لماذا تثير الانتخابات الأميركية الإحباط في أرجاء العالم؟ عبد المالك سالمان بعد ثماني سنوات عجاف من السياسة الخارجية الأميركية في عهد جورج بوش الابن ، ازدادت فيها الكراهية للسياسة الأميركية في كل أرجاء العالم، في ظل سياسات الغطرسة والعجرفة التي اتبعتها إدارة بوش في ظل سطوة المحافظين الجدد من اليمين الجمهوري الأميركي المسيحي المتصهين ، وفي ظل الهجمة الامبراطورية العسكرية تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، التي خاضت فيها أميركا حربين احتلت خلالها بلدين في العالم العربي والاسلامي هما أفغانستان والعراق، بعد كل هذا كان العالم يتطلع إلى نهاية لهذه الحقبة السوداء في السياسة الأميركية بانتخاب رئيس جديد يعيد النظر في السياسات ذات النزعة الهجومية في الخارج التي نفذتها إدارة بوش. لكن، كل المؤشرات التي أسفرت عنها حتى الآن معركة الرئاسة الأميركية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي تشير إلى أن الآمال في التغيير، تتضاءل وان حقبة سياسات ادارة بوش وهي السياسات المكروهة عالميا على نحو جعل أكثر من مسئول أميركي في الدبلوماسية العامة حاول تحسين صورة أميركا في الخارج يقدم استقالته وآخرهم كانت كارين هيوز بسبب الشعور بالعجز عن تغيير مشاعر الكراهية للسياسة الأميركية في الخارج، هذه السياسة المكروهة يبدو انها يمكن أن تمتد بشكل أو بآخر بعد انتهاء ولاية بوش في نهاية العام الجاري 2008، وهو أمر يبعث على القلق والضيق والاحباط في كل أرجاء العالم، لأن الانتخابات الأميركية لا يبدو أنها ستحدث التغيير المنتظر الذي يتطلع إليه العالم. ورغم ان هذه نظرة تبدو تشاؤمية، وسابقة لأوانها بعض الشيء، لكنها تستند إلى مؤشرات سياسية واقعية رغم ان الكثير من المتغيرات في السباق الرئاسي الى البيت الأبيض يمكن أن تتغير قبل حلول موعد الانتخابات الأميركية في نوفمبر 2008م. غير ان ذلك لا يمنع من قراءة الموقف السياسي الأميركي في ضوء حصاد معركة الانتخابات الأميركية في الحزبين المتنافسين الجمهوري والديمقراطي حتى الآن، وانعكاسات ذلك على الاتجاهات المحتملة للسياسة الخارجية الأميركية في المستقبل المنظور. أولا: لقد أسفرت نتائج الانتخابات في صفوف الحزب الجمهوري ، عن فوز ساحق للمرشح جون ماكين وسقوط منافسيه الواحد تلو الآخر وآخرهم مايك هاكابي القس المعمداني اليميني المتشدد ، وبات جون ماكين الذي كانت حملته في بداية السباق لنيل ترشيح الحزب الجمهوري في أواخر العام الماضي تواجه صعوبات جمة، حتى انه فكر في الانسحاب مبكرا وخاصة بسبب نقص التمويل، وضعف التبرعات المالية التي تتلقاها حملته للترشح للرئاسة، أصبح في الوقت الراهن هو فارس السباق الأوحد في صفوف الجمهوريين. والمشكلة التي يمثلها سيناتور ولاية أريزونا تكمن في مواقفه السياسية بالنسبة الى السياسة الخارجية الأميركية. فمواقف جون ماكين تشبه إلى حد يقترب من المطابقة المواقف الحالية لإدارة بوش، وخاصة بشأن الحرب ضد الإرهاب واحتلال العراق. وهي مواقف شكلت صدمة للرأي العام العالمي، فهو تحدث بصراحة عن انه يؤيد الاستمرار في احتلال العراق مدة مائة عام قادمة، وهو يعلي من شأن اعتبارات الحفاظ على الأمن القومي الأميركي بالاستمرار في السياسات التدخلية في الخارج، وهو في هذا الاطار لا يختلف كثيرا عن توجهات إدارة بوش الحالية، ولا عن برنامج التوسع الامبراطوري الخارجي الذي نفذه المحافظون الجدد من اليمين المتطرف في الحزب الجمهوري. ورغم مشاعر الضجر والملل والشعور بالاحباط التي تنتاب قطاعات واسعة من الشعب الأميركي في الوقت الراهن من سياسات التدخل العسكري الأميركي في الخارج وشن الحروب، إلا ان مصدر القلق يكمن في القوة الدعائية الهائلة للحزب الجمهوري واليمين المتطرف فيه، الذي يكثف حملاته خلال الأوقات الحاسمة من الانتخابات ليؤكد ان الجمهوريين هم الأقدر على حماية الأمن القومي الأميركي ، وتصوير الحزب الديمقراطي على أنه يميل إلى المهادنة والحوار مما قد يمكن القوى الارهابية من تهديد الأمن الأميركي. وهذه هي الأجندة التي سوف يتبعها ماكين في حملته أمام أي مرشح ديمقراطي سواء أكان أوباما أم هيلاري؟ ورغم الخبرة السياسية الطويلة للسيناتور ماكين البالغ من العمر 72 عاما، إلا ان آراءه في الحرب على الارهاب كشفت عن جهل فاضح بمجريات الأمور، مما يهدد باتباعه سياسات عشوائية غير مدروسة تهدد الأمن والاستقرار في العالم. وكان آخر هذه الآراء المثيرة للجدل والسخرية المواقف التي أعلنها بعد زيارته للعراق المحتل، حيث اتهم إيران بالمسئولية عن تدريب عناصر تنظيم القاعدة "السني"، والدفع بهم داخل العراق لارتكاب أعمال عنف وتفجيرات تهدد الاستقرار في العراق. وهي تصريحات أحدثت صدمة في الرأي العام الأميركي والعالمي على حد سواء، لأنها جاءت من مرشح رئاسي يتحدث عن أولوية سياسة حماية الأمن القومي في حين انه يجهل الحقائق السياسية والأمينة البسيطة بشأن العلاقة بين طرفين مهمين في أجندة السياسة الخارجية الأميركية ، وهما إيران وتنظيم "القاعدة". ومصدر القلق من ذلك، انه في حالة فوز ماكين فإن سيناريو تكرار سياسات التخبط والعنجهية التي سادت خلال عهد بوش فيما يتعلق بالحرب على الارهاب والسياسة الخارجية الأميركية التي عانى العالم العربي والإسلامي منها كثيرا فضلا عن النظام الدولي كله، هي سياسات ستكون مرشحة للتكرار والاستمرار مما يعني استمرار عهد سياسات بوش المكروهة بشكل أو بآخر. وهو أمر انتقده الديمقراطيون عن حق ، بقولهم ان انتخاب ماكين سيكون بمثابة اعادة انتخاب بوش لأربع سنوات أخرى. واذا حدث ذلك، فان آمال العالم بزوال حقبة بوش المتغطرسة سوف تتلقى طعنة نجلاء، ولن يستطيع العالم التقاط أنفاسه من السياسات الأميركية الهوجاء والتسلطية. ثانيا: ان ما يثير الأسى بصورة أكبر هو استمرار الصراع الحاد والدامي في المعسكر الديمقراطي، الذي كان يفترض ان يأتي منه التغيير والاتيان برئيس جديد يقوم بتغيير اتجاهات السياسة الأميركية والاستفادة من دروس الأخطاء الهائلة التي وقعت فيها إدارة بوش في سياساتها الخارجية. لكن الأمر المؤسف، ان الحزب الديمقراطي ظل منقسما حتى الآن بين مرشحيه البارزين وهما هيلاري كلينتون وباراك أوباما، وفي حين حسم الجمهوريون اختيارهم بترشيح جون ماكين، فان الديمقراطيين مازالوا في حالة انقسام بين هيلاري وأوباما، ولا يتوقع أن يتم حسم الصراع بينهما قبل المؤتمر العام للحزب في يونيو القادم. وخطورة استمرار السباق حتى المؤتمر العام للحزب وعدم اتضاح صورة المرشح الأفضل تعني ان يواجه الحزب الديمقراطي معركة داخلية شرسة لحسم خياراته، وفي ظل أجواء الانقسام الشديد الراهنة، فإن أي مرشح ديمقراطي سوف يخرج من معركة الترشيح مثخنا بالجراح، ولا يمتلك تأييدا شاملا وقويا من داخل حزبه، مما سيجعله صيدا سهلا أمام المرشح الجمهوري ماكين الذي يحظى بتأييد القطاع الأوسع داخل الحزب الجمهوري. وهناك احتمال آخر هو ان انقسام الحزب الديمقراطي قد يؤدي إلى عدم مشاركة أنصار المرشح الذي لا يحظى بتأييد أو ترشيح الحزب الديمقراطي له كمرشح للرئاسة في تأييد حملة مرشح الحزب سواء أكان أوباما أم هيلاري. أي ان الناخبين من معسكر أوباما قد لا يذهبون لتأييد هيلاري إذا نالت ترشيح الحزب لها، والعكس يمكن ان يحدث أيضا، أي انه في حال فوز أوباما بترشيح الحزب الديمقراطي ، فقد يتوقف أنصار هيلاري عن دعمه في مواجهة المرشح الجمهوري ماكين. وقد كان الاقتراح الأمثل لتفادي كارثة الانقسام داخل الحزب الديمقراطي هو أن يتوافق المرشحان هيلاري وأوباما على الترشح معا كرئيس ونائب رئيس في مواجهة المرشح الجمهوري، وذلك للحفاظ على وحدة الحزب الديمقراطي من جهة، ولضمان أكبر تأييد لمرشحي الحزب الديمقراطي من جهة أخرى في ظل ما يحظى به كل من هيلاري وأوباما من شعبية في الولايات الأميركية. ورغم ان أوباما سخر من هذا الاقتراح، وخاصة عندما عرضت عليه هيلاري أن يكون مرشحا لنائب الرئيس. وقال: أنا مرشح للرئاسة وليس لمنصب نائب الرئيس، إلا ان هذا الاقتراح مازال يشكل في تقديرنا خشبة الخلاص لإنجاح حملة الديمقراطيين للوصول الى البيت الأبيض مجددا. وربما يلعب حكماء الحزب الديمقراطي والمندوبون الكبار دورا حاسما خلال مؤتمر الحزب في اقناع هيلاري وأوباما بالعمل معا لأنه بات واضحا ان إبعاد أحدهما قد يجعل المرشح الديمقراطي صيدا سهلا أمام الحملات الدعائية التي تتسم بالأساليب القذرة التي عادة ما يلجأ إليها اليمين الجمهوري المحافظ لتشويه صورة المرشحين الديمقراطيين عبر التركيز على نقاط الضعف في سيرهم الذاتية وتاريخهم الشخصي، والايحاء بضعفهم السياسي. وتزداد صعوبة مرشحي الحزب الديمقراطي في كون احدهما امرأة (هيلاري) والآخر رجل أسود من أصول افريقية، ولم يسبق لأميركا أن اختارت رئيسا امرأة أو رجلا أسود، ولذلك فهناك حاجة ماسة الى تحالف المرشحين لضمان فوز الحزب الديمقراطي في نهاية المطاف. ولكن السؤال الكبير هو: هل سينجح أوباما وهيلاري في التحالف في نهاية المطاف، بالرغم من حملات التجريح الشخصي والتشكيك في القدرات التي يشنها كل طرف ضد الآخر، التي زادت من مشاعر التنافر والعداء بينهما في الوقت الراهن؟ ثالثا: ان من أشد التطورات التي أثارت احباط المجتمع الدولي من مسار المعركة الانتخابية هو إعادة اثارة "المسألة العرقية" بصورة فجة في سياق الانتخابات، الامر الذي أعطى انطباعات وصورة سلبية عن أمريكا البلد الذي يحمل لواء الدفاع عن حقوق الانسان في العالم. لقد أعادت حملات التشهير التي تعرض لها أوباما كرجل أسود صورة أميركا المكروهة، التي مازالت تعاني ممارسات التمييز العنصري في التفكير والعقلية والممارسات الاجتماعية. وكان من المؤسف ان انطلقت مثل هذه الحملة من داخل معسكر هيلاري عندما صرحت احدى مستشاراتها وهي المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس في حملة المرشح الديمقراطي الأسبق والتر مونديل عام 1984م. وهي جيرالدين فيرارو ان باراك لو كان رجلا أبيض لما وصل الى ما وصل اليه في حملة الرئاسة الأميركية حتى الآن. فما كان من هذه المرشحة الفاشلة السابقة إلا أن اثارت جدلا حول أفكار التمييز العنصري وعقلية هيمنة الرجل الأبيض في أميركا واضطهاد السود والفئات العرقية الأخرى، وكان من المؤمل أن تسعى أميركا الى تجاوز هذه الحقبة التاريخية السلبية، وتأكيد ان الصعود الانتخابي لأوباما هو دليل على تغير المجتمع الأميركي وانماط تفكيره. وقد قاد ذلك الى ان يصوب من الآن الجمهوريون نيران أسلحتهم ضد أوباما، عبر التركيز على اسم والده المسلم حسين أوباما والتشهير به واعتبار ان انتخاب أوباما سيكون خطرا على الأمن القومي الأميركي، ومحاولة تذكير الرأي العام الأميركي بالمقارنة بين باراك حسين، وصدام حسين، مما يعكس تردي وانحدار الخطاب السياسي للأخذ بمظاهر شكلية على حساب القضايا الجوهرية، ويعيد تكريس عقلية اضطهاد السود والترويج لظاهرة "الإسلاموفوبيا"، وهي أجواء لن يستفيد منها في نهاية المطاف سوى المرشح الجمهوري الأبيض جون ماكين، وسوف تضعف حتما فرص فوز باراك أوباما. ونتيجة لذلك، فسوف يكون من المحبط للرأي العام العالمي أن يفشل الحزب الديمقراطي مرة أخرى في أن يفرز مرشحا قويا يقود الى التغيير وينهي حقبة هيمنة المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري وسياساتهم العدوانية المتغطرسة القائمة على مفاهيم "الحروب الاستباقية"، وعدم احترام سيادة الدول الأخرى، وتكريس النزعة العسكرية التدخلية مما يهدد بتقويض الاستقرار العالمي لسنوات طويلة قادمة. لذلك، يبقى الأمل الأخير في ان ينجح حكماء الحزب الديمقراطي في الحفاظ على وحدة الحزب واستثمار الحماس الهائل الذي ظهر في صفوف الناخبين خلال الحملة الانتخابية، حيث شارك من الديمقراطيين في التصويت عشرة أضعاف الناخبين الجمهوريين حتى الآن، مما يعكس رغبة عارمة في تحقيق النصر واستعادة البيت الأبيض من الجمهوريين، وذلك على نحو يمكن الديمقراطيين من التوفيق بين هيلاري وأوباما للعمل معا من أجل هزيمة المرشح الجمهوري. أما غير ذلك فليس مؤكدا إذا كانت هيلاري بمفردها قادرة على هزيمة جون ماكين ونفس الشيء بالنسبة الى اوباما. وحتى تتضح ملامح الصورة النهائية لخيارات الديمقراطيين فان العالم الخارجي سيظل ينظر بقلق الى ما ستفسر عنه الانتخابات الأميركية وسط مشاعر من الاحباط وتراجع الآمال بانتهاء الحقبة السوداء للمحافظين الجدد التي هيمنت على عهد إدارة بوش على مدى ثماني سنوات عجاف عسيرة تركت في أذهان الناس والرأي العام العالمي وخاصة في العالمين العربي والإسلامي الكثير من مشاعر المرارة والألم والغضب. عن صحيفة الوطن العمانية 1/4/2008