البحث عن تصورات بديلة في غزة محمد أبو الفضل يبدو أن الصعود إلي حافة الهاوية والهبوط منها مسألة سهلة في منطقتنا. ففي الوقت الذي ازدحمت فيه الرسائل القاتمة لعملية الشتاء الساخن في غزة, جري الكلام لاحقا عن تهدئة واعدة. وعندما اقتربت بعض الأطراف الرئيسية منها, تفجر بركان من الغيظ لدي عدد من الدوائر المختلفة, أعاد المسألة الي سيرتها الأولي من التصعيد المحكوم بقواعد لعبة متشابكة, لا أحد يضمن السيطرة عليها أو عدم انفلاتها. فهناك تصورات داخلية واقليمية تفرض التسخين وأخري توقفه أو العكس, لكنها يمكن أن تدخل منعطفا يحرق معه الأخضر واليابس. ينطوي هذا النوع من الشد والجذب علي مجموعة من المؤشرات التي تساعد علي فهم دواعي التصعيد والتطويق, أبرزها, ارتياح إسرائيل والمقاومة الفلسطينية للاحتفاظ بدرجة من التوتر توفر لكل طرف غطاء يلبي جزءا من أهدافه المرحلية, وبالتالي فقدان الارادة والحرص علي استمرار الخصام السياسي مع التهدئة, باعتبارها هدفا وليس غاية, حيث يتطلب القبول بها ترتيبات وخطوات لا يستطيع كل جانب القيام بها في الوقت الراهن علي الأقل, الذي تراجعت فيه خيارات التسوية السياسية الحقيقية وتقدمت نظيرتها العسكرية, التي تتواءم مع توجهات العناصر الفاعلة علي الجانبين, كما أن المجتمع الدولي أصبح أقل قدرة علي الاقتراب بمبادرة متوازنة, لأنها سوف تضعه أمام مسارات دقيقة, تحتم عليه التزامات يصعب علي قواه الرئيسية قبولها الآن, لذلك ارتضت الغالبية بصورة ضمنية هذه الحالة من المراوحة بين التصعيد المفاجئ والهبوط السريع. في اعتقادي يقدم هذا التوصيف تفسيرا منطقيا للصعوبات التي تعتري الجهود المصرية لتحقيق تهدئة شاملة. فمع أن الاشارات القادمة من المستوي السياسي في إسرائيل كانت تدعم عملية الوصول اليها, غير ان تلميحات اليهود باراك وزير الدفاع مشت في طريق معاكس, انطلاقا من حسابات عسكرية وسياسية ترجح كفة الابتعاد عن التهدئة, ولم تكن حركة حماس أقل سخاء في هذا الاتجاه من المزايدات والمناورات, فقد ضاعفت شروطها, مستثمرة أوجاع الصدمة التي خلفتها عملية المدرسة التلمودية في القدس. ومستفيدة من الهواجس المعنوية التي تسببها صواريخها علي بعض, المستعمرات الاسرائيلية. وراغبة في التوصل الي حزمة من التفاهمات تؤثر حصيلتها سلبيا علي هيبة الجيش الإسرائيلي وتهز بشكل أكبر صورة قيادة السلطة الوطنية وحركة فتح في الشارع الفلسطيني. وتجعل في النهاية من حماس رقما أكثر تأثيرا علي معادلات الحرب والسلام في المنطقة, حتي يمكن الاعتراف بدورها وقبول التعامل معها سياسيا. لم يحل التنافر الظاهر في التقديرات دون التقارب الواضح في الأهداف. فكل من إسرائيل وحماس يرفضان التهدئة المجانية, أي التي لا تحقق الأغراض الأساسية منها, ولأن المعادلة صفرية بمعني مكاسب طرف تمثل خسائر للطرف المقابل, سيكون من الصعوبة الوصول اليها. فالأجواء الحالية, سواء في الأراضي الفلسطينية أو إسرائيل أو حتي في المنطقة عموما تختلف عما كان سائدا في العامين اللذين حافظت خلالهما حماس علي درجة من ضبط النفس والتهدئة حيال الانتهاكات الإسرائيلية, الأمر الذي يجعل الآن القضية الفلسطينية مفتوحة علي سيناريوهات أكثر غموضا. فلعبة شد الحبل بين فتح وحماس طال أمدها وبدأت تلقي بظلالها السوداء علي كثير من الابعاد السياسية, وإسرائيل تجتهد في البحث عن تصورات تقصقص بها أجنحة حماس المسلحة, وهي إسرائيل مدعومة من جهات دولية متباينة, فعمليات الاقتحام والخروج من غزة لها أثمانها المادية والمعنوية الباهظة, واعادة احتلال القطاع كاملا له تكاليفه السياسية والانسانية والعسكرية, من هنا أضحت بعض الدوائر الإسرائيلية تفكر في مخطط يقوم علي اعادة احتلال الجزء الشمالي من غزة ورمي الكرة تماما في ملعب حماس. خطورة تدشين هذا السيناريو تكمن في أربعة جوانب: الأول, اقتلاع وترحيل خمس سكان القطاع البالغ عددهم أكثر من1.4 مليون نسمة الي الوسط والجنوب, مما يعني زيادة الأزمات الانسانية في القطاع المكتظ أصلا بالسكان. والثاني, ارتفاع حدة الضغوط الشعبية علي حماس ودفعها إما الي وقف عملياتها المسلحة نحو الأهداف الإسرائيلية أو ايجاد بدائل تخفف بها المعاناة العميقة للمواطنين. ولصعوبة هذين الخيارين, قد تقوم الحركة ببعض التصرفات التي توقعها في أخطاء قاتلة, والثالث, تهميش دور الرئيس محمود عباس. فإذا كانت اسرائيل تعتقد ان عملية نوعية كهذه تساهم في تعزيز مكانته فهي خاطئة, لان موقفه سيزداد حرجا, فلا يستطيع انتقاد حماس وهي تقاوم محرقة جديدة ولا يملك أوراقا قيمة للضغط علي اسرائيل, والرابع, محاولة تكرار مشهد العبور الجماعي الي الحدود المصرية, بسبب وقوع الفلسطينيين في غزة رهينة لسياسات حماس واجراءات إسرائيل, وهو ما تتحسب له مصر جيدا واتخذت له مجموعة من الترتيبات الصارمة, لمنع محاولات إسرائيل تصدير مشكلاتها التي خلفتها بتصرفاتها إلينا, أملا في فتح ثغرات تجدد بها طموحات قديمة وتبعد القضية عن خندقها القريب. في تقديري, هذه النوعية من الحسابات المعقدة دفعت مصر الي التحرك علي ثلاث جبهات, لوضع حواجز سياسية تفرمل بها زحف السيناريوهات الإسرائيلية, الأولي فلسطينية, وتهدف لعدم اليأس من تقريب المسافات بين فتح وحماس, من خلال حثهما علي تقديم تنازلات متبادلة, حتي يتسني الالتفاف حول رؤية وطنية خالصة, تطوي الصفحات الماضية, إنقاذا لما تبقي من مفاصل في القضية الفلسطينية, والثانية إسرائيلية فلسطينية, وتسعي لتحقيق تهدئة متكاملة, توفر الحد الأدني لمطالب وحاجات الشعب الفلسطيني, ورغم العراقيل والمطبات والمصدات, فإن الإنهاك الذي طال بعض القوي المعنية ربما يكون عنصرا كابحا للتوجهات الراغبة في رفض التهدئة, والثالثة دولية, وترغب في استثمار المخاوف التي تنتاب بعض الأوساط من شبح الانزلاق الي مجابهات اقليمية ممتدة, تخلط كثيرا من الأوراق السياسية. من هنا تجتهد إسرائيل في البحث عن طرق بديلة تمكنها من الوصول لأهدافها, بعد استنفاد الرؤي التقليدية معظم اغراضها. وإذا كانت عازمة علي احياء خطوات تمركز قواتها بكثافة في شمال غزة, فعلي حماس اعادة النظر في عدد من تقديراتها والبحث عن تصورات واقعية, لافشال تحركات إسرائيل القادمة في القطاع, خاصة ان تداعياتها يمكن ان تكرس الانفصال عن الضفة الغربية وتدخلنا في دوامة جديدة من التكهنات والتخمينات يدفع العرب جميعا ضرائبها. عن صحيفة الاهرام المصرية 19/3/2008