كلنا اقتصاديون.. دون أن ندري د. حازم الببلاوي وصلتني رسالة الكترونية من قارئة تسأل, ماذا أدرس لكي أصبح خبيرة اقتصادية, وأجبتها بالقول المفروض أن دراسة الاقتصاد تكون مفيدة في هذا المجال. والله أعلم ولا يخفي أن الإجابة تنطوي علي قدر من التردد والشك فاعتقادي الشخصي هو أن الحياة هي أعظم مدرسة لتعليم الاقتصاد, بل لعل الأمر لا يتطلب أصلا أية دراسة وإنما هي فطرة بشرية, فنحن بشكل أو بآخر اقتصاديون دون أن ندري. يقوم الاقتصاد كعلم علي عدد قليل من المبادئ أو البدهيات وكذلك بعض الفروض القليلة حول سلوك البشر. أما ما قدمه الفكر الاقتصادي من نظريات فلا يزيد عن عدد محدود من الأفكار الرئيسية الكبري, وما عدا ذلك فهو تفصيلات جزئية هنا وهناك. أما المبادئ أو البدهيات التي يقوم عليها علم الاقتصاد فهي تدور حول فكرة الندرة والمقصود بذلك هو أن حاجات الإنسان كثيرة ومتنوعة ولا نهاية لها, في حين أن الموارد المتاحة لإشباع هذه الحاجات محدودة, فضلا عن أن زيادة هذه الموارد أو زيادة كفاتها تتطلب جهدا. فالسلع والخدمات اللازمة لا توجد جاهزة في الطبيعة وإنما تتطلب استخدام الموارد المتاحة من أجل توفيرها. ونظرا لأن الموارد محدودة, فإن المشكلة الرئيسية التي تواجه الإنسان هي كيفية اختيار الحاجات الأولي بالإشباع والحديث عن الاختيار يعني التضحية ببعض الرغبات الأخري لحساب رغبات نعتقد أنها أولي بالرعاية. وهكذا نجد أن الاقتصاد يقوم في أساسه علي مفهوم التضحية, وهو ما جري الاقتصاديون علي وصفه بالتكلفة. فالاقتصاد في جوهره هو مقارنة بين التكلفة وبين المنفعة أو العائد. فلا شئ في الحياة مجانا. والقرار الاقتصادي هو في النهاية اختيار الأفضل عائدا وأقل تكلفة, وذلك في حدود الموارد المتاحة, أي في حدود الموازنة المتاحة لكل فرد أو منشأة أو دولة. أما ما قدمه الاقتصاديون من نظريات أو أفكار رئيسية فهي قليلة. ويمكن أن نعدد أهم هذه الأفكار الرئيسية بدءا بما أشار إليه آدم سميث حول أهمية تقسيم العمل والمبادلة, كذلك هناك ما عرضه ريكارديو عن ظاهرة تناقص الغلة, وما يرتبط بها من ظهور للريع. وكان له كذلك فضل اكتشاف مفهوم المزايا النسبية في تفسير المعاملات خاصة الدولية. وبعد ذلك أبرزت المدرسة النمساوية مفهوم تناقص المنفعة الحدية, ونجح مارشال الاقتصادي الانجليزي في الربط بين تناقص الغلة مع تناقص المنفعة مؤكدا أن الثمن يتحدد في السوق من خلال الطلب والعرض عند أدني منفعة حدية للمستهلكين وأعلي تكلفة حدية بين المنتجين. ويمكن أن نشير أيضا إلي ما أبرزه الاقتصادي الانجليزي الآخر كينز عن الخداع النقدي بمعني أن العمال كثيرا ما ينخدعون بالأجور النقدية بصرف النظر عن مستويات الأسعار, كما وجه كينز النظر إلي أهمية التوقعات, فالفرد لا يتخذ قراراته علي أساس ما يراه من اسعار حالية, بل يتصرف ايضا في ضوء توقعاته للأسعار المستقبلية. وهناك ايضا الاضافة المهمة التي قدمها الاقتصادي/ الرياضي فون نيومان الذي أوضح ان الكثير من المعاملات الاقتصادية لا تعدو ان تكون نوعا من المباريات او استراتيجيات الحرب, حيث حدد كل طرف استراتيجيته في ضوء ما يعتقده عن استراتيجيات الطرف الآخر. وقد نضيف إلي ما تقدم فكرة السلع العامة والتي عمقها الأمريكي سامويلسون وهي السلع التي تهم الجماعة في مجموعها ولكن أحدا لا يرغب في تحمل تكاليفها رغم أهميتها, ويرتبط بها فكرة الانتفاع المجاني وربما باستثناء هذه الأفكار, فكل ما كتب في الاقتصاد لا يعدو ان يكون تفصيلا أو تعميقا أو تطبيقا لهذه الأفكار الأساسية. لم يكن الغرض من هذا المقال عندما بدأته مناقشة علم الاقتصاد في ذاته, وانما اردت ان اركز علي فكرة محددة, وهي ان ملاحظة معظم الافراد في تصرفاتهم اليومية, وفي مختلف المجالات توضح انهم يتصرفون بمنطق اقتصادي سليم دون حاجة الي دراسة في علم الاقتصاد او قراءة مؤلفات الاقتصاديين. وسوف أقدم بعض المشاهد من الحياة العامة. وأبدأ بما رأيته من حفيدي, وكيف وأنه وعمره سنة يتصرف تلقائيا تصرفات اقتصادية رشيدة, فهو يعرف أن لا شئ في الحياة دون تضحية أو تكلفة, وبالتالي يوازن بميزان دقيق بين التكلفة والعائد. فهو يريد ان تحمله امه( ابنتي), ولكنها مشغولة, وليس لديه وسائل للضغط عليها سوي الصراخ, ورغم أن الصراخ مؤلم بالنسبة له, فإن العائد يبرر هذه التكلفة, وبعد فترة من الصراخ تضطر الأم المسكينة أن تترك عملها وتحمله. وهو بذلك يكون قد عقد صفقة اقتصادية ناجحة, قليل من الصراخ مقابل منفعة هائلة من الاسترخاء علي صدر أمه. وعندما قررت الأم انتهاج بعض الصرامة لتعويده علي مزيد من الاعتماد علي النفس بتركه يصرخ دون نتيجة, فإنه اكتشف أن جدته( زوجتي) أكثر ضعفا, فما يكاد يصرخ حتي تسرع الجدة إليه لتحمله رغم اعتراض الأم, وأدرك هذا الشيطان الصغير الفرق بين الوضعين, فهو يصرخ عندما يري جدته, ولا يفعل نفس الشئ مع أمه فهو قد اكتشف ان هناك سوقا جديدة( مع الجدة) تقدم أسعارا للخدمة أفضل( صراخ أقل) مما هو معروض في سوق الأم هذا الرضيع اقتصادي بالطبع, ولكن الأمثلة تعدد. أعرف عددا من السيدات العاملات, طبيبات ومهندسات وأساتذة جامعات وخبيرات ماليات, وعددا غير قليل منهن يجيد الطبخ وأعمال المنزل بشكل أفضل عشرات المرات ممن لديهن من شغالات, فهن من هذه الناحية افضل في أداء الخدمات المنزلية من الشغالات وبالتالي يتمتعن ازاءهن بميزة مطلقة, ولكنهن وعلي وجه القطع أفضل من الشغالات مئات المرات إن لم يكن أكثر في أمور الطب أو الهندسة أو الإدارة المالية والنتيجة انهن اخترن القيام بالعمل المهني لأنهن يتمتعن فيها بميزة نسبية, تماما كما قال ريكاردو, بل ان توزيع الأدوار بين الازواج يستند الي حد كبير الي نفس المنطق, فالزوجة نتيجة لتاريخ طويل موروث وربما صفات جينية أفضل في أمور تربية الأطفال وإدارة شئون المنزل من الزوج الذي يكون قيامه بهذه الأعمال عادة كارثيا. لذلك نجد الغالب أن يوزع العمل بين الزوجين بحيث يلتزم الزوج باكتساب الدخل من العمل خارج المنزل في حين تقوم الزوجة بتربية الأطفال وادارة شئون المنزل, وانظر ايضا الي زوجة غير متعلمة وغالبا بلا موارد مالية خاصة, فإن زوجها يعتبر رأس مالها الوحيد, وعليها بالتالي أن تحافظ علي هذا الرأسمال ولا تعرضه للغواية أو الضياع. ومن ثم فهي تقتنع بالمثال الشعبي قصص طيرك, أحسن يطير لغيرك, منتهي الحكمة, وفيما يتعلق بما يسمي بالسلع العامة, فأنت تدخل معظم العمارات فتجد المدخل وكذا الدرج وكل ما هو مرافق مشتركة في حالة مزرية من القذارة والإهمال, في حين انك بمجرد دخول الشقق السكنية في نفس العمارة, تجد النظافة والترتيب وربما الأناقة. السبب هو أن كل تكلفة تبذل لنظافة الشقة في الداخل تعود علي الساكن وأسرته, أما نظافة الأماكن المشتركة للعمارة خارج الشقة فسوف تعود علي الجميع, ولا أحد يريد أن يتحمل هذه التكلفة لحساب الآخرين, فالسلع العامة تحتاج غالبا الي تدخل السلطات العامة. وعندما اضطر الاقتصادي الأمريكي جاري بيكر إلي مخالفة قواعد المرور بترك سيارته في الممنوع, لكي يصل لامتحان طالب في الدكتوراه في الموعد المحدد.. فدفعه ذلك إلي دراسة سلوك المجرمين, وكذلك حالات التمييز العنصري, واكتشف أن معظم هذه الحالات تفسر في النهاية بأن هناك مصلحة للمجرم أو لمن يمارس التمييز العنصري أكبر مما يلحق بهما من عقاب أو جزاء. وعندما أراد جيمس بوكنان تفسير تفشي ظاهرة الإسراف وعدم الكفاءة وأحيانا الفساد في الإدارات الحكومية, وجد أن المسئول يحقق لنفسه تفشي ظاهرة الإسراف وعدم الكفاءة وأحيانا الفساد في الإدارات الحكومية, وجد أن المسئول يحقق لنفسه منفعة مباشرة من هذه الانحرافات, في حين أن التكلفة تتحملها الموازنة العامة وتوزع أعباءها علي المواطنين دافعي الضرائب, وبالتالي فإن ما يلحقه من زيادة في الأعباء كمواطن قليل لأنه فرد من عدة ملايين, أما النفع نتيجة الإسراف أو التبديد فيعود عليه مباشرة بالكامل في شكل مرتبات أكبر وسفريات ومغريات أخري. والقائمة طويلة لمثل هذه الأمثلة. هل نستخلص من ذلك أن الطبيعة البشرية للأفراد خطر دائم علي المجتمع, وأننا سوف نكون دائما ضحية لهذا السلوك الأناني للأفراد؟ الحقيقة أن الأفراد يسعون لتحقيق مصالحهم بأقل التكاليف, ولكنهم أيضا ونتيجة لهذه الرشادة في السلوك يستجيبون للحوافز أو الجزاءات التي يفرضهاالمجتمع علي أفراده لمنع هذه الانحرافات أو تشجيعهم علي تحقيق الصالح العام. فالرأسمالي سوف يستمر في جشعه إذا لم يردعه أحد, ولكنه سوف يعدل سلوكه إذا كانت هناك ضرائب عادلة وربما تصاعدية, وإذا كانت هناك قوانين صارمة لمراقبة الاحتكار, ومعاقبة الكسب غير المشروع, وبالمثل فإن الحاكم سوف يطلق العنان لتطلعاته السلطوية ولنزعاته الاستبدادية, إلا إذا وجد قيودا دستورية تحد سلطاته, وقواعد لتداول السلطة. وبالمثل فإن المجرم سوف يعيد النظر في سلوكه إذا كانت هناك عقوبات رادعة, وبشرط أن تتوافر أيضا فرص مناسبة للكسب المشروع, وهكذا. السلوك الرشيد أو الاقتصادي والمصالح الذاتية قد تكون خيرا أو وبالا علي المجتمع, وفقا لما يضعه المجتمع من قواعد للمكافأة والعقاب ولنظم الحوافز والقيود السائدة في المجتمع وهذه مسئولية المجتمع والنظام السياسي والاجتماعي. والله أعلم . عن صحيفة الاهرام المصرية 16/3/2008