لبنان.. صيغة فريدة تحت الضغط د. حسن أبوطالب لا أحد يشك في أن لبنان هو في حد ذاته صيغة فريدة من حيث التركيب والتفاعلات والدلالات والدور. كان كذلك منذ استقلاله, وظل فترة يحمل الصفة ذاتها يستفيد منها ويفيد الآخرين بها. وبينما مرت عليه لحظات تاريخية اعتبره هذا الطرف أو ذاك مجرد ساحة لتصفية الحساب التاريخي مع طرف آخر, وعبر أطراف لبنانية, مرت عليه أيضا لحظات أخري, كما هي اللحظة الراهنة, أكدت أهمية لبنان التوافق والتعايش والابتعاد عن الحسابات الخارجية قدر الإمكان. وحتي الحرب الأهلية التي استمرت15 عاما بين1975 حتي1990, كانت أيضا ملمحا معبرا عن هذه الصيغة الفريدة. ففيها أدرك اللبنانيون أن لا بديل أمامهم سوي التعايش وقبول الآخر أيا كانت سماته وتفكيره وعقيدته ومنطقته, وهو ما أكده اتفاق الطائف بروحه ونصه معا. غير أن أي صيغة معرضة بحكم الزمن والتفاعلات المختلفة, إما إلي التطور الطبيعي السلمي أو إلي التغير الدرامي. والفضل هنا والمسئولية أيضا هما لأصحاب الشأن, فبيدهم الاختيار بين هذا وذاك. وحين يكون القرار توافقيا وطبيعيا يمكن للصيغة الفريدة أن تزداد تميزا وتألقا, والعكس قطعا صحيح. والمؤكد, وكما يعرف أهل الدار فإن معادلات السياسة والسلاح والفكر والطائفة والمؤسسات تأثرت كثيرا في العقدين الماضيين, سواء في ظل الهيمنة السياسية السورية أو بعد الخروج العسكري. وشمل التغير المارونية السياسية والقيادات السنية التاريخية ودور الطائفة الشيعية, وأدوار المناطق, والعلاقات الخارجية إقليمية كانت أو دولية. جزء من هذا التغير جاء بفعل الوجود العسكري السوري والتدخل المباشر في الشأن اللبناني, وجزء آخر جاء نتيجة تطور دور المقاومة التي أنهت الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب اللبناني, وجزء ثالث جاء نتيجة تطور تبدل دور حزب الله من فعل عسكري إلي فعل اجتماعي سياسي حكومي ومعارض في الآن نفسه, وجزء رابع نتج عن تبدل الأوزان النسبية للفاعلين الإقليميين في صميم الساحة اللبنانية نفسها. فبينما كان نفوذ إيران قبل ثلاثة عقود مسألة غير متخيلة. بات الآن نفوذا محدد المعالم والسمات. ولبنان اليوم يعيش لحظة الاختيار بين التطور الطبيعي السلمي, أو التغير الدرامي. ويبدو أن أصحاب الشأن, أي ساسة لبنان وحكماءها, لم يحسموا اختيارهم بعد, فهم يعيشون الآن في خضم لحظة الاختيار, التي سيكون لها ما بعدها, ليس علي لبنان وحده, وإنما أيضا علي كل من هو بجواره وكل من يري أن لبنان التوافقي التعايشي مصلحة له وللمنطقة بأسرها. وحين التقت مجموعة من المهتمين بالشأن العربي والتحليل السياسي, وهم أ. السيد يسين ود. عبد المنعم سعيد و أ. وائل الابراشي وكاتب هذا المقال, مع السيد فؤاد السنيورة رئيس الحكومة اللبنانية ووزير الخارجية بالوكالة طارق متري في منزل السفير اللبناني بالقاهرة أثناء زيارته الأخيرة, لم يكن هناك جدل كبير حول أبعاد الأزمة التي يعيشها لبنان وطبيعتها, وارتباطها بأزمات الإقليم وبتصاعد الإسلام السياسي سواء ارتبط بالصراع مع إسرائيل أو بطبيعة الدولة العربية, فضلا عن التأثر بالمشروع الأمريكي المحافظ تجاه المنطقة العربية ككل, وعثراته الفجة كما هو الحال في العراق وتشابكه السياسي القائم والعسكري المحتمل مع إيران. وحسب قول السنيورة فإن السمة الأبرز للنموذج اللبناني هي في انه عصي علي التقسيم وعصي أيضا علي الابتلاع. وأن قدر مسلميه ومسيحييه هو العيش المشترك. إذ لا غبار أن تكون لبنانيا ووحدويا في آن واحد. غير أن هذا التوافق العام لم يشمل فكرة أن هناك الآن في لبنان مشروعين يتصارعان علي هويته وعروبته ودوره الإقليمي وعلاقاته مع سوريا وعلاقاته مع الولاياتالمتحدة. ففي رؤية السنيورة انه لا يوجد مشروعان للبنان, فتعبير المشروع يعني تصورا كليا, وهو أمر غير متوافر بالنسبة للطرف الآخر والذي ليس لديه مشروع اقتصادي كما هو الحال لدي الأكثرية. فلبنان بحكم طبيعته وانفتاحه علي العالم ودور قطاع الخدمات في اقتصاده الكلي, يعد اقتصادا مبنيا علي المعرفة, وليس لديه أي بديل آخر في ألا يساير طبيعة المرحلة العالمية السائدة, التي هي العولمة الآن بكل ما لها وما عليها. وفي عرف السنيورة فإن الطرف الآخر لم يطرح شيئا مختلفا في هذا الصدد, بل أعاد تأكيده وإن بلغة مختلفة. وفي عرف السنيورة أيضا أن جوهر المشروع الذي تطرحه الأقلية هو أن يكون لبنان تابعا لإيران, وهو أمر نرفضه تماما. ولكن إذا كانت إيران قد خطفت قضايا العرب والمسلمين في هذه المرحلة, فهذا لا يعني البتة الدخول في مواجهة معها, بل يفرض البحث في مصالحة تاريخية معها, كما ندعو إلي مصالحة تاريخية مع تركيا. فكل منهما له مصالحه في المنطقة, كما له تاريخه وهواجسه مما يجري لدينا. ولا يستقيم الأمر نزاعا وصراعا, بل بالحوار والحلول التاريخية التي لا تغمط حق أحد أو تنكر مصلحة أحد. داخليا فإن الأخطر من وجهة نظر الأكثرية هو مساعي إضعاف الدولة. فقد لعبت المقاومة, ولا إنكار لذلك, دورا كبيرا ومهما في تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني, لكن بعد ذلك حدث أمر مختلف ركز علي إضعاف دور الدولة وبما ينهي كل شئ. ومن اوجه الخطورة وفقا للسنيورة أن طرفا لديه سلاح يمكن ان يستخدمه بدلا من محاربة إسرائيل في تغيير المعادلات الداخلية. وكان جزء من الجدل قد امتد إلي المخرج العملي والممكن من تلك الأزمة. والحق هنا أن التساؤلات كانت عديدة ومتشعبة, كما كانت هناك خيارات نظرية طرحت من اجل اختبارها عمليا. ومما قيل ان يكون المخرج عبارة عن صفقة بين المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري, والتي تعتبرها سوريا سيفا مسلطا عليها, وبين الخروج من حالة الفراغ الرئاسي والجمود المؤسسي في لبنان. وجوهر الطرح هنا انه طالما ان هناك تخوفات سورية مشروعة, وفي الوقت نفسه تأثير مباشر لدمشق علي استمرار الأزمة أو انفراجها, فلماذا لا تحدث المقايضة علي نحو يحقق انفراجا مزدوجا وفي الاتجاهين اللبناني والسوري في آن واحد. وكان الرد اللبناني أن هذه الصفقة تعني أن لبنان يقبل بأن يكون ساحة للاغتيالات دون أن يجد مرتكبوها أي حساب أو عقاب يناسب ما اقترفوه من جرم في حق الوطن والمواطنين معا, وهو أمر لا يمكن تسويقه لبنانيا كما يتصور البعض. لانه سينهي فكرة الدولة ويضع عليها قيودا ويؤكد ما يقوله البعض أن لبنان بحاجة إلي وصي عليه. ويرسخ سياسة أن الحصول علي مكسب في أمر إقليمي أو دولي ما يمكن أن يمر عبر لبنان, الذي سيدفع الثمن في كل الأحوال دون أن يجني سوي الخسارة. وطالما أن سوريا كما قال السنيورة تقول ان إسرائيل هي التي وراء اغتيال الحريري فلماذا تخشي من أمر المحكمة الدولية. إذ من الغريب أن كلا من سوريا وإيران يأخذان لبنان كرهينة لمطالبة عدو أو شقيق أخر بمقابل أو برهينة أخري. شملت المخارج المطروحة أيضا مسألة العودة للحوار الوطني, وعلاقته بتفعيل المبادرة العربية الخاصة بلبنان, لاسيما ان هناك دعوة من نبيه بري رئيس مجلس النواب للعودة إلي حوار لبناني قبل موعد22 أبريل الحالي والمحدد لعقد جلسة لمجلس النواب لاختيار الرئيس الجديد. وهنا بدت معضلة قوامها أن الحوار الوطني الذي دعا إليه بري من قبل كان قد توصل إلي نقاط محددة بشأن مسائل حيوية من بينها التعامل مع سلاح حزب الله, وضبط قرار الحرب مع إسرائيل وربطه بالدولة, وهو ما تم طرحه أرضا بعد أسابيع قليلة عندما حدث أسر الجنديين الإسرائيليين عبر الخط الأخضر, وما ترتب عليه من حرب مدمرة علي لبنان صيف.2006 ولذلك فإن الأكثرية لا تري ضمانات في نجاح دعوة الحوار الجديدة, اللهم إلا إذا كانت لتطبيق المبادرة العربية بحيث يتم اختيار العماد ميشيل سليمان كرئيس توافقي كخطوة أولي, ثم بعد ذلك البحث في حكومة وحدة وطنية وقانون الانتخابات جديد. وغير ذلك فلن يكون مجديا. عن صحيفة الاهرام المصرية 9/4/2008