عقيدة الجيش جورج علم بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والجيش اللبناني علاقات معقدة، تختلط فيها لعبة المصالح والتوجهات، وتتمايز ما بين الود والاحترام، حيناً، والحيادية والعتب والجفاء، أحياناً. خرج الجيش من الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان سنوات طويلة ما بين (1975 - 2000) مقطّع الأوصال، مشرذماً بين طوائف ومذاهب وفئويات وعصبيات، وتمت إعادة بنائه في ظل الرعاية السورية التي بسطت نفوذها بتأييد واضح من الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي، واستمرت هذه الوتيرة حتي ابريل 2005 عندما انسحبت بفعل الضغط الدولي وبعد صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن في الأول من سبتمبر ،2004 وبعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير 2005. واعتنق الجيش خلال عملية إعادة البناء، عقيدة واضحة: اسرائيل هي العدو، وحزب الله هو مقاومة، وسوريا هي الشقيق التوأم، ويربطها بلبنان وحدة مسار ومصير. وكانت الادارة الأمريكية في هذه الأثناء تمارس ازدواجية واضحة فهي من جهة كانت تدعم الوجود السوري في لبنان، ومن جهة أخري كانت تريد الجيش مسلحاً مدرباً متناغماً مع استراتيجيتها تجاه الشرق الأوسط، وليس صنيع المخابرات السورية، وامتداداً طبيعياً للنفوذ السوري في لبنان والمنطقة. وعندما وصل قائد الجيش العماد اميل لحود الي سدة رئاسة الجمهورية، جرت محاولات أمريكية لوضع يدها علي المؤسسة العسكرية من خلال الوعود بإعادة تسليحه، وتدريب العديد من ضباطه، إلا أن شيئاً من هذا لم يحصل، لأن سوريا كانت بالمرصاد ومنعت ذلك، ثم لأن قيادة الجيش رفضت تغيير عقيدته، والاعتراف باسرائيل واعتبارها صديقة وجارة؟!. إلا أن تغيرا ملحوظاً قد طرأ علي هذا المزاج بعد أبريل ،2005 حيث انسحب الجيش السوري من لبنان، وراحت المظاهرات المليونية تخترق شوارع بيروت، تارة من قبل الموالاة، وتارة أخري من قبل المعارضة، فيما حافظ الجيش علي انضباطه ووقف علي الحياد، وتمكّن من ان يضمن السلم الأهلي بالحد الذي يملكه من السلاح والعتاد. في هذه الأثناء كانت المقاومة في ذروة تألقها بعدما تمكنت من دحر الجيش الاسرائيلي، وتحرير الجنوب، وحظيت بتأييد منقطع النظير ليس من اللبنانيين فحسب، بل من العديد من الدول العربية والإسلامية الي حد أن النظرة الي الجيش أصبحت في المرتبة الثانية، لأن الدور الذي كان ينبغي أن يلعبه في الجنوب قد خطفته منه المقاومة وحزب الله تحديداً. وأمام هذا التطور عاشت الإدارة الأمريكية صراعاً مكشوفاً، لأن ما يهمها بالدرجة الأولي هو اسرائيل ومصالحها الحيوية وسلمها الأهلي، لذلك كان من غير الوارد اطلاقاً أن تسلم بالهزيمة التي ألحقها حزب الله بالجيش الإسرائيلي المجرب والمدرب والمجهز بأحدث الأسلحة والتقنيات الأمريكية الحديثة، فسارعت الي تصنيف الحزب في خانة المنظمات الإرهابية، وسعت الي استمالة الجيش، وإحداث شرخ ما بينه وبين المقاومة والايحاء بالاستعداد لتجهيزه وتسليحه.. لكن كل تلك المحاولات قد باءت بالفشل. وكانت حرب يوليو 2006 وصمد الحزب علي مدي 33 يوماً في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية المتطورة، وصدر القرار 1701 عن مجلس الأمن، وسمح للجيش اللبناني بالانتشار علي طول الخط الأزرق لأول مرة بعد 33 عاماً من انسحابه من الجنوب. وحاولت الإدارة الأمريكية مرة جديدة من استمالته، لكن المحاولة لم تأت بالمردودات المطلوبة بعدما حافظ علي عقيدته وعلي علاقة الود والتعاون والتنسيق مع المقاومة ولو في بعض المجالات الضيقة. وشكّلت معارك مخيم نهر البارد الامتحان الأصعب للجيش في تصديه لتنظيم فتح الإسلام ، وذلك لاعتبارات منها أنها أول معركة جديّة يخوضها علي مسمع ومرأي من المقاومة وحزب الله، ومن دون تنسيق، لا بل رغما عن توجه الحزب الذي كان يرفض المواجهة ضدّ مخيم فلسطيني. وكان الامتحان الأصعب كونه يخوض مواجهة لا يمكن تنزيهها من الخلفيات الطائفية والمذهبية، ومع ذلك نجح بفضل الالتفاف اللبناني حول دوره، وأيضاً بفضل الدعم الذي قدّمته سوريا بالذخيرة والمحروقات وبعض النواحي اللوجستية. وحاولت الإدارة الأمريكية من جديد انطلاقاً من ان الجيش قد قدّم شهداء من صفوفه وانتصر علي تنظيم إرهابي، وبات مصنّفاً أمريكياً من الجيوش التي تحارب الإرهاب في الشرق الأوسط، ومع ذلك لم تمدّه بالسلاح المتطور والتدريبات اللازمة وبقيت العلاقات ملتبسة لأن المطلوب فك الارتباط مع حزب الله كتنظيم إرهابي؟!. وذهب وزير الدفاع الياس المر الي الولاياتالمتحدة ليسوّق اسم قائد الجيش العماد ميشال سليمان، علي أساس أنه مرشّح توافقي لرئاسة الجمهورية، ولكن موقف واشنطن بقي غامضاً فمن جهة يؤكد المسؤولون في الخارجية الأمريكية بأنه المرشح الذي يجب انتخابه فوراً، فيما يؤكد من جهة أخري مسؤولون آخرون في وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي بأن العماد سليمان لكي يكون مقبولاً لرئاسة الجمهورية عليه أن يفك التحالف القائم ما بين الجيش وحزب الله الإرهابي، وفق التصنيف الأمريكي ، كما عليه أن يقطع كل صلات التنسيق والتعاون مع الجيش السوري، وأن يساهم في تغيير عقيدة الجيش بحيث لا تبقي اسرائيل عدوا، بل تصبح جارة وصديقة، كما سوريا دولة جارة وشقيقة لا يربطها بلبنان أي امتيازات في العلاقات يمكن أن تتميز بها عن العلاقات اللبنانية - الاسرائيلية؟!. .. ومع وصول المبادرة العربية الي حافة الانهيار، يبقي السؤال: من يقطع الطريق علي العماد سليمان للحؤول دون وصوله الي قصر بعبدا؟: المعارضة، الموالاة، الخلافات العربية - العربية، أم الولاياتالمتحدةالأمريكية التي لا تريد رئيساً إلا وفق المعايير والمواصفات التي ترتأيها؟!. عن صحيفة الراية القطرية 13/2/2008