الدعم للمحتاج وليس للرغيف د. حازم الببلاوي شغلت مشكلة دعم الرغيف المسئولين والمواطنين لما يزيد علي أربعة عقود. وقد كانت تجربة بائسة علي كل الجبهات الحكومة تتكلف مليارات الجنيهات بما يرهق الموازنة ويزيد من اختلالها, والمستفيد الأول من هذا الدعم لم يعد الفقير او المحتاج وانما اصبح تجار الدقيق في السوق السوداء, اما الرغيف المدعوم نفسه فقد تدهورت احواله كما ونوعا حتي كاد يصبح غير صالح للاستهلاك الآدمي, وبالفعل تسرب جزء كبير منه ليصبح علفا للحيوان, وأخيرا ورغم كل هذا التردي فان الرغيف نفسه لم يعد متوافرا في الأسواق مما أدي الي ظهور الطوابير من جديد وبعضها أصبح ميدانا للشجار بل والمعارك التي يسقط فيها الضحايا بين الحين والآخر. ربما بدأنا المشكلة بخطأ لغوي لم يلبث أن تحول الي خطأ اقتصادي اكبر في فهم المشكلة وطبيعة الحل. بدأنا نسمع الحديث عن دعم رغيف العيش ومسئولية الحكومة عن هذا الدعم, رغم أن الرغيف في ذاته ليس في حاجة الي الدعم, والصحيح هو أن المواطن الفقير وحده هو الذي يحتاج الي الدعم. وهكذا وجدنا الدولة تركز جهودها علي ابقاء ثمن الرغيف منخفضا بشكل اصطناعي- ليصبح في متناول الفقير. وكانت النتيجة أن تدهورت نوعية الرغيف نفسه وكاد يختفي من الأسواق في الوقت الذي تحولت اموال الدعم لتكوين الثروات السوداء من وراء هذا الدعم الحكومي الذي انحرف عن الهدف منه كيف؟ وماذا فعلت الدولة بالضبط؟ تشتري الحكومة الدقيق بالأسعار العالمية وتبيعه للمخابز بأسعار منخفضة حتي تتمكن هذه المخابز من انتاج رغيف مدعوم ورخيص. ولكن الحكومة لم تأخذ في الاعتبار انها تتعامل في سوق, وللسوق احكام يصعب الفكاك منها يتسلم المخبز جوال الدقيق المدعوم بسعر16 جنيها كما تذكر المصادر الرسمية في حين انه يباع في السوق السوداء بسعر260 جنيها, أي أكثر من ستة عشر ضعفا, وبالتالي فان هذه العملية تؤدي الي ايجاد فرصة خيالية للربح والكسب. وبذلك تضع الحكومة كل مخبز- ومن ورائه العديد من الوسطاء- امام اختبار صعب واغراء شديد يصعب تجاهله. هل يستخدم هذا الدقيق في انتاج الخبز المدعوم وتحقيق ارباح في حدود عشرة في المائة او اكثر قليلا ام التصرف فيه او في جزء كبير منه بالبيع في السوق السوداء وتحقيق ربح فوري بأكثر من الف وخمسمائة في المائة. معضلة شديدة! ولايحتاج الأمر الي كثير من الفطنة لكي يكتشف أي مراقب انه في مثل هذه الأحوال, فالغالبية من أصحاب المخابز- ان لم يكن الجميع- لابد وأن يستسلموا لهذا الاغراء ولو جزئيا. ولايرجع الأمر فقط الي انعدام الذمة الشخصية للمخبز, وانما هناك ضغط من المنافسين من المخابز الاخري في السوق ولا أحد يقبل ان تنتعش ارباح منافسيه ويظل قابعا في مخبزه الصغير. وبطبيعة الأحوال فان هذه الأرباح الخيالية لأصحاب المخابز لابد أن تحفز العديد من العاملين في اجهزة الحكومة والمتعاملين مع هذه المخابز الي المشاركة في هذه الغنيمة, مما يؤدي الي زيادة مستوي الفساد الاداري. فعندما تبيع الحكومة الدقيق المدعوم للمخابز بأقل من عشر ثمنه في السوق, فعليها ان تتذكر انها لاتتعامل مع ملائكة, وان الاغراء عادة صعب المقاومة. وهكذا يتسرب جزء من الدقيق المخصص لخبز الفقراء الي السوق السوداء والي محلات الحلويات والمكرونة. ويبدأ الرغيف رحلته نحو النحافة كما تتدهور نوعيته. ومع هذا التردي في الرغيف المدعوم ومع انخفاض ثمنه يظهر منافس جديد للمشاركة في استهلاك هذا الخبز المدعوم, وهو مربو الطيور والحيوانات, حيث يصبح الخبر أرخص من اشكال العلف المتاح في الاسواق, مما يؤدي الي مزيد من انقاص المعروض من الخبز للاستهلاك الآدمي, وفي مثل هذه الظروف ليس غريبا ان تظهر الطوابير من جديد وينفجر بعضها في مشاجرات ومعارك بسبب نقص المعروض ورداءة نوعيته. وهكذا تتكلف الدولة مليارات الجنيهات من أجل اثراء تجار السوق السوداء وزيادة الفساد والانحراف في الادارة الحكومية, وتكون النتيجة عقاب جمهور المستهلكين برغيف تآكل حجمه وتدهورت نوعيته حتي يكاد يعافه الانسان ويزاحمه الحيوان في استهلاكه. وأخيرا يأتي النقص في المعروض من هذا الرغيف البائس مما يزيد الطين بلة, وتظهر الطوابير من جديد مع مظاهر للعنف نتيجة لنفاد الصبر. كيف وصلنا الي هذا؟ يبدو لي أن الحكومة قد انغمست في مستنقع دعم الرغيف, ونسيت أن المطلوب هو دعم المواطن وتمكينه من الحصول علي رغيف انساني بحجم ونوعية مقبولة. وبتحقيق ذلك بزيادة دخله الحقيقي وليس بتخفيض الاسعار. فماذا يمكن ان تفعل الحكومة اذن؟ تستطيع الحكومة ان تحقق أهدافها بالتركيز علي دعم المواطن المحتاجوليس دعم الرغيف اذا عرفت كيف تتعايش مع قوانين اقتصاد السوق ولم تحاول ان تتجاهلها. الدعم هو دعم الدخل الحقيقي للمواطن وليس دعم الأسعار كيف؟ نبدأ أولا بالاشارة الي أوضاع التموين في مصر. فقد عرفت مصر توزيع السلع الرئيسية بالبطاقات منذ الحرب العالمية الثانية. وقد استمر توزيع معظم السلع الأساسية للغذاء بالبطاقات حتي منتصف السبعينيات حيث بدأ يخرج العديد من السلع من هذه البطاقات. ومع ذلك فمازالت البطاقات موجودة وخاصة بالنسبة لذوي الدخل المحدود لتوزيع عدد من السلع الرئيسية مثل الزيت. وهكذا فلدينا تجربة طويلة في التوزيع بالبطاقات. وبطبيعة الأحوال فإن استخدام البطاقات لتقديم الدعم للمواطنين المحتاجين للحصول علي الخبز في ظروف مناسبة, سوف يحتاج الي إعادة نظر لتحديث هذه البطاقات, خاصة فيما يتعلق بذوي الدخول المنخفضة وتعريف احتياجاتهم من الخبز المدعوم. والسؤال كيف يتم تقديم الدعم للمواطن المحتاج بتوفير الخبز له في حدود قدراته المالية المحدودة مع عدم الخروج علي منطق اقتصاد السوق, وبالتالي عدم الوقوع في مصيدة السوق السوداء؟ هناك تجارب في دول كثيرة وناجحة إلي حد بعيد, ربما علي رأسها الولاياتالمتحدة عن طريق الطوابع التي تمثل نوعا من الدعم النقدي الذي يوفر للمستهلك القدرة علي الحصول علي السلعة بأسعار مناسبة ونوعية جيدة مع عدم الخروج علي قواعد اقتصاد السوق. كيف؟ المفروض أن تبيع الدولة الدقيق للمخابز بالأسعار الجارية دون دعم, وتحدد الدولة أسعار بيع الخبز ومواصفاته في ضوء هذه الأسعار الحقيقية وذلك لجميع المستهلكين ودون تمييز ودون أي دعم, وفي مثل هذه الحالة فإن المخابز سوف تنتج خبزا موحدا للجميع لافارق بين نوع أو آخر, وقد يصل ثمن الرغيف في هذه الحالة إلي خمسة وعشرين أو ثلاثين قرشا, وفي نفس الوقت تمنح الدولة أصحاب البطاقات بعد إجراء مراجعة شاملة وعادلة بحيث تغطي معظم ذوي الحاجة طوابع أو كوبونات تمثل الفرق بين سعر السوق والسعر الذي ترغب في أن توفر به رغيف الخبز للمواطن المحتاج, وليكن هذا السعر المناسب للمواطن المحتاج هو خمسة قروش فقط, توزع علي أصحاب البطاقات هذه الطوابع أو الكوبونات كل فترة, شهر مثلا وبما يغطي حاجة العائلة من عدد الأرغفة. ويتقدم المواطن صاحب البطاقة لشراء الخبز دافعا مبلغ خمسة قروش نقدا للرغيف, والفارق يقدمه في شكل طوابع, ويستطيع صاحب المخبز في نهاية الاسبوع استبدال ما تجمع له من طوابع والحصول علي نقود من أحد النوافذ الحكومية, مكاتب البريد مثلا, ويمكن للدولة أن تعيد النظر في عدد الطوابع وما تمثله من قيمة كل فترة وبما يراعي اعتبارات السوق وما تراه مناسبا لدعم المواطن المحتاج.. هذه الطوابع تمثل زيادة حقيقية في دخل المواطن المحتاج وبما يمكنه من شراء حاجته من الخبز, فالدولة تساعد الفقير بزيادة دخله الحقيقي وليس بتخفيض الأسعار بشكل اصطناعي. وبطبيعة الأحوال فإن مثل هذا الحل لايمكن تنفيذه بين يوم وليلة دائما يتطلب الإعداد له إعادة النظر في توزيع البطاقات والتأكد من إمكانية قدرة مكاتب البريد علي الصرف وتوفير الإمكانيات لها. كذلك فإن مثل هذا النظام لابد أن يخضع للمراجعة الدورية لمعالجة أوجه القصور فيه وتلافي العيوب. فماذا يحقق مثل هذا الدعم شبه النقدي؟ أولا سوف يقضي علي السوق السوداء في تجارة الدقيق, لأن المخابز لن تجد لها مصلحة في بيع الدقيق المخصص للخبز الي استخدامات أخري. فالسعر الذي تشتري به هو أسعار السوق وليس أمامها فرصة للكسب من السوق السوداء, وثانيا يختفي الكثير من مظاهر الفساد الحكومي بالكسب الحرام عن طريق إغماض العيون عن مخالفات التسعيرة من بعض الموظفين, ثالثا سوف يختفي التعدد في نوعية الخبز المتاح, وبوجه خاص سوف يختفي هذا الرغيف البائس المدعوم ذو الحجم النحيف والنوعية المتدهورة, فالجميع الغني والفقير سوف يستهلكون نفس الرغيف, ورابعا سوف يقتصر استخدام الخبز علي الجنس البشري بدون مشاركة الحيوان من مستهلكي العلف, وبذلك يزداد المعروض وتختفي الطوابير, ولست في حاجة إلي تأكيد أن مثل هذا النظام سوف يؤدي في الأغلب إلي تخفيض ملموس في حجم الدعم الحكومي المتخصص للخبز. وأخيرا هل يصبح هذا الحل مثاليا وبلا مشاكل؟ كلا. فلكل نظام مشاكله ولكن هذا النظام قابل للتطور والإصلاح والمراجعة الدورية. والله أعلم عن صحيفة الاهرام المصرية 30/3/2008