د.رفيق حبيب إزاء حالة الغضب التي تشهدها المجتمعات العربية والإسلامية تجاه الأنظمة الحاكمة وتجاه التدخل والعدوان الخارجي، هناك إستراتيجية مضادة تحاول تصريف هذا الغضب المجتمعي داخل المجتمعات نفسها، حتى لا يوجه لوجهته الصحيحة.
فالعديد من المؤشرات توحي بأن الأنظمة الحاكمة وأيضا القوى الخارجية المهيمنة، تحاول أن تصرف غضب الجماهير تجاهها في قضايا وموضوعات اجتماعية، حتى ينفجر هذا الغضب داخل المجتمعات، ولا يتحول إلى قوة نحو التغيير والإصلاح، ولا يتحول بالتالي لقوة تصد استبداد الأنظمة الحاكمة، وتصد أيضا العدوان الخارجي.
يظهر هذا في كثرة ما يحدث من خلافات داخل المجتمعات العربية والإسلامية، بين تياراتها الفكرية أو بين مكوناتها الاجتماعية. فأحداث الصدام الداخلي تتكرر بصورة تعبر عن تحول مسار الغضب عن وجهته.
فالمشكلات التي تقع بين الحركات الإسلامية تشير إلى تحول جانب من أزمة المجتمع مع نظامه الحاكم، إلى أزمة بين التيارات الإسلامية. وغالب التيارات الإسلامية يهدف إلى إحداث إصلاح أو تغيير في أحوال الأمة، ورغم اختلاف الحركات الإسلامية في وجهة نظرها حول كيفية تحقيق الإصلاح أو شكل المستقبل المنشود، إلا أن غالبها يرفض الأوضاع القائمة.
وبدلا من تركيز جهد الحركات الإسلامية على تغيير الواقع الراهن، نراها تصرف جزءا من جهدها في المواجهة أو الخلاف بينها وبين بعضها البعض . وقد يكون جزء من هذا الخلاف أو الاختلاف طبيعيا، ولكن الملفت للنظر هو تصاعد وبروز المواجهة بين الحركات الإسلامية، عن المواجهة بينها وبين الأنظمة الحاكمة.
وأيا كانت رؤية الحركة الإسلامية، فإن قضيتها الأساسية تتعلق بإصلاح الأوضاع السائدة في البلاد العربية والإسلامية، لذا يمثل تحول بعض طاقتها إلى المواجهة مع الحركات الإسلامية الأخرى، جزءا من حالة تصريف الموقف الرافض لأوضاع الأمة بعيدا عن هدفه الحقيقي.
وإذا تابعنا موقف الأنظمة الحاكمة من الحالة الإسلامية عامة، سنجدها تعمق التمييز بين مكوناتها وتتعامل معها بصورة توسع درجة المواجهة فيما بينها. وكذلك الحال بالنسبة للقوى الغربية المهيمنة، والتي تحاول التمييز بين الحركات الإسلامية بصورة تهدف إلى تأسيس مواقف مختلفة من تلك الحركات، تميز بين من يعتبر معتدلا في الفهم الغربي، ومن يعتبر متطرفا.
ودخول الأنظمة الحاكمة والقوى المهيمنة على مسار العلاقة بين الحركات الإسلامية، لا يهدف إلا إلى توسيع مساحة الخلاف بينها. وفي الواقع، فإن الأنظمة الحاكمة والقوى الغربية المهيمنة، ترفض كل الحركات الإسلامية، وتريد التخلص منها أو الحد من دورها، ولكنها لا تستطيع مواجهة كل الحالة الإسلامية، فتحاول الوقيعة بين مكونات تلك الحالة، حتى يمكنها محاصرتها.
والأمر لا يتوقف على تيارات الصحوة الإسلامية، بل يتعداه إلى المكونات المختلفة للمجتمع. فسياسات الأنظمة الحاكمة وأيضا الدول الغربية، توسع وتعمق الاختلافات الداخلية في المجتمع، وهي بهذا توسع من حالة المواجهة الداخلية، سواء بين المختلفين في الدين أو العرق. وإذا تابعنا سياسات الأنظمة الحاكمة، وكذلك الدول الغربية، سنجد أنها عمقت كل اختلاف داخلي، ولم تحاول علاجه. والأنظمة الحاكمة وهي تمثل السلطة السياسية المسئولة عن السلم الاجتماعي، لم تحاول معالجة القضايا الداخلية المفضية للصراع، بل عادة ما تستخدم هذه الخلافات الداخلية لتوسيع قدرتها على السيطرة على المجتمع.
وهذا ما يظهر جليا في موقف النظام الحاكم من أحداث النزاع الديني في مصر. فالنظام يحاول أن يحافظ على أمنه من خلال لعبة التوازنات بين الفئات المختلفة، حتى وإن أدى ذلك إلى تعميق الاختلاف بينها.
ويبدو أن تلك السياسة يتم توسيعها في مستوى الإقليم العربي والإسلامي، حتى باتت تمثل منهجا ثابتا. ففي كل دولة يحدث فيها قدر من الصراع الداخلي لأي سبب كان، يتم تعميق هذا الصراع، والاستفادة منه على المستوى السياسي، لتكريس بقاء النخب الحاكمة في السلطة، وتعميق سيطرتها على مجمل الأوضاع. وأصبحت الخلافات الاجتماعية، هي وسيلة تصريف الغضب الاجتماعي الموجه للنخب الحاكمة، فيتحول إلى وقود لإشعال المجتمعات من الداخل. فوقوع المجتمع في حالة صراع داخلي، تؤدي إلى إضعاف المجتمع وفشله في مواجهة السلطة الحاكمة، مما يمكن النخب الحاكمة من فرض نفوذها على مختلف الأطراف.
وهذه الإستراتيجية سيكون لها نتائج وخيمة في المستقبل. لأن المجتمع المتفجر من داخله لا يؤدي إلى حالة استقرار، بل يجعل حالة الاستقرار هشة.
والمجتمع الذي ينفجر يهدم أي سلطة تسيطر عليه، بل يمكن أن يهدم النظام السياسي كله. وأيضا يمكن أن يؤدي تفجر المجتمع من داخله إلى إسقاط الدولة نفسها. فهذا النهج يعد لعبا بالنار، ومغامرة غير محسوبة، ونتائجها خطيرة في النهاية. فإضعاف المجتمع للسيطرة عليه، تمثل نهجا استبداديا بامتياز، ولكن عندما يصبح إضعاف المجتمع معتمدا على تفجير خلافاته الداخلية أو استغلالها، فإن الأمر لا يصبح إضعافا للمجتمع بل تفجيرا له. ولا يمكن بقاء نخبة حاكمة أو بقاء نظام سياسي، إذا أنفجر المجتمع من داخله.
لهذا نرى أن محاولة تصريف الغضب الموجه للنظام السياسي الحاكم إلى داخل المجتمع، يؤدي إلى تعميق حالة الغضب وزيادة شدته. وهو ما يؤدي في النهاية إلى تحول حالة الغضب مرة أخرى تجاه النظام السياسي، ولكن بعد أن تصبح حالة الغضب مدمرة. مما ينتج عنه إلحاق تدمير واسع بالمجتمع، وفي نفس الوقت تدمير واسع أيضا في النظام السياسي القائم. وإذا ظلت عملية تحويل مسار الغضب والرفض من الوجهة السياسية إلى الوجهة الاجتماعية، فإن هذا كفيل بإحداث تحولات غير منظمة في الواقع الاجتماعي، مما يصل بنا إلى حالة فوضى واسعة.