المعضلة اللبنانية: الأزمة والحل مصطفى الفقي لا يزال لبنان ذلك البلد العربي الجميل الذي نباهي به ونفاخر حبيس نفق مظلم، إذ تبدو الانفراجة بعيدة رغم الجهود التي بذلتها الدول العربية وتوجتها بقرار الجامعة العربية وزيارات أمينها العام المتتالية لإحداث اختراق ما في الموقف المتجمد. ولقد تعددت رحلاته المكوكية إلى بيروت ولقاءاته بأطراف المشكلة كافة، ومع ذلك ظل الحل بعيداً والموقف لا يبشر بخروج سريع من ذلك النفق الذي دخله لبنان منذ اغتيال رفيق الحريري. ويكفي أن نتذكر أن مجلس النواب اللبناني أجّل جلساته لاختيار رئيس الجمهورية 14 مرة، ورغم التدخلات الأجنبية وفي مقدمها المحاولة الفرنسية مدعومة بجهود أوروبية أخرى ودعم أميركي ملحوظ، إلا أن الوضع لا يزال على ما هو عليه والانفراجة لا تلوح في الأفق القريب. ولعلي أتذكر هنا ما قاله الصحافي اللبناني المخضرم والسياسي المعروف غسان تويني عندما خاطب في مقال له أمين عام جامعة الدول العربية قائلاً: «إن الحل لا يوجد في بيروت وحدها ولكنه يكون هناك في دمشق أو طهران أو القدس وربما في الرياضوالقاهرة أيضاً». وهذا يعكس حجم الشعور بأن إرادة اللبنانيين ليست حرة وأن أكثر الديموقراطيات العربية ازدهاراً ليست هي الأخرى مرعية، إذ أن الساحة اللبنانية هي أرض لتصفية الحسابات بين قوى دولية وإقليمية لا يهمها أن ينهض هذا البلد الرائع بل هي تسعى إلى ضرب تجربته في التعددية وإحياء مشكلاته الطائفية والنيل من استقراره ووحدته الوطنية، وهذا يقودنا إلى تأمل الملاحظات التالية: 1- تأسس نظام الحكم في الدولة اللبنانية غداة الاستقلال وفقاً لميثاق 1943 الذي وزع المناصب السيادية العليا في البلاد بين الطوائف وجعل من لبنان دولة طائفية على نحو ينال من الديموقراطية واختيار أكثر العناصر كفاءة للمواقع المختلفة بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية وارتباطاتهم العقائدية، ثم جاء اتفاق الطائف ليعكس الواقع الجديد وليكون محصلة للحرب الأهلية التي دامت لأكثر من خمسة عشر عاماً، وهكذا يبدو واضحاً أن اعتراف لبنان بالطوائف المختلفة وترتيب وجودها وفقاً لأوضاع مسبقة هو أمر أضر كثيراً بالشخصية اللبنانية الحرة، وعندما طالب بعض الوافدين من الدول العربية إحياء تجمع منفصل لهم تحت المظلة اللبنانية تمكنت الديبلوماسية في بيروت من تعزيز وجهة نظر تؤمن بالمواطنة وتحترم حقوق الغير بشكل يدعو إلى الاحترام والعرفان. 2- إذا كنا نسلم بأن لبنان طائفي التكوين والتركيب فإن تعبير«اللبننة» أصبح مرادفاً لمفهوم الدولة الفسيفساء (الموزاييك) ولا بأس من أن يكون لبنان كذلك، ولكن الخطر الحقيقي يكمن في أن تصبح الطائفية قيداً على استقراره وتقدمه وعائقاً أمام وحدته الوطنية ودوره الإقليمي. وهذا بالفعل ما حدث في العقود الأخيرة حتى أصبح لبنان مكاناً لتصفية الحسابات واستضافة الصراعات بحيث يدفع شعبه بكل طوائفه في النهاية فاتورة الصراع العربي- الإسرائيلي والطموح الإيراني والقلق السوري والشتات الفلسطيني، وكأنما أصبح قدره أن يدفع ثمناً باهظاً لوضعه الجغرافي وتركيبته الطائفية وتعدديته الثقافية وارتباطاته التاريخية، لذلك فإنني ممن يؤمنون بأن لبنان لا يعاني من مشكلاته وحدها ولكنه يعاني بالدرجة الأولى من انعكاس مشكلات غيره عليه. 3- إن عروبة لبنان، التي يتصف بها مسيحيوه قبل مسلميه، هي علامة بارزة في سياق تطوره، فلقد حافظ الموارنة وغيرهم من مسيحيي الشام على الثقافة العربية ولمعت من بينهم أسماء بارزة في تاريخ الثقافة القومية، كما احتضنت الأديرة القديمة مخطوطات العرب بكل حفاوة وتكريم، لذلك فإن عروبة لبنان ليست قضية جدلية ولكنها تعبير عن هويته الأصلية التي تتكون من كل طوائفه وجماعاته البشرية، رغم شيوع الثقافة الفرنسية في الطبقة العليا من المجتمع اللبناني. ومع اعترافنا بخصوصية العلاقة مع فرنسا، إلا أن لبنان يبقى في النهاية مركزاً عربياً ضخماً للثقافة والنشر، للتأليف والكتابة، للأدب والصحافة، وهذه نقطة مهمة تعزز الوجود العربي أمام التيارات الوافدة عليه أو القادمة إليه كافة. 4- إن دور الولاياتالمتحدة الأميركية بدأ يتزايد في لبنان في السنوات الأخيرة من ادارة الرئيس الأميركي الأسبق دوايت ايزنهاور عندما تحدث عن نظرية الفراغ في الشرق الأوسط والإحلال الأميركي بديلاً للوجودين الفرنسي والبريطاني في المنطقة، وعندما حدثت الأزمة عند انتهاء رئاسة الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون وجاء بعده الجنرال فؤاد شهاب، فإن عبد الناصر ذاته - وفي ظل الزخم القومي الكاسح - تحدث بوضوح عن خصوصية لبنان وتفرده عربياً وقومياً، وأدى الأمر إلى إنزال عسكري أميركي على الأراضي اللبنانية في ظل دولة الوحدة بين مصر وسورية حين انقسم العالم العربي بين معسكرين أحدهما «تقدمي قومي» والثاني «رجعي غربي». وبغض النظر عن تقييمنا لكلا التيارين، فإن الأمر المؤكد هو أن لبنان كان ضحية ذلك التقسيم حتى ولدت الحرب الأهلية اللبنانية من رحم تلك الفترة القلقة. 5- عندما دخل لبنان مرحلة الحرب الأهلية فإن الكثيرين تصوروا أن ذلك يستدعي تدخل أطراف أخرى لمساعدة الشعب اللبناني على الخروج من محنته واضطلعت سورية بالجانب الأكبر من عبء الصراع ووقفت دائماً مع الطرف الأضعف حتى يقوى من أجل التوازنات المطلوبة للمحافظة على التركيبة اللبنانية التي كرسها اتفاق الطائف حتى أصبحنا أمام المعادلة الراهنة التي ما زالت تعطي سورية خصوصية في علاقاتها مع لبنان، ونحن نتذكر الآن المقولة الشهيرة للرئيس المصري الراحل أنور السادات أثناء الحرب الأهلية اللبنانية عندما نادى قائلاً: «ارفعوا أيديكم عن لبنان». 6- إن العلاقات السورية - اللبنانية لا تزال هي حجر الزاوية في استقرار لبنان وتأمين حاضره ومستقبله، إذ أن تلك العلاقة تلعب دوراً رئيسياً في التمكين لتهيئة المناخ الصحي للاستقرار وتوفير أجواء الأمن في ذلك القطر العربي الذي يتصف بالتفرد والتعددية والانفتاح والحرية، ولا شك أن علاقة دمشقببيروت يجب أن تقوم على الندية الكاملة، بما في ذلك تبادل البعثات الديبلوماسية الرسمية حتى لا يشعر أحد الطرفين بميزة أو نقص لصالح الطرف الآخر. وتستطيع سورية بهذه المناسبة أن تلعب الدور الفاعل في الخروج بلبنان من أزمته وتأكيد هويته ودعم أمنه واستقراره، فنحن مع خصوصية العلاقة بين البلدين التوأم ولكننا أيضاً مع ترشيدها والارتفاع بها من دائرة المصالح الضيقة أو المخططات الإقليمية غير الواضحة. 7- منذ اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، ونوبة من الانفجارات وسلسلة من الاغتيالات تتوالى على لبنان ولا تقف عند حد، إذ تبدو دماء الضحايا موزعة بين أطراف مختلفة، فبينما تشير أصابع الاتهام في اتجاه معين قد يكون الجاني مختفياً في زحام طرف آخر. وهذه في ظني مسألة شديدة الحساسية إذ أنه رغم صدور قرار مجلس الأمن الخاص بتشكيل محكمة دولية للبحث في قضية مصرع الحريري وهو بالمناسبة «عرّاب الطائف» الذي نقل الملف اللبناني من اليد السورية وحدها إلى تعاون مشترك بين الرياضودمشق وربما القاهرة أيضاً لخدمة ذلك الملف الشائك، إلا أننا نظن عن يقين أن موجة العنف الأخيرة في لبنان تنذر بما هو أخطر، كما أن الفراغ الدستوري الناجم عن خلو منصب رئيس الجمهورية يثير هو الآخر احتمالات مخيفة لا يتحملها ذلك البلد الصغير حجماً الكبير تأثيراً. 8- إن الأدوار العربية في حل المعضلة اللبنانية تبدو محدودة الفاعلية، إذ أن «حزب الله» مدعوم أساساً من إيران ورغم أننا لا نشكك في قوميته ولا نناقش في عروبته بل ونثمن دوره في الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن الأمر في النهاية يقتضي دوراً لأطراف غير عربية لحل مشكلة عربية ونعني بها المسألة اللبنانية. 9- لقد نظر الجميع بإكبار إلى المؤسسة العسكرية اللبنانية عندما اقتحم الجيش اللبناني مخيم نهر البارد وواجه تمرداً غامضاً انتهى بإعطاء ذلك الجيش مزيداً من الصدقية وتأكيد دوره اللبناني الحاسم عند اللزوم لذلك لجأت الديموقراطية اللبنانية في كثير من المواقف إلى المؤسسة العسكرية تطلب منها رئيس الدولة بدءاً من الجنرال فؤاد شهاب وصولاً إلى العماد ميشال سليمان. 10- إن لبنان يحتاج منا جميعاً إلى وقفة يتخلى فيها الكل عن مخططاتهم الإقليمية وأدوارهم المحلية ويعمل الجميع تحت مظلة «لبنان الواحد الموحد» بحيث تتكاتف الجهود العربية وغير العربية لخدمة ذلك الوطن المشرق الذي أنجب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وغيرهما من أساطين الفكر والثقافة العربية والأجنبية حتى يعود لبنان كسابق عهده واحة للأمان والازدهار حين كان يقصده من مصر مثلاً أمير الشعراء أحمد شوقي وكوكب الشرق أم كلثوم وموسيقار العرب محمد عبدالوهاب. إنه لبنان فيروز ووديع الصافي وغيرهما من رموز الطرب العربي. تلك هي رؤيتنا لمستقبل لبنان وأسلوب مواجهة مشكلاته الراهنة إذ أن لبنان يستحق في نظرنا أفضل بكثير مما هو عليه، إنه لبنان مركز الثقافة ومصب الحضارة ووطن المعرفة. عن صحيفة الحياة 26/2/2008