمبراطورية لتلك العثمانية أو النمسوية-الهنغارية، ويضنون بها على الإمبرياليات الحديثة، ذات المأتى القومي، «إمبراطوريات» الدول الأمم. ليس هنا مجال مناقشة هذا الرأي طبعا، نورده على سبيل المثال وتقريبا لصورة في الذهن. فما يهمنا هنا، أن الولاياتالمتحدة خاضت رهانها الإمبراطوري في العراق، وخسرته في العراق. فشلت فنالت من قدرتها على فرض أحاديتها، وتضافر ذلك العامل، مع عوامل أخرى، للتبشير بعالم متعدد الأقطاب، ستظل فيه الولاياتالمتحدة القطب الأول، في المدى المنظور، ولكنها لن تكون القطب الوحيد. وذلك ما بات يقر به «محافظ جديد»، أضحى قديما، هو روبيرت كاغان، الذي أصدر مؤخرا كتابا بعنوان بالغ الإيحاء بمدى التراجع: «عودة التاريخ ونهاية الأحلام»، نشرت مجلة «ذي نيو ريببليك» الأميركية مقطفات منه واسعة، يشير فيه إلى مكامن مخاطر جديدة، تتمثل في روسيا والصين، ويهجس بعالم متعدد الأقطاب لا قبل للولايات المتحدة بالسيطرة عليه. ... لم نلحظ، في ما قرأنا من هذا الكتاب، تنويها من مؤلفه بأن «الأحلام» التي انتهت كانت، ولا تزال، «كوابيس» للعراقيين ولسواهم. عن صحيفة الحياة 14/4/2008