ما علاقة تفتيت الدول بالسلام الإقليمي؟ جميل مطر خلال زيارة لعاصمة في المشرق العربي فاجأتني البساطة التي تبادل بها بعض أفراد في النخب الإعلامية والسياسية مسألة خطر انفراط القطر العربي الحديث. ولا أعني بالبساطة إهمال المسألة وتجاهلها واستبعاد وقوعها، كما لا أعني بها ثقة النخب المبالغ بها في كفاءة وقدرة نظم الحكم واعتقاد البعض منهم أن الناس على اختلاف طبقاتهم وأمزجتهم وأعراقهم وطوائفهم تلتف في الأزمات حول شخص الزعيم أو عقيدة النظام. وإنما أعني بالبساطة تمسك هذه النخب بتحليلات متداولة عن توازن القوى الدولي والإقليمي، ومنها مثلا التحليل ذائع الصيت عن علاقة الغرب، أي الولاياتالمتحدة وأوروبا، بحكومات الدول العربية، وحاجتها الشديدة إلى وجود حكومات قوية تستطيع مواجهة قوى الإسلام السياسي الصاعد، وتضع كافة إمكاناتها في خدمة الحلف الدولي ضد الإرهاب. يعلم الغرب حسب ما يردده أصدقاء يتحدثون ببساطة عن الانفراط، أن تشجيع الانفراط سيأتي بخسارة هائلة على مصالح الغرب، وسيفقده مواقع قوة بذل الكثير في سبيل إقامتها وتحصينها. وكنت عندما أشير إلى ما حدث في العراق ويحدث في باكستان ويهدد بالحدوث في إيران وبخاصة ما وقع في البلقان وآخر حلقاتها في كوسوفو، أسمع عبارة تعودنا على تكرارها في السنوات الأخيرة، وهي أن لكل دولة أو إقليم خصوصية. وعلى هذا الأساس لا يجوز التعميم على كل المشرق العربي أو العالم الإسلامي، من تهديد بالانفراط يحدث في العراق والصومال والسودان وجزر القمر. أما لبنان فنموذج لشعب يريد لبنان ولا يستغني عن طوائفه، ولن يخسر لبنان من أجل طائفة، أو طائفة من أجل لبنان. وربما كان حب اللبناني للاثنين معا هو الذي حال دون انفراط لبنان حتى الآن. يجرنا حديث الخوف من الانفراط إلى كوسوفو. وهنا أعود إلى الحملة الدبلوماسية الهادئة والمكينة في وقت واحد، التي شنتها “إسرائيل" قبل شهور طويلة ضد منح كوسوفو استقلالها. وكانت حجتها، وهي حجة غريبة على سلوكها السياسي، أن انتزاع مقاطعة أو أرض من دولة معترف بها لإقامة دولة مستقلة عليها أمر يخالف قواعد القانون الدولي إذا وقع هذا الانتزاع خارج منظومة الأممالمتحدة، أي من دون قرار من مجلس الأمن. هذه العبارات “القانونية الجريئة" تخلو من الصدق إذا ترجمناها مصالح “إسرائيلية" متوسطة المدى. فاستقلال كوسوفو، من دون قرار من مجلس الأمن، سيكون في نظر “الإسرائيليين" سابقة خطيرة قد يستخدمها “أصدقاء" العرب الكبار ذات يوم لإعلان استقلال مناطق تسكنها غالبية عربية خاضعة للحكم “الإسرائيلي". وكنتيجة مباشرة لهذه الحملة أسرعت حكومات الغرب في تقديم الضمانات والوعود ل “إسرائيل" والتأكيد بأن الغرب لن يمس “إسرائيل" بالضرر مهما بلغ نفوذ العرب. وأعتقد أن السيدة رايس وزيرة الخارجية الأمريكية كانت تطمئن “إسرائيل" حين أعلنت أن استقلال كوسوفو “حالة خاصة"، وسيظل الاستثناء الوحيد لقاعدة وحدة الأراضي الإقليمية في ظل القانون الدولي، وأن الأقليات في كل مكان يجب ألا يعتبروا هذه الحالة سابقة للاستناد إليها أو البناء فوقها. وفي كوسوفو أيضًا يتضح الآن أن خرافات كثيرة جرى ابتكارها وتضخيمها لتبرير نية الغرب في عزلها عن الصرب ثم منحها الاستقلال. وكثيرون منا لا يعرفون أن التدخل الأمريكي لفصل كوسوفو بدأ قبل سنوات من اندلاع القتال في البلقان. فقد قامت أمريكا، عن طريق ألبانيا، بتسريب أسلحة إلى جيش تحرير كوسوفو قبل أن ترفع عنه صفة الإرهاب، وسمحت لبعض عناصر من المخابرات الأمريكية بالاتصال بقياداته في تيرانا عاصمة ألبانيا الطفل المدلل الجديد لأمريكا في جنوب أوروبا. تحمست الولاياتالمتحدة لدخول قوات الأطلسي الأراضي اليوغسلافية، وقامت الطائرات الأمريكية بقصف مدينة بلجراد بالطائرات. وكان عملاً رهيبًا بكل المقاييس وكاد يؤدي إلى أزمة دولية بين الولاياتالمتحدة والصين التي أصابت سفارتها قنابل الطائرات الأمريكية. وكانت الخسائر المادية والبشرية مروعة، وإن كانت الفظائع التي ارتكبتها قوات الصرب أفظع وأشد توحشًا. لم تكن حماسة أمريكا لضرب يوغسلافيا وتفتيتها بهدف إنساني جميل وهو حماية الأقلية المسلمة كما زعمت أجهزة الإعلام في عام ،1998 كانت الحرب الأمريكية المباشرة ضد حكومة بلجراد، واحتلال الأطلسي لمعظم أراضي البوسنة والهرسك وكوسوفو وغيرها خطوات على طريق تثبيت، ثم تنظيم وتعميق الوجود العسكري الأمريكي في إقليم كوسوفو تحديداً بسبب أهميته الاستراتيجية، ليس فقط بسبب موقعه الجغرافي، ولكن كذلك بسبب الطبيعة الديموجرافية باعتباره الإقليم الوحيد في أوروبا الذي تسكنه أغلبية مسلمة. حينذاك، أي في عام 1998 كانت الولاياتالمتحدة قد باشرت في بناء قاعدةCamp Bondstee d على مساحة تقدر بألف هكتار وعلى أرض كانت تخضع وقتها لبلجراد. بمعنى آخر تستطيع كوسوفو بالتنسيق مع حكومة الدولة الأم في ألبانيا أن تقدم للولايات المتحدة، وإن على مستوى أقل كثيرًا، الخدمات والتسهيلات اللوجيستية والمعنوية التي قدمتها تركيا، الدولة المسلمة الوحيدة في حلف الأطلسي. ولا أحد من المؤرخين أنكر الدور الهائل الذي لعبته تركيا، الدولة المسلمة، في صراع الحرب الباردة لصالح الغرب. يدور الآن حديث عن احتمال تراجع الغرب عن قراره فصل كوسوفو وربما سحب اعترافه باستقلالها. إذ يبدو أن السيدة كوندي، وزيرة خارجية أمريكا، ألمحت مؤخرًا إلى أن ثلث الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي غير متحمسة، أو لعلها رافضة، لاستقلال كوسوفو. يتصدر هذه الدول غير المتحمسة بلغاريا ومالطة وسلوفاكيا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال واليونان وجميعها، كما لاحظنا، دول تهدد سلامتها الإقليمية ووحدة أراضيها حركات انفصالية لعل أهمها على الإطلاق حركة انفصال إقليم الباسك في شمال إسبانيا، وحركة انفصال إقليم قطالونيا في شرقها وحركات ثانوية في أنحاء أخرى من إسبانيا والبرتغال. كذلك فإن اليونان لا تزال تعترض على تسمية دولة مستقلة باسم مقدونيا بينما يوجد على أراضيها مقاطعة باسم مقدونيا، وفي بلغاريا ورومانيا والمجر أقليات تتحرك وتطالب إما بحقوق أوفر أو بالانضمام إلى وطن آخر أو بالاستقلال. أذكر أن في عالمنا العربي سادت لبعض الوقت اقتناعات بأن اعتناق القومية العربية كفيل بأن يضعف النزعات الانفصالية أو يسحب منها بعض حججها. وقيل أيضًا إن الدولة الوطنية تستطيع، إن هي فعلا صارت دولة لكل المواطنين، أن تحجم القيادات الانعزالية وتمنع انفراط الدولة. وأظن أن ممارسات الدولة القومية أو الدولة الحديثة، كلها أو بعضها، لم تحسم حتى الآن صلاحية هذه الاقتناعات وكفاءتها في منع تشرذم “الدولة الحديثة" التي أقيمت بعد الحرب العالمية الأولى في أوروبا أو في الشرق الأوسط أو في إفريقيا. وأستطيع، مع ذلك، أن أفهم تشجيع بعض المنظرين الأوروبيين المتحمسين للوحدة الأوروبية النعرات “الانفصالية" في دول الاتحاد، على أمل أن يتسبب هذا الميل للانفراط في ارتباط أشد لدى هذه الأطراف الانفصالية وغيرها، بالفكرة الأوروبية. بمعنى آخر، تأمل أوروبا أنه مع كل انحسار في ولاء الشعوب للأوطان التي تشكل الاتحاد الأوروبي يزداد الأمل في أن يقوى الولاء للعقيدة الأوروبية، أي الولاء لأوروبا على حساب الولاءات الأقل شأناً. وعلى كل حال لا يبدو أن الأمور تتطور على النحو الذي تمنت الدكتورة رايس أن يكون. فاستقلال كوسوفو أصبح بالفعل سابقة تبني فوقه روسيا في صراعها الجديد لاستعادة مكانتها الدولية وتحرير مجالها الحيوي من اختراقات حلف الأطلسي. روسيا الآن تهدد بتفعيل استقلال ابخازيا واوستيا الجنوبيةالإقليمين التابعين أصلا لجورجيا ولكن تسكنهما أغلبية من الروس. واستأنف الأمريكيون استخدام إحدى أخطر أسلحة الدمار الشامل في حوزتهم في الصراع السابق مع الصين وهو سلاح التفتيت بتشجير ثورات الأقليات في التيبت والايجور في سنكنيانج. أعود إلى الصديق في العاصمة المشرقية فقط، لأؤكد له مرة ثانية أن أمر تفتيت الأمم وانفراط الدول يحتاج التعامل معه إلى ما هو أكثر وربما أعقد من البساطة السائدة في كافة أنحاء المنطقة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 27/3/2008